كشفت دراسة جديدة نشرت في 16 ديسمبر/كانون الأول الجاري في مجلة "رويال سوسايتي أوبن ساينس" عن سلوك غير مسبوق في عالم الحشرات.
ويبين هذا السلوك نحلا قديما وقد استخدم تجاويف الأسنان الفارغة في عظام الحيوانات أعشاشا لوضع بيضه، قبل نحو 20 ألف عام، في أول دليل معروف على استخدام النحل لعظام الحيوانات كمواقع للتعشيش.
تعود القصة إلى كهف في جزيرة "هيسبانيولا" في البحر الكاريبي، التي تضم اليوم كلا من هاييتي وجمهورية الدومينيكان؛ فقبل آلاف السنين، كان هذا الكهف مأوى لعائلة من طيور البوم.
اعتادت طيور البوم تلك أن تبتلع فرائسها كاملة ثم تتقيأ لاحقا كتلا تحتوي على عظام الحيوانات التي اصطادتها؛ ومع تراكم هذه البقايا على أرض الكهف، وجد النحل فرصة غير متوقعة للاستفادة منها.
يقول الباحث الرئيسي للدراسة "لازارو فينيولا لوبيز" -الباحث في متحف فيلد في شيكاغو- إن جزيرة هيسبانيولا مليئة بالكهوف الجيرية، مضيفا أن في بعض المناطق، يمكن العثور على حفرة انهيارية كل 100 متر تقريبا؛ ومن ثم، وفرت هذه الطبيعة الجيولوجية بيئة مثالية لحفظ السجلات الأحفورية عبر آلاف السنين.
ويوضح "لوبيز"، في تصريحات لـ"الجزيرة.نت"، أن الفريق حدد أحد الكهوف غير العميقة في جنوب الجزيرة كموقع غني بالأحافير. ويشير الباحث إلى أنه يمكن ملاحظة عيون العناكب الضخمة تلمع في الظلام، عند دخول الكهف ليلا، لكن بعد السير عبر نفق طوله نحو 10 أمتار تحت الأرض، تبدأ الأحافير بالظهور.
وجد الباحثون طبقات متتالية من الأحافير تفصل بينها طبقات كربونية تشكلت خلال فترات مطيرة في الماضي السحيق، وضمت البقايا عظام قوارض وسحالٍ وطيور وزواحف، تمثل أكثر من 50 نوعا مختلفا. وبحسب الباحثين، فإن هذا التنوع يشير إلى أن الكهف كان مأوى للبوم عبر أجيال طويلة، ربما لمئات أو آلاف السنين.
وفي أثناء تنظيف عظام الثدييات التي كانت فرائس للبوم، لاحظ "لوبيز" شيئا غريبا في تجاويف الأسنان الفارغة لبعض الفكوك، حيث بدت الرواسب داخل هذه التجاويف ملساء ومقعرة الشكل، على نحو لا يشبه تراكم الرواسب العشوائي.
ويقول الباحث: "كان شكلها يذكرني بأعشاش الدبابير التي رأيتها من قبل، عاد هذا المشهد بذاكرتي إلى تجربة سابقة عندما شاهدت، خلال عملي الميداني في ولاية مونتانا الأميركية، بقايا أعشاش دبابير متحجرة، وهي غرف صغيرة من الطين الجاف كانت اليرقات تتحول داخلها إلى حشرات بالغة. التشابه بين تلك الأعشاش والرواسب داخل الأسنان كان لافتا".
وللتأكد من الفرضية، لجأ الباحثون إلى التصوير المقطعي ثلاثي الأبعاد لعظام الفك، ما سمح لهم بدراسة البنية الداخلية للرواسب دون إتلاف الأحافير.
وأظهرت الصور أن هذه التراكيب تشبه إلى حد كبير أعشاش الطين التي تبنيها بعض أنواع النحل المعاصر. كما عثر الباحثون داخل بعض الأعشاش على حبيبات لقاح متحجرة، يرجح أن إناث النحل خزّنتها غذاء ليرقاتها.
ويعتقد الفريق أن النحل خلط لعابه بالتراب لصناعة هذه الأعشاش الصغيرة، التي لا يتجاوز حجم الواحد منها ممحاة قلم رصاص، كما يقترحون أن بناء الأعشاش داخل العظام كان وسيلة لحماية البيض من مفترسات مثل الدبابير.
ورغم عدم العثور على بقايا مباشرة للنحل نفسه، وهو أمر متوقع بسبب المناخ الحار والرطب داخل الكهف، تمكن الباحثون من تصنيف هذه الأعشاش الأحفورية كنوع جديد أطلق عليه اسم "أونسيدم ألمونتي"، تكريما لـ"خوان ألمونتي ميلان" الذي اكتشف الموقع.
ويشير المؤلف الرئيسي للدراسة إلى أن النحل الذي بنى هذه الأعشاش قد يكون من نوع لا يزال موجودا اليوم، أو ربما من نوع انقرض مع العديد من الحيوانات الأخرى التي عثر على عظامها في الكهف.
ويضيف: "نحن نعرف القليل جدا عن بيئة النحل في هذه الجزر، ما يجعل هذا الاكتشاف مهما لفهم النظم البيئية القديمة".
ويرى الباحثون أن هذا السلوك غير المسبوق نتج عن تضافر عدة عوامل، منها قلة التربة فوق الصخور الجيرية، ما دفع النحل للبحث عن تجاويف بديلة، إضافة إلى وفرة العظام التي وفرها البوم عبر آلاف السنين.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة