لم يعد مشهد درّاجات التوصيل وأكياس الطعام تفصيلاً عابراً في شوارع
لبنان . خلال السنوات الأخيرة، ومع تغيّر نمط الحياة وارتفاع نسب العمل من المنزل، تحوّل "اقتصاد الدليفري" إلى واحد من أسرع القطاعات نموًا في البلاد، حتى بات كثيرون يعتبرون أن لبنان انتقل من دولة المقاهي والمطاعم التقليدية… إلى دولة التوصيل.
لم يعد التوصيل مقتصرًا على الطعام السريع. اليوم، يمكن طلب كل شيء تقريبًا. أدوية من الصيدليات، خضار وفواكه من المتاجر، بنزين للمولدات، غاز للمنازل، أدوات مدرسية، مواد تنظيف، وحتى معاملات رسمية مع خدمات متخصصة.
هذا التوسع انشأ سوقًا ضخمًا يعمل على مدار الساعة، يقيس نبض الاقتصاد اليومي ويكشف سلوك المستهلكين الذين أصبحوا يعتمدون على الهاتف أكثر من المحلات نفسها خاصة لدى جيل يفضّل الهاتف على الذهاب إلى المتجر. وبالتالي يقود الشباب تحديدًا هذا التحوّل من خلال معادلة بسيطة: ضغط معيشي + زحمة سير + وقت ضائع + خروج مكلف = دليفري أوفر وأسهل.
حتى أن ثقافة النزول إلى الدكان تراجعت أمام سهولة الضغط على زر واحد. وهذا يعكس تحوّلًا اجتماعيًا أعمق يكمن في انكماش الحياة العامة في مقابل توسّع الحياة الرقمية.
المطاعم الصغيرة والمتوسطة كانت الأكثر استفادة. فبعد أن تراجع الإقبال على الجلوس داخل المحلات، بات التوصيل شريان الحياة لها. حتى أن بعض المتاجر الناشئة قرّرت عدم فتح فروع فعلية والاكتفاء بمطبخ مركزي و"ديليفري فقط"، ما خفّض التكاليف وسمح بالمنافسة.
ووفق ما أفاد به أحد العاملين في قطاع التوصيلات لـ"
لبنان 24 "، فقد ارتفع عدد العاملين في هذا القطاع بسرعة، لأسباب واضحة أبرزها المرونة الكبيرة في الدوام، بالإضافة إلى مردود أفضل من كثير من الوظائف.
كما أن هذه الوظيفة لا تحتاج لشهادات، ومهما تدهورت الظروف العامة في البلاد فالطلب عليها مستمر.
لكن الوجه الآخر للصورة لا يزال صعبًا: ساعات عمل طويلة، مخاطر الطرق، غياب الضمانات أحيانًا، وتفاوت كبير في الأجور.
فعلى الرغم من نمو هذا القطاع، إلا أنه يواجه تحدّيات واضحة منها فوضى الأسعار بين منصّات التطبيقات التي تسبب إرباكاً بين الزبائن والمستخدمين، فضلاً عن الضغط الكبير على الطرق وما يسببه من حوادث سير. كما أنه من أبرز سلبيات هذا القطاع هو غياب قوانين تنظم القطاع بشكل جدي وشكاوى من تأخّر أو عدم دقة الطلبات.
وعلى الرغم من اعتبار البعض أن هذا التحوّل موقت يرتبط بالأزمة الاقتصادية. لكن في الواقع، ما نراه هو نمط حياة جديد من خلال اعتماد كامل على الهاتف، اقتصاد خدمات سريع، وانكماش العلاقات الاجتماعية المباشرة.
لبنان اليوم يشبه مدنًا عالمية كبرى حيث يُدار الوقت بالدقائق، رغم كل التحديات. والمفارقة أن أزمة أنهكت البلاد، دفعت أيضًا إلى نشوء قطاع مرن يشتغل على التكنولوجيا والسرعة.