شهدت أسواق الذهب العالمية عاما استثنائيا من الارتفاعات المتتالية والتقلبات الحادة، عكست حالة التوتر المتزايد في الاقتصاد العالمي، وتبدل مواقف المستثمرين بين الإقبال على الملاذات الآمنة وجني الأرباح.
ومع تصاعد المخاطر الجيوسياسية وتزايد التوقعات بخفض أسعار الفائدة ، وجد الذهب نفسه في بؤرة الاهتمام، مسجّلا مكاسب تاريخية ثم خسائر حادة، خصوصا للمضاربين من المستثمرين الصغار خلال فترة وجيزة.
وارتفعت أسعار الذهب فوق 50% هذا العام، لتصل إلى ذروة غير مسبوقة عند 4381 دولارا للأوقية يوم الاثنين 20 أكتوبر/تشرين الأول، بدعم من حالة عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي، ومراهنات خفض أسعار الفائدة، وعمليات الشراء المستدامة من جانب البنوك المركزية، وفقا لوكالة رويترز.
لكن الذهب عاد لينخفض بعد يومين فقط إلى أدنى مستوى في نحو أسبوعين، مع قيام المستثمرين بجني الأرباح، حيث هبط في المعاملات الفورية إلى نحو 4004 دولارات للأوقية، قبل أن يعاود الارتفاع مجددا ليصل إلى نطاق يتراوح بين 4044 دولارا و4144 دولارا للأوقية وقت كتابة هذه السطور.
وتبرز هنا الأسئلة الجوهرية:
يقول الرئيس التنفيذي للإستراتيجيات بشركة فورتريس للاستثمار، مصطفى فهمي "ما نشهده اليوم من ارتفاعات قياسية في أسعار الذهب يُعد ردّ فعل طبيعيا للتوترات العالمية المتصاعدة، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية، مثل الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، أو ارتفاع مستويات الديون في الاقتصادات الكبرى كأميركا وبريطانيا والصين".
ويضيف فهمي للجزيرة نت أن تزامن هذه العوامل في وقت واحد خلق موجة غير مسبوقة من القلق في الأسواق، دفعت المستثمرين إلى البحث عن "ملاذات آمنة" تحفظ قيمة أموالهم.
ويأتي الذهب في مقدمة هذه الأصول، إلى جانب أصول أخرى يُتوقع أن تشهد بدورها ارتفاعًا مع تفاقم المخاوف، إذ تؤكد التجارب أنه "كلما ازداد الخوف، زاد الإقبال على الأمان".
وتتقدم الصين بخُطا ثابتة لتصبح المحرك الرئيسي وراء الارتفاع القياسي لأسعار الذهب في عام 2025، بحسب ما يؤكده تورستن سلوك، كبير الاقتصاديين في شركة "أبولو غلوبال مانجمنت" وأحد أبرز المحللين في وول ستريت، وفقا لمنصة فورتشن.
وفي نشرته اليومية الشهيرة "ذا ديلي سبارك"، أوضح سلوك أن الدور الصيني في دعم سوق الذهب لم يعد مقتصرا على مشتريات البنوك المركزية فحسب، بل يمتد إلى إستراتيجيات "تداول المراجحة" (شراء عند سعر منخفض وبيع عند سعر مرتفع)، وارتفاع الطلب من الأسر الصينية، وتعزز الميل نحو الاستثمار الآمن في ظل حالة الغموض الاقتصادي العالمي.
ويشير تورستن سلوك إلى أن استمرار هذا التوجه قد يقود إلى تحول تاريخي، حيث ستصبح "حيازات البنوك المركزية من الذهب قريبا أكبر من احتياطياتها من الدولار الأميركي"، ما يعكس تحوّلا عميقا في النظام المالي العالمي.
بعد الارتفاعات القياسية ووصول الذهب إلى ذروته عند 4381 دولارا، عاد لينخفض مجددًا إلى نحو 4004 دولارات للأوقية، قبل أن يعاود الارتفاع إلى نطاق 4045-4145 دولارا للأوقية وقت كتابة هذه السطور.
ويقول المحللون إن الانخفاض الأخير هو تصحيح صحي بعد ارتفاع ممتد. وقال بريان لان، المدير الإداري لشركة غولد سيلفر سنترال، في تصريحات لتلفزيون "سي إن بي سي 18": "لقد شهدنا تصحيحا طبيعيا بعد الارتفاع الأخير، ولا يزال هناك بعض الضغط السلبي، وعلى المدى الطويل نظل متفائلين، ولكن يجب على المستثمرين توخي الحذر على المدى القصير".
وفي السياق ذاته، أوضح مدير الاستثمار في شركة الأهلي للوساطة المالية وليد الفقهاء، في تصريحه للجزيرة نت، أن "الذهب شهد مؤخرا مضاربات قوية من قبل البنوك المركزية والمستثمرين الكبار، ما أدى إلى تذبذبات حادة في الأسعار وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 350 دولارا انخفاضا في يوم واحد".
وأضاف الفقهاء: "إن السوق أصبح يتسم بنطاق تداول واسع للغاية بين أعلى وأدنى سعر قد يتجاوز 200 إلى 300 دولار يوميا"، لافتا إلى أن تحرك الذهب بمقدار 100 دولار في اليوم بات أمرا طبيعيا.
لذلك، ينصح فقهاء المستثمرين "بتجنب المضاربات قصيرة الأجل والتحلي بالحذر عند التعامل مع السوق في هذه المرحلة الحساسة".
وأشار إلى أن الاستثمار طويل الأجل في الذهب ما زال يحتفظ بجاذبيته، إذ لا تزال العوامل الداعمة لارتفاع الأسعار قائمة، مثل ضعف الدولار، وتصاعد التوترات التجارية، واستمرار مشتريات البنوك المركزية، مؤكدا أن هذه العوامل مجتمعة تشكل أرضية قوية لاستمرار الاتجاه الصعودي للذهب على المدى البعيد.
مع موجة الارتفاعات القياسية الأخيرة في أسعار الذهب، ازداد إقبال الأفراد العاديين والمستثمرين الصغار على شراء المعدن النفيس أملًا في تحقيق أرباح سريعة. بل إن بعضهم يغامر بالاستدانة أو الحصول على قروض بنكية لتمويل عمليات الشراء طمعا في الاستفادة من الصعود المتواصل للأسعار.
بيد أن قلة الخبرة والمعرفة بأساسيات السوق كثيرا ما تقود هؤلاء إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة تنتهي بخسارة مدخراتهم، وتراكم الديون عليهم بدل تحقيق المكاسب المنشودة.
ورغم أن الذهب يُعد من الملاذات الآمنة، فإنه لا يخلو من المخاطر، فهو كغيره من الاستثمارات عرضة للتقلبات الحادة في الأسعار، وقد يتكبد المستثمر خسائر بطرق متعددة، سواء بشراء الذهب في ذروة الأسعار أو ببيعه في لحظات الهلع.
لذلك، فإن فهم طبيعة هذا الاستثمار وإدراك نتائجه المحتملة يشكل الخطوة الأولى نحو إدارة المخاطر بذكاء، وتجنب الوقوع في فخ التسرع والمضاربة غير المحسوبة، وفقا للكاتبة الاقتصادية كاثرين بروك في مقالة لها بمنصة "ياهو فاينانس".
يشدد خبراء الذهب على ضرورة أن يدرك المستثمرون المحتملون طبيعة المخاطر المرتبطة بالاستثمار في المعدن النفيس، سواء كانت ناجمة عن تقلبات الأسعار أو المضاربات المفرطة أو حتى تكلفة الفرصة البديلة ومخاطر الاحتيال في الأسواق غير المنظمة، ففهم هذه الجوانب يمثل الأساس لأي قرار استثماري رشيد.
ويضيف أن "التوقعات الواقعية، والنظرة طويلة الأجل، والتوزيع السليم للأصول هي العوامل التي تحد من مخاطر التسعير وتحافظ على قيمة الاستثمار بمرور الوقت".
ينصح المحلل الاقتصادي مصطفى فهمي المستثمرين الصغار بأنه:
من جهته، قال مدير الاستثمار في شركة أفينتيكوم لإدارة رأس المال طلال السمهوري للجزيرة نت:
يبقى الاستثمار رحلة تحتاج إلى صبر وحكمة وتدرج، لا إلى اندفاع أو مجازفة، فالمستثمر الصغير الذي يدير أمواله بعقلانية، ويتعامل مع الذهب كوسيلة لحفظ القيمة لا للمضاربة السريعة، هو الأقدر على تحقيق الاستقرار المالي على المدى الطويل.
والأهم أن تكون القرارات مدروسة، والاستثمارات واقعية، والأهداف واضحة؛ فهكذا تُبنى الثروة بصبر وثبات، لا بالمغامرة والرغبة في الربح السريع.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة