منذ بداية ديسمبر/كانون الأول 2025 تسارعت التحركات العسكرية للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا نحو مناطق في حضرموت والمهرة، بما حمله ذلك من إزاحة لقوى محسوبة على السعودية وبما فتح الباب على مواجهة غير معلنة بين راعيين إقليميين يفترض أنهما على ضفة واحدة.
ما كان يُدار بالوساطات والاتصالات الخلفية خرج هذه المرة إلى العلن، لا عبر تسريبات فقط، بل عبر تصريحات رسمية مباشرة من قيادة ما يسمى بالتحالف والقيادة العسكرية السعودية، وعبر تقارير دولية تحدثت عن ضربات جوية سعودية ضد قوات حليفة للإمارات في حضرموت.
اللافت أن “لغة التهدئة” لم تعد تكفي لتغطية حجم الشرخ. ففي 27 ديسمبر/كانون الأول 2025 نقلت رويترز أن التحالف الذي تقوده السعودية حذّر المجلس الانتقالي من أي تحركات عسكرية في حضرموت تخالف جهود خفض التصعيد، وأن التحذير جاء بعد طلب من رئيس مجلس القيادة الرئاسي المدعو رشاد العليمي باتخاذ إجراءات فورية لحماية المدنيين مما وصفه بانتهاكات جسيمة تُنسب لعناصر تابعة للانتقالي.
هذا التفصيل مهم لأنه يقدّم الخلاف بوصفه “ملف حماية مدنيين” و”حماية سلطة محلية” وليس مجرد تنافس نفوذ، وهي صياغة تُستخدم عادة عندما يريد طرفٌ ما تبرير الانتقال من التحذير السياسي إلى الإجراء العسكري.
في المسار نفسه، جاءت تصريحات الناطق باسم التحالف، العميد تركي المالكي، بلهجة تقارب “الإعلان المسبق” عن الردع: تهديد باتخاذ عمل فوري ضد ما يُعد تقويضًا لخفض التصعيد، واتهامات مباشرة للانتقالي بارتكاب انتهاكات، في وقت تتحدث فيه تقارير عن أن الانتقالي يرفض الانسحاب من المواقع التي دخلها في حضرموت والمهرة.
المقصود هنا ليس فقط مضمون الكلام، وانما كونه صدر من منصة “التحالف” التي كان من المفترض أنها مظلة جامعة لحلفاء متفرقين؛ وعندما تتحول المظلة إلى عصا في مواجهة أحد أجنحتها، فذلك يعني أن الخلاف بلغ حدًا لا يمكن إدارته بالصمت.
الأكثر دلالة هو ما صدر عن وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان رويترز نقلت عنه دعوة المجلس الانتقالي إلى احترام جهود الوساطة، وخفض التصعيد، وتسليم السيطرة للسلطات المحلية، معه تأكيد أن “القضية الجنوبية” تُحل بالحوار والتوافق لا بالمغامرة العسكرية
وهذا إقرار بأن ما يجري يهدد المسار الذي ترسمه الرياض منذ هدنة 2022: خروجٌ تدريجي من حرب مكلفة، وترتيبات جنوبية لا تنفجر في وجه التسوية مع صنعاء، وتوازنات تُبقي للمملكة نفوذًا عمليًا في خاصرتها اليمنية. عندما يخرج وزير الدفاع ويخاطب الانتقالي بهذه الصراحة، فذلك يشي بأن الرياض ترى في تحرك الانتقالي “تحديًا مباشرًا” لخطتها، وليس مجرد خلاف بين شركاء.
في المقابل، يقدّم المجلس الانتقالي رواية مضادة مفادها أن تحركاته ضرورة أمنية لضبط محافظات “منفلتة” وقطع مسارات تهريب، ويتهم السعودية بشن غارات على قواته،
التحالف الذي بدأ تحت عنوان مايسمى“إعادة الشرعية” بات يواجه اليوم أحد أبرز أدواته الميدانية بوصفها خطرًا على “خفض التصعيد” وعلى “حماية المدنيين”، أي أن التحالف يقر ضمنيًا بأن أدواته تخرج عن السيطرة، وأن الصراع لم يعد فقط مع خصم خارجي، بل داخل هندسة النفوذ ذاتها.
حضرموت والمهرة هما قلب شرق اليمن حضرموت بثقلها السكاني والقبلي ومواردها النفطية، والمهرة بحساسيتها الحدودية واتصالها بعُمان وشريطها البحري على بحر العرب....التحرك في هذه المساحات يعني العبث بميزان القوى وبملف الموارد وبمخاوف الحدود.
لهذا أخذ الخلاف السعودي–الإماراتي هناك طابعًا وجوديًا لا تكتيكيًا. تقارير حديثة وصفت ما يحدث بأنه “انقسام خليجي يتعمق” وأن الضربات السعودية استهدفت قوات مدعومة إماراتيًا في حضرموت بعد هجوم أحادي نفذه الانتقالي للسيطرة على مناطق تعتبرها الرياض حيوية لمصالحها.
الدلالة السياسية لهذا التوصيف واضحة الانتقالي لا يتحرك في فراغ، وهو جزء من منظومة دعم إماراتية طويلة في الجنوب. وحين تربط تقارير دولية بين اندفاع الانتقالي وبين “موافقة أو ضوء أخضر” من أبوظبي، فهي لا تقول ذلك بوثائق منشورة، لكنها تشير إلى منطق القوة: لا يمكن لقوة محلية أن تغيّر قواعد اللعبة في منطقة حساسة دون غطاء إقليمي يضمن لها الحد الأدنى من الحماية السياسية والتمويل والشرعية الإعلامية.
من زاوية اخرى يمكن القول إن ما يجري يفضح “وحدة التحالف” كواجهة أكثر من كونه قيادة موحدة. السعودية تبدو في لحظة محاولة الإمساك بخيوط ترتيبات ما بعد الحرب، بينما الإمارات تريد تثبيت مكاسب جنوبية غير قابلة للمراجعة، ولو على حساب تفكيك المعسكر المقابل لصنعاء
هذا التناقض كان حاضرًا منذ سنوات، لكنه كان يُدار بتقسيم مناطق النفوذ: أبوظبي تمسك بالمدن الساحلية والموانئ وبأذرع أمنية، والرياض تمسك بملف مايسمى بالحكومة وبالمعابر وببعض التشكيلات.
وتتسع الصورة عندما ندخل إلى تفاصيل “طلب العليمي” كما نقلته رويترز: رئيس مجلس القيادة الرئاسي طلب تدخلًا فوريًا لحماية المدنيين من انتهاكات يُنسب ارتكابها للانتقالي.
في هذا السياق، جاء خطاب التحالف عن “خروج قوات الانتقالي وتسليم المعسكرات وتمكين السلطة المحلية” كما نقلت تغطيات عربية، باعتباره شرطًا لاستمرار خفض التصعيد. المفارقة أن “السلطة المحلية” نفسها في محافظات كهذه تعمل ضمن شبكة معقدة من القبائل والقوى العسكرية المتعددة، ولا تملك من أدوات الدولة إلا الاسم.
أما على منصة “إكس”، فالمعادلة تصبح أكثر صراحة لأن التغريدة لا تترك مجالًا كبيرًا للمناورة. تغريدات الأمير خالد بن سلمان التي تناولتها وسائل دولية جاءت كرسالة “وقف اندفاع” للانتقالي، وتحويل الأزمة من اشتباك إلى مسار وساطة.
وفي المقابل، يظهر في الفضاء الإماراتي الإعلامي/الشخصي من يذهب إلى التشكيك بالتهديدات السعودية أو السخرية منها، وهي رسائل تُقرأ في اليمن عادة بوصفها “صوتًا موازيًا” للقرار، حتى لو لم تكن رسمية.
ما ورد في AP ورويترز وFT يؤكد أن الخلاف بلغ مرحلة “التأزم العلني”: تهديد سعودي بعمل فوري، حديث عن ضربات جوية سعودية، رفض انتقالي للانسحاب، وقلق أمريكي ودعوة أممية لضبط النفس. هذه العناصر تُشكّل، في منطق السياسة، إعلانًا بأن المعسكر الذي قدّم نفسه كجبهة واحدة بات ساحة صراع داخلي على النفوذ، وأن اليمنيين يدفعون ثمن ذلك على شكل اضطراب أمني جديد في محافظات كانت تُسوَّق كـ“مناطق مستقرة نسبيًا”.
المحصلة السياسية حتى مساء 27 ديسمبر/كانون الأول 2025 أن الأزمة لم تُحسم، لكنها انتقلت من مرحلة “الاحتكاك” إلى مرحلة “الاشتباك الرمزي” وربما الميداني: التحالف يلوّح بالقوة، وزير الدفاع السعودي يضغط علنًا، تقارير دولية تتحدث عن ضربات سعودية، الانتقالي يرفض الانسحاب، وواشنطن والأمم المتحدة تدعوان إلى التهدئة. في مثل هذه اللحظات، لا يمكن لأي مراقب جاد أن يواصل الحديث عن “تماسك التحالف” بوصفه حقيقة قائمة؛
الأصح أن نتحدث عن تحالف يتفكك إلى مسارين: مسار سعودي يبحث عن مخرج سياسي يقلل الخسائر ويضبط الحدود، ومسار إماراتي يثبت وقائع جنوبية على الأرض حتى لو أحرق جسور الشراكة.
وإذا أردنا قراءة احتمالات ما بعد هذه الجولة، فهناك ثلاثة اتجاهات منطقية: الأول تسوية مؤقتة تُجبر الانتقالي على انسحاب جزئي أو تسليم شكلي لمواقع مع احتفاظه بمفاصل نفوذ، مقابل “تجميد” التصعيد السعودي؛ وهذه تسوية تُرحّل المشكلة ولا تحلها. الثاني تصعيد متدرج ينتهي بمواجهة محدودة بين قوات محسوبة على الرياض وقوات محسوبة على أبوظبي، وهو سيناريو متوقع لأنه يفتح على انقسام جنوبي-جنوبي طويل ويمنح صنعاء
هامشًا سياسيًا وعسكريًا أكبر.
الثالث إعادة ترتيب أوسع تفرض على الأطراف الاعتراف بأن إدارة اليمن عبر وكلاء متنازعين وصلت إلى سقفها، وأن أي حل سياسي جدي يحتاج مؤسسة أمنية واحدة وقرارًا سياديًا واحدًا، وهو احتمال ضعيف لأن من راكم النفوذ بالسلاح لا يتنازل عنه بسهولة.
في كل الأحوال، ما تكشفه حضرموت والمهرة اليوم هو أن اليمن صار ساحة توازنات خليجية أكثر منه دولة تُدار من عاصمتها. وهذا هو جوهر المأساة: حين يتحول “الحليف” إلى خطر، وحين يصبح المواطن محصورًا بين مشاريع نفوذ تتنازع على أرضه، لا يبقى من الخطاب الرسمي سوى جمل مطاطة عن “خفض التصعيد”، بينما الحقيقة على الأرض أن التصعيد هو الأداة الوحيدة التي تتحرك بها القوى عندما تتعارض المصالح.
المصدر:
البوابة الإخبارية اليمنية