في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1902، وصل المحققون إلى مسرح جريمة مروعة في باريس، حيث قتل رجل يدعى جوزيف ريبل في مكان عمله دون وجود شهود عيان.
لم يكن لدى الضباط الكثير ليعملوا عليه حتى اكتشفوا شظية زجاج مكسور، عليها عدة بصمات أصابع ملطخة بالدماء.
قام محقق بالبحث يدويا في سجلات بصمات الأصابع في مركز الشرطة، وعثر في النهاية على تطابق، فقد أُلقي القبض على"هنري شيفر" بتهمة السرقة في العام السابق، واعترف لاحقا بجريمة القتل.
كانت هذه هي المرة الأولى في أوروبا التي يتمكن فيها المحققون من حل لغز جريمة باستخدام بصمات الأصابع وحدها. وبعد أكثر من قرن، لا تزال بصمات الأصابع عاملا حاسما في القضايا الجنائية، ومن أكثر أنواع الأدلة شيوعا في المحاكم الجنائية.
ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، أُثيرت شكوك حول موثوقية هذا النوع من الأدلة، وأثار دعاة العدالة الجنائية مخاوف بشأن إمكانية إصدار أحكام باطلة بناء على بصمات الأصابع، فإلى أي مدى يمكن الاعتماد المطلق عليها في إصدار الأحكام؟
يولد البشر بأنماط من النتوءات البارزة والأخاديد الغائرة، ليس فقط على أصابعهم، بل أيضا على طول أيديهم وأقدامهم، تساعد هذه الملامح على توفير قبضة أقوى، خاصة على الأسطح المبللة، وتزيد من حساسية اللمس.
يعتقد العديد من الخبراء أن لكل شخص بصمة إصبع فريدة، وأنه من غير المحتمل أن تكون أي بصمتي إصبع، سواء في الماضي أو الحاضر، متطابقتين تماما، بل إنهما مختلفتان حتى بين التوائم المتطابقة، ويتأثر هذا الاختلاف بالعوامل الوراثية والبيئية.
من المرجح أن الناس عرفوا طبيعة بصمات الأصابع منذ قرون، فقد كان قادة الحضارات القديمة كالبابلية والصينية يطبعون البصمات على ألواح طينية وأختام شمعية، مستخدمينها كتوقيع أو علامة شخصية، ولكن لم تصبح بصمات الأصابع أداة فعّالة لمكافحة الجريمة، ولم يبدأ العلماء بدراسة خصائصها المختلفة وتصنيفها إلا في أواخر القرن الـ19.
كان العالم البريطاني السير فرانسيس غالتون أول من وضع دراسة بصمات الأصابع على أسس علمية، ممهدا بذلك الطريق لاستخدامها في القضايا الجنائية، مع أنه لم يكن أول من اقترح استخدامها لتحديد الهوية، فقد نشر الطبيب هنري فولز مقالا عام 1880 في مجلة "نيتشر" اقترح فيها استعمال بصمة الإصبع كوسيلة للتعرف على المجرمين.
درس غالتون آلاف بصمات الأصابع، وأثبت أنه لا يوجد بصمات متطابقة تماما، حتى التوأمين المتشابهين يملكان خطوطا دقيقة بارزة وتموجات ملتوية مختلفة، وابتكر نظاما مفصلا لتصنيف بصمات الأصابع، مما أتاح تنظيمها ومقارنتها بكفاءة.
غيّر عمل غالتون الرائد علم الطب الشرعي إلى الأبد، والأهم من ذلك كله، أن دعمه الواسع لاستخدام بصمات الأصابع أسهم في إقناع الجمهور المتشكك بإمكانية استخدامها بشكل موثوق لتحديد الهوية الشخصية، حتى وفرت سجلا دائما وثابتا وفريدا لا يزال يساعد في حل الألغاز حتى يومنا هذا.
فجأة، أصبح لدى جهات إنفاذ القانون حول العالم طريقة جديدة وموثوقة لتحديد هوية المجرمين وحل القضايا التي بدت مستحيلة في السابق، ولم يعد بإمكان المشتبه بهم الاختفاء ببساطة بين الحشود، على أمل الهروب من العدالة دون أن يتركوا أثرا.
بحلول أوائل القرن الـ20، بدأ المدَّعون العامون باستخدام بصمات الأصابع في المحاكم، مما غيّر إلى الأبد طريقة تعامل المحققين مع مسارح الجريمة وتحليلها.
بالانتقال سريعا إلى يومنا هذا، نجد أن تقنية بصمات الأصابع قطعت شوطا طويلا منذ أن كانت مجرد عدسات مكبرة ووسادات ختم الحبر.
يبدأ المحققون اليوم غالبا بالبحث عن بصمات مرئية تشمل بصمات ظاهرة تتشكل عند انتقال الدم أو الأوساخ أو الحبر أو الطلاء من إصبع إلى سطح ما، وبصمات الإصبع البلاستيكية، التي تُعرف أيضا باسم "البصمات المقولبة"، وهي بصمات تظهر على الأسطح الناعمة والمرنة مثل الطين أو الشمع أو حتى على سياج مطلي حديثا.
ومع ذلك، فإن معظم بصمات الأصابع غير مرئية للعين المجردة. تُسمى هذه "البصمات الكامنة أو المستترة"، وتتشكل نتيجة إفرازات العرق أو زيوت الجسم الطبيعية والبروتينات والأملاح التي تخلفها أنماط النتوءات على مجموعة متنوعة من الأسطح.
ورغم أنها الأكثر انتشارا، فهي ليست مرئية بسهولة، وغالبا ما يتطلب اكتشافها استخدام مساحيق بصمات الأصابع أو مصادر ضوء بديلة أو الكواشف الكيميائية المطوَّرة مثل "النينهيدرين"، الذي يتفاعل مع البروتينات التي تتركها الأصابع.
يواصل علماء الطب الشرعي تطوير أدوات أكثر حساسية ودقة للأسطح. على سبيل المثال، تستخدم إحدى التقنيات الجنائية التجريبية شحنة كهربائية لتصوير بصمات الأصابع على الأسطح المعدنية، حتى بعد مسحها. تستغل هذه التقنية التآكل الذي تُخلفه أملاح بصمات الأصابع على المعدن.
بمجرد جمع المحققين للبصمات، يبدؤون بمطابقتها مع المشتبه بهم المحتملين. في بعض الحالات، يستخدم المحققون أنظمة حوسبة آلية تُضيّق نطاق التطابقات المحتملة الموجودة في قواعد بيانات بصمات الأصابع.
ثم يقارن الخبراء المعتمدون تفاصيل بصمات الأصابع البسيطة، مثل كيفية تفرّع وتقاطع النتوءات وتباعد مسام الزيت، ويُفترض التحقق من أي نتيجة من قِبل خبير ثانٍ قبل تسليم المعلومات إلى وزارة العدل.
يقول أستاذ علم الجريمة والقانون والمجتمع في جامعة كاليفورنيا، سايمون كول "أحدثت هذه التقنيات والأنظمة الرقمية نقلة نوعية، حيث تتيح للمحققين مقارنة ملايين بصمات الأصابع في ثوانٍ، وساعدت في حل جرائم لا حصر لها، من السرقات إلى جرائم القتل.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت "سرعة تحديد الهوية أمر بالغ الأهمية، فهي تُمكّن الشرطة من تحديد هوية المشتبه بهم بسرعة، وتعقب المجرمين قبل اختفائهم".
إن حقيقة كون أنماط بصمات الأصابع فريدة من نوعها لكل فرد يجعلها أدلة قوية بشكل خاص في القضايا الجنائية. ومع ذلك، فإنّ النظام ليس معصوما من الخطأ.
في الواقع، حتى أكثر تقنيات الطب الشرعي تقدما قد تكون عُرضة للخطأ البشري أو التحيز أو حتى سوء التفسير.
ووفقا لـ"كول" الذي عمل كخبير استشاري وشاهد على صحة أدلة بصمات الأصابع، فإن "تحليل بصمات الأصابع لا يقتصر على الآلات فحسب، بل يشمل أيضا الحكم البشري، فغالبا ما يضطر الخبراء إلى فحص بصمات جزئية أو ملطخة أو مشوهة أو متداخلة مع بصمات أخرى، مما يزيد من صعوبة المطابقة، ويضيف "قد يلعب الضغط لحل قضية، أو حتى خلل في البرامج دورا في ذلك".
في هذه الحالات، قد يتوصل خبراء مختلفون إلى استنتاجات مختلفة حول مدى تطابق نفس البصمة غير الواضحة. هذا يبرز الطبيعة الذاتية لتحليل بصمات الأصابع، خاصة عند التعامل مع أدلة غير مثالية.
في عام 2004، وقع تفجير مروع في قطار مدريد بإسبانيا. شاهد العالم بصدمة المحققين وهم يُسارعون للعثور على المسؤولين عن الهجوم. اعتقل مكتب التحقيقات الفدرالي محاميا أميركيا يُدعى براندون مايفيلد، مُقتنعا بأنه عثر على المشتبه به بناء على أدلة بصمات الأصابع.
بدا الدليل قاطعا للوهلة الأولى، حيث تطابقت بصمة إصبعه مع بصمة أخرى عُثر عليها على حقيبة تحتوي على أجهزة تفجير مرتبطة بالواقعة. ومع ذلك، كانت هناك مشكلة واحدة فقط، وهي أن مايفيلد بريء. لم تكن له أي علاقة بالهجوم، ولم يزر إسبانيا قط، ومع ذلك انقلبت حياته رأسا على عقب. كيف يُمكن لبصمة إصبع، يُفترض أنها فريدة، أن تُؤدي إلى خطأ فادح كهذا؟
أُطلق سراح مايفيلد في النهاية، لكن قصته تُذكر بأن الأدلة مهما بدت مقنعة قد تكون مُضللة، وأنه حتى مع التكنولوجيا المتقدمة، لا يخلو الأمر من الأخطاء، وقد أثبتت قضية مايفيلد وقوع خطأ بشري.
يقول كول "لقد علّمتنا قضية مايفيلد دروسا قيّمة: الأخطاء واردة حتى مع أفضل النوايا وأكثر الأدوات تطورا، ولا ينبغي أخذ الأدلة بظاهرها، فكل دليل يستحق إعادة النظر فيه ورأيا ثانيا، ومن الضروري مراعاة جميع العوامل، والتشكيك في الافتراضات، والعمل كفريق واحد لكشف الحقيقة كاملة".
كثيرا ما يُعتمد على شهادة "خبراء" تحليل بصمات الأصابع في المحاكمات الجنائية، وهذا غالبا ما يُعطي هيئات المحلفين فكرة أن شهادتهم موثوقة تماما، وأن البصمة لا تكذب، دون مراعاة احتمالية الخطأ.
حتى لو لم يدّعِ محلل بصمات الأصابع أن تحديد هوية المشتبه به من خلال بصمة الإصبع دقيق بنسبة 100%، فإنه غالبا ما يُلمّح إلى أن هذا الدليل معصوم من الخطأ أو يُصرّح بأنه متأكد من هوية الشخص بناء على بصمات الأصابع الكامنة في مسرح الجريمة.
ورغم شيوع استخدام بصمات الأصابع كأدوات في التحقيق في الجرائم من قِبل جهات إنفاذ القانون، فإن تحديد هوية الشخص من خلال تحليل بصمات الأصابع ليس موثوقا تماما، وقد يؤدي استخدامه دون أي أدلة داعمة أخرى إلى إدانات خاطئة.
وتُشير الدراسات إلى أنه رغم صحة تحليل بصمات الأصابع بشكل عام فإنه ليس دقيقا بنسبة 100%، وهذا يعني أنه لا ينبغي الاعتماد عليه في القضايا الجنائية دون مراعاة معدلات الخطأ المحتملة.
وجدت إحدى دراسات تحليل بصمات الأصابع التي أجراها مكتب التحقيقات الفدرالي عام 2011 أن خبراء بصمات الأصابع يخطئون في تحديد بصمتي إصبعين مختلفتين على أنهما متطابقتان في 0.1% من الحالات.
مع أن هذا الرقم قد يبدو ضئيلا، إلا أن المخاطر كبيرة بالنسبة للمتهم، ويبرز احتمالية حدوث أخطاء في تحليل بصمات الأصابع، خاصة في الحالات التي تكون فيها جودة البصمات رديئة أو يكون فيها خطأ بشري كبير.
وكانت دراسة أجريت على مختبر جرائم تابع لشرطة فلوريدا أكثر إثارة للقلق، حيث وجدت أن أخطاء النتائج الإيجابية الكاذبة تحدث في حالة واحدة من كل 18 حالة.
هذا يعني أنَّ بصمة إصبع قد تطابقت بشكل خاطئ مع مشتبه به في عدد من الحالات، مما يشير إلى وجود مشكلة مُحتملة في موثوقية أدلة بصمات الأصابع في ذلك المختبر.
تبين هذه النتائج أن العلم الذي ساعد في كثير من الحالات على كشف الحقيقة قد يتعرض للتكذيب بسبب خطأ مهني، وتطرح تساؤلا مهما: إن كان هناك عدد كبير من الخبراء الذين قد يخطئون، فما هو عدد الأبرياء الذين عانوا بسبب خطأ في تحديد البصمات والتعرف إليها؟
يقول كول، وهو مؤلف كتاب "هويات المشتبه بهم: تاريخ بصمات الأصابع والتعرف على المجرمين" في حديثه مع الجزيرة نت: "عندما تبدأ بكشف الأمور فإنك تطرح على نفسك سؤالا، وهو كم من القضايا شابتها أخطاء؟ كم من الأشخاص اعترفوا بذنب لم يرتكبوه، لأن محاميهم قال لهم إنه لا أمل لهم بسبب تطابق البصمات؟ كم من المتهمين صدرت بحقهم أحكام جنائية بسبب محلفين ظنوا أنه لا مجال لخطأ تحليل بصمات الأصابع".
ونظرا لاحتمالية حدوث أخطاء عند تحليل بصمات الأصابع، أصبح ممكنا التشكيك في دليل البصمة في المحاكم، ويؤكد العديد من المحققين على أنه لا ينبغي أن يكون هذا النوع من الأدلة العامل الوحيد المستخدم لتحديد ما إذا كان المتهم مذنبا.
لهذه الأسباب، يواصل خبراء الطب الشرعي العمل على تحسين وتوحيد عملية بصمات الأصابع. وفي هذا الصدد، قد يُغير الذكاء الاصطناعي قواعد اللعبة من جديد.
تستطيع خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل بصمات الأصابع بسرعة ودقة مذهلتين، حتى أنها تستطيع اكتشاف أنماط دقيقة قد لا تراها العين البشرية.
ولكن حتى الذكاء الاصطناعي ليس مثاليا. كأي تقنية، قد يرتكب أخطاء، وهناك أيضا خطر تسلل التحيز إلى الخوارزميات. إذا كانت البيانات المستخدمة لتدريب الذكاء الاصطناعي معيبة، فقد تكون النتائج غير موثوقة.
يقول كول "لا يُمكننا الاعتماد على التكنولوجيا وحدها. نحن بحاجةٍ إلى خبرة بشرية، وتحليلٍ دقيقٍ، والتزام بالتدقيق في كل التفاصيل، حتى عندما تبدو الأدلة واضحة، فإن جرعة صحية من الشك ضرورية".
في نهاية المطاف، لا شك في أن تقنية التعرف على البصمات ستبقى أداة مهمة في التحقيقات الجنائية، مما سيمكن الشرطة من تقديم أدلة مادية تربط المتهم بمكان الجريمة إلا إنه على الرغم من وجود التقنيات المتطورة في القرن الـ21، فإن احتمال الخطأ -فيما قد يبدو دليلا جنائيا تاما- موجود دائما.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة