حين تصبح الحرب مشروعًا سياسيًّا، والدماء وسيلة حكمٍ وبقاء!
الشيخ صفوت فريج
رئيس الحركة الإسلاميّة
الحرب، في منطق السياسة الرشيدة، وسيلة اضطرارية لتحقيق غاية، تلجأ إليها الأمم والدول والشعوب حين تغيب البدائل: ردع عدوان، حماية أرض أو استعادة حق. غير أنّ المأساة تبدأ حين تتحوّل الحرب من وسيلة إلى غاية بحدّ ذاتها، ومن أداة إلى مشروع قائم بذاته. عندها تفقد المعركة معناها، ويتحوّل الدم من ثمنٍ للكرامة والحقوق، إلى وقود لسلطة باطِشة، لا تبحث عن نصرٍ ولا عدل، بل عن البقاء مهما غلا الثمن.
غزّة اليوم تجسّد مثالًا حيًّا لهذه المأساة، وبأوضح صورها وأقساها. الحرب المستمرّة منذ شهور لم تعد مرتبِطة بهدف عسكري أو سياسي واضح، بل تحوّلت في أيدي حكومة نتنياهو إلى "استراتيجيّة بقاء". نتنياهو الغارق في أزماته الداخليّة وملفّات فساده وإفساده، لم يجد أهون من الحرب ليهرب من المحاسَبة ويؤجّل سقوطه. لهذا لم يعد وقف إطلاق النار خيارًا واردًا في حساباته، بل خطرًا يهدّد مستقبله السياسي القائم على الدم والدمار، {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}، صدق الله العظيم.
في المقابل، فإنّ ملف تبادل الأسرى، والّذي يُفترَض أن يبقى إنسانيًّا خالصًا، قد انزلق إلى خانة المساومات. أصبح ورقة ضاغطة تتقاذفها الأطراف، تُدار بروحٍ حسابيّة باردة كما لو كانت رقعة شطرنج، فيما ينهش القلق أعصاب العائلات الّتي طالما انتظرت عودة أبنائها.
أمّا ملفّ إدخال المساعدات الإنسانيّة، والّذي يُفترَض أن يكون شريان حياةٍ لنحو مليوني إنسان محاصَر، فقد جرى ابتذاله وتحويله إلى جزءٍ من الصفقة. يُفتَح الطريق أو يُغلَق لا وفقًا لحاجة الجائع والعليل، بل وفقًا لمزاج المفاوِض وميل كفّة ميزان الضغط السياسي. هكذا تنقلب حياة الناس وكرامتهم إلى بندٍ في ورقة التفاوض، بدل أن تكون المنطلق الأخلاقي لأيّ حلّ أو تفاهم.
المأساة الحقيقيّة أنّ استمرار الحرب أصبح مصلحة ضيّقة مرتبطة ببقاء الرجل الواحد في الحكم. نتنياهو يحتاج الحرب ليواصل حكمه وينقذ نفسه من السجن، بينما غزّة تتحوّل بيتًا بيتًا إلى ركامٍ وأنقاض. ولا تنحصر المأساة هناك على جبهات القتال، بل تصل للمستشفيات المنهكة، وطوابير الماء والخبز!!
أخطر ما في هذا المشهد أنّ الحرب فقدت بوصلتها، وابتعدت عن غايتها حين تحوّلت إلى غايةٍ بحدّ ذاتها. في مثل هذه الحال، تسقط السياسة، ويتلاشى القانون الدولي، وتُطوى صفحة الإنسانيّة. في مثل هذه الحال، تنهار القِيَم واحدةً تلو الأخرى، ولا يبقى في الميدان سوى لغة الدم، يتدفّق وحيدًا وسط صمتٍ إسلامي عروبي معيب.
ومن غرائب هذا المشهد أنّ نتنياهو يستطيع بلسانه الدعائي أن يُضلّل مجتمعه، ويسوّق نصرَيْن متناقضَيْن في آنٍ واحد: يخرج ليعلن أنّه "أخضع المقاومة" و"قتل قادتها"، ويقدّم ذلك على أنّه نصرٌ سياسي وعسكري مكتمَل، وفي اللحظة ذاتها يمدّ عمر الحرب رافعًا شعارًا مضادًّا: "لن نتوقّف حتّى نقضي على المقاومة"! هكذا يُبقي بوّابة النصر مفتوحة على روايتَيْن متعاكسَتَيْن، يبيع الأولى لجمهوره المتعطّش للدم والانتقام، ويحتفظ بالأخرى ذريعةً ليبرّر استمرار القصف والدمار بلا سقفٍ زمني.
هذه الازدواجيّة ليست جديدة في تاريخ الطغاة، فقد كان فرعون من قبل يقول لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، ليبرّر بطشه واستمراره في السلطة، بينما يغرقهم في الدماء والدمار.
ومع ذلك، فإنّ دروس التاريخ تقول بوضوح: لا حرب تدوم إلى الأبد، ولا قوّة تستطيع أن تبني بقاءها فوق ركام الأبرياء إلى الأبد، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. مهما طالت الحروب، لا بدّ وأن تنكسر في النهاية أمام صمود الشعوب، وأمام حاجة العالم الحتميّة إلى السلام. غزّة -رغم جراحها-ستظل شاهدًا على أنّ الدم لا يُهزَم، وأنّ إرادة الحياة أقوى من كلّ آلة حرب. لا بدّ لسيف الظالم المعتدي أن يُكسَر، ولا بدّ أن تُزهِر حياة جديدة من تحت الركام. الحقّ لا يموت، والشعوب حين تتمسّك بجذورها، تكتب مستقبلها بأحرف التمكين والصمود.