يتفق الجميع على أن الشرق الأوسط ليس رقعة جغرافية عابرة، بل هو مهد الديانات السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية والإسلام. ومن هذه الأرض انطلقت رسالات غيرت وجه الإنسانية ومساراتها.
بيد أن هذه القدسية الروحية لم تُحصن المنطقة من الأطماع، بل جعلتها محط أنظار وأطماع القوى الكبرى ومسرحا لصراعات ممتدة منذ قرون.
وعلاوة على جانبها الديني، تحتضن المنطقة النسبة الكبرى من الاحتياطي العالمي للنفط والغاز، ما جعلها القلب النابض للاقتصاد العالمي.
لكن الحقيقة الأعمق أن الصراع لم يكن يوما على الطاقة وحدها، بل على العقيدة والهوية والرواية التاريخية. فالأبعاد الاقتصادية مجرد أدوات تُستغل لخدمة صراع أيديولوجي طويل الأمد، متشابك يغذيه البعد العقائدي من جهة، والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية من جهة أخرى، وتبقى الحقيقة الثابتة أنه صراع أيديولوجي متبدل المظاهر والأشكال.
منذ سايكس-بيكو مرورا بمشاريع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، لم تتوقف محاولات القوى الكبرى لإعادة رسم خريطة المنطقة.
واليوم، يُعاد إنتاج هذه المخططات بثوب مختلف: خرائط تقوم على أسس دينية وطائفية، هدفها تفتيت الكيانات الوطنية الجامعة، وتذويبها في فسيفساء هشة يسهل التحكم بها. المستفيد الأول والأخير من هذا هو المشروع الصهيوني، وفي القلب منه إسرائيل.
يقوم الفكر الصهيوني المتطرف على إحياء أحلام توراتية مؤدلجة، يُعاد تفسيرها بشكل انتقائي ومنحرف؛ لتبرير التوسع وشرعنة الاحتلال.
هذا المنظور لا يكتفي بالحدود الراهنة، بل يرسم ملامح مستقبل تُهيمن فيه إسرائيل على محيطها عبر إضعافه وإغراقه في صراعات داخلية.
وها هي إسرائيل تكشف عن بعض نواياها بما تفعله في فلسطين وغزة، واعتداءاتها المتكررة على سوريا مؤخرا، وما يصرح به رئيس وزرائها وبعض ساستها من أطماع توراتية تجاه المنطقة، وخدمة لهدفها في إعلان يهودية الدولة العبرية والتهام محيطها بالكامل. وما نسمعه عن مخطط لتهجير الفلسطينيين، دليل واضح على هذه التوجهات.
إن الإرهاصات والمعطيات الراهنة تنذر بأن المنطقة على أعتاب صراعات داخلية مركبة وخطيرة، تتجاوز الانقسام التقليدي بين العرب وإسرائيل.
أخطر هذه السيناريوهات يتمثل في الدفع نحو اندلاع صراع سني-سني، تُرجح المؤشرات أن يبدأ من سوريا توطئة لتفتيتها وبلقنتها، وهذا بدوره سيمتد إلى فضاء أوسع. مثل هذا النزاع يضمن استنزاف المجتمعات من الداخل، ويمنح إسرائيل وحلفاءها فرصة ذهبية لترسيخ مكاسبهم.
وبطبيعة الحال يجب ألا يغيب عن المشهد مخططات الدول الإقليمية ومشاريعها القديمة الجديدة التي تحاصر المنطقة وتتقاطع مع المشروع الصهيوني في إيقاف عجلة التنمية في الدول العربية، وتعميق الخلافات القائمة بين شعوبها، عبر تأجيج الاختلافات المذهبية، وتأليب العصبيات والكراهية، وكذلك الحروب بالوكالة، بحيث يتم القضاء على أي بارقة أمل لشعوب المنطقة في التطور والنمو والعيش بأمان وسلام.
هذه السيناريوهات المدمرة تجد بيئتها الخصبة حين تقع شعوب المنطقة وبعض قياداتها ضحية تضليل القوى الكبرى التي تسوق رؤى براقة وشعارات براغماتية عناوينها السلام والاستقرار والتنمية، لكنها في العمق مجرد أدوات لتمرير مخططات صهيونية تقوم على تفسيرات توراتية مزورة تمهد لتحقيق المشروع الصهيوني، وبالاستفادة من بعض الأدوات الموجودة أصلا في المنطقة، أفرادا وجماعات تحركها مغريات تُقدم لها لتسريع تنفيذ مخططها الشرير.
وهنا تكمن خطورة أكبر أن يتحول هؤلاء المضلَلون إلى منفذين غير مدركين لأجندات مرسومة في غرف مغلقة.
أمام هذه التحديات، ليس هناك خيار سوى أن تبادر القيادات العربية والإسلامية الفاعلة، ومعها النخب المثقفة، إلى تحمل مسؤوليتها التاريخية، واستنفار كل الأوراق الممكنة: من وحدة الصف، إلى إعادة بناء التحالفات، إلى تعزيز المناعة الداخلية، واستخدام كل الأدوات التي كفلتها الشرائع السماوية، إضافة إلى ما نص عليه القانون الدولي، وذلك من أجل وقف ما يُرسم للمنطقة وإنقاذ مستقبل الأجيال القادمة.
إن التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تغفر لمن فرط بمصيرها. ما يُرسم اليوم للمنطقة ليس مجرد تكتيك سياسي عابر، بل إعادة تشكيل وجودي على أسس دينية وطائفية ستغير ملامحها لعقود.
إن القيادات العربية والإسلامية، ومعها النخب المثقفة، أمام مسؤولية تاريخية لا تحتمل التأجيل: إما أن تتحرك سريعا لإجهاض هذه المخططات، أو أن تجد نفسها في الغد القريب شاهدة على انهيار ما تبقى من منظومة الأمن القومي.
إنني أقول ما أقول وأنا أتمنى أن أكون مخطئا في بعضه، لكن الحكمة تقتضي الاستعداد للأسوأ، والعمل الجاد لانتزاع الأفضل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.