هذا هو المخطط الذي دخلت السعودية والإمارات لتنفيذه، لا كدول مستقلة، بل كأدوات تعمل ضمن منظومة الهيمنة الغربية المفروضة على المنطقة منذ عقود
لكن ما لم يكن في حسبان واضعي تلك الحرب أن اليمن يمتلك طبيعة مختلفة، وأن التاريخ لا يسير على مقاس الجيوش والأرقام وحدها، وأن الإرادة حين تنبع من جذورها العميقة، تتحول إلى قوة لا يمكن كسرها. هنا، بدأت معادلة الحرب تتغير، ووجدت الرياض نفسها بعد ثمان سنوات من القصف والحصار وشراء الولاءات وإنفاق مئات مليارات الدولارات، أمام حقيقة لم تعترف بها حتى هذه اللحظة: اليمنيون لم يُهزموا، ولم ينكسروا، ولم يتراجعوا، بل خرجوا من الحرب أكثر قوة، وأكثر تنظيمًا، وأكثر معرفة بطبيعة العدو وأدواته.
في المقابل، لم تتوقف السعودية والإمارات عن أنشطتهما العدائية ضد اليمن، رغم كل التصريحات التي تتحدث عن “السلام” و“التهدئة” و“التفاهمات”. ما يجري على الأرض يناقض تمامًا تلك الخطابات. فالاحتلال العسكري لمناطق جنوب البلاد ما يزال مستمرًا، والمليشيات التابعة لأبوظبي والرياض تتوسع، وعمليات التجنيد والتسليح وتغيير الهوية والذاكرة الجمعية تتواصل بوتيرة ممنهجة. يتم ذلك عبر مشاريع سياسية وإعلامية واستخباراتية متكاملة، هدفها تحويل الجنوب إلى ساحة نفوذ أجنبي دائم، تؤمن للولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي موطئ قدم في قلب الممرات البحرية العالمية.
إن من يراقب التحركات الإماراتية في سقطرى والمهرة وعدن وشبوة، سيجد أن الأمر لم يعد يتعلق بـ“نفوذ إقليمي” كما يتم الترويج إعلاميًا، بل بعملية احتلال مستوفية الأركان. وجود قواعد عسكرية، سيطرة على الموانئ والمطارات، إدارة مباشرة للشركات البحرية وخطوط الملاحة، واستقدام ضباط من الكيان الإسرائيلي تحت غطاء “التعاون الأمني البحري”. كل ذلك يجري بعلم السعودية وبتفاهمات ضمنية مع الأمريكيين، الذين ينظرون إلى الساحل الجنوبي لليمن باعتباره مفتاحًا استراتيجيًا للتحكم بمسارات الطاقة وحركة التجارة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.
ولم تتوقف الأعمال العدائية عند حد الاحتلال وبناء المليشيات، بل امتدت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي اليمني. فالعدو يدرك تمامًا أن وحدة المجتمع هي مصدر القوة الأول لأي مشروع تحرري، ولذلك عمل بشكل مكثف على خلق كيانات صراعية داخل المحافظات المحتلة، وتغذية النزاعات المذهبية والقبلية والجهوية، وتصعيد الصراعات بين عدن والضالع ولحج وأبين وشبوة وحضرموت، حتى وصلت الأمور إلى مواجهة داخلية مفتوحة بينما تقف القوات الإماراتية والسعودية في مقاعد المتفرجين، لأنها هي من يدير هذا المشهد من خلف الستار.
وفي الوقت الذي كان المجتمع اليمني في صنعاء وكل المحافظات الحرة يعيد بناء نفسه على قاعدة سيادة القرار الوطني، كانت الرياض تستخدم الوقت ذاته لإعادة ترتيب خريطة السيطرة العسكرية في المحافظات المحتلة عبر تشكيلات مسلحة منفصلة عن بعضها، لكنها جميعًا مرتبطة بقيادات عسكرية واستخباراتية سعودية. كان الهدف واضحًا: إنتاج يمن ممزق إلى مربعات أمنية، يمن بلا مركز، وبلا قرار سيادي جامع.
غير أن صبر اليمنيين على هذه التجاوزات لم يكن بلا حدود. لقد تم منح السعودية فرصًا متكررة لإثبات حسن النية، للمضي نحو تسوية عادلة، تقوم على قاعدة الندية واحترام السيادة ورفع الحصار ووقف العدوان وإنهاء الاحتلال. لكن كل تلك الفرص ضاعت، لأن القرار في الرياض لم يكن في أي لحظة قرارًا وطنيًا مستقلًا. فمصلحة واشنطن وتل أبيب تقتضي أن يبقى اليمن جرحًا مفتوحًا، لأن استقرار اليمن يعني سقوط أحد أكبر الجدران التي تحاصر المشروع الأمريكي في المنطقة، ويعني بروز قوة إقليمية صاعدة تمتلك موقعًا جغرافيًا يفوق في تأثيره كل الجغرافيا النفطية في الخليج.
إن الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي لا يريدان لليمن أن ينهض. ليس لأنهم يخشون من قوة اقتصادية أو عسكرية، ولكن لأن اليمن إذا استعاد قراره وثروته وبحاره، سيصبح حلقة وصل مركزية تربط بين محور المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران، وسيشكل قاعدة اندفاع نحو البحر الأحمر والمحيط الهندي خارج السيطرة الغربية. وهذا ما لا يمكن لواشنطن أن تسمح به.
لهذا، فإن ما يسمى بـ“السلام” الذي تروج له السعودية في الإعلام ليس إلا غطاء مرحلي لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، ومحاولة لترميم علاقاتها الاقتصادية المتصدعة، وإعادة بناء منظومتها الدفاعية التي انهارت أمام القدرات اليمنية.
أما من حيث الواقع، فإن التحضيرات للعودة إلى التصعيد لم تتوقف. يتم تدريب وحدات جديدة، يتم نقل أسلحة، يتم تحديث غرف العمليات، ويتم تنسيق الخطط مع القيادة المركزية الأمريكية في البحرين. هذه ليست علامات سلام، بل مؤشرات حرب.
وفي مقابل كل ذلك، كانت صنعاء تقوم بإعادة بناء ميزان القوى على نحو هادئ ومنهجي.
تطورت الصناعات العسكرية المحلية من مجرد قدرات دفاعية إلى قدرات هجومية ذات مديات واسعة ودقة عالية.
لم تعد السعودية قادرة على فتح جبهة جديدة دون أن تكون مدنها الحيوية تحت مرمى ضربات مباشرة. وهذا هو الفارق الذي يغير طبيعة أي مواجهة قادمة. الحرب القادمة – إذا فرضت – لن تكون كسابقاتها. لن تكون حرب طائرات تقصف وقرى تُباد. ستكون حربًا تقلب الموازين من الجذور: المطارات، القواعد، المنشآت النفطية، الموانئ الحيوية، قواعد القيادة والسيطرة، خطوط الأنابيب، كل هذه اليوم تحت مرمى النيران اليمنية بدقة محسوبة.
وفي الوقت ذاته، فإن التحولات العالمية تضاعف من تأثير هذه الجبهة. فالعالم اليوم يعيش مرحلة إعادة تشكيل موازين القوة. التوتر بين روسيا والغرب، وتصاعد الدور الصيني، وتراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، كلها عوامل تجعل أي تصعيد في اليمن حدثًا يتجاوز أبعاده المحلية. فارتفاع أسعار النفط في ظل تشديد العقوبات على موسكو يعني أن أي ضربة تؤثر على إمدادات الطاقة السعودية ستنعكس مباشرة على الأسواق العالمية، وستربك حسابات واشنطن وشركائها في أوروبا. وهذا ما يجعل اليمن يمتلك قوة ضغط استراتيجية لا يمتلكها أي طرف آخر في المنطقة.
إن السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس: هل ستعود الحرب؟ بل: إلى أي مدى يمكن للسعودية والإمارات أن تتحملا تبعات العودة إلى الحرب؟ وهل تدركان أن اللحظة اليوم تختلف جذريًا عن لحظة 2015؟ وأن القوة التي تواجههما اليوم ليست تلك القوة التي حاولو سحقها في الأيام الأولى؟ وأن الشعب الذي صمد ثمان سنوات تحت الحصار والقصف لن يتراجع ولن يقبل بنصف سيادة أو نصف وطن؟
اليمنيون لا يطلبون المستحيل. مطلبهم واضح وثابت: رفع الحصار، وقف العدوان، إنهاء الاحتلال، وإعادة ثروات اليمن إلى اليمنيين. من يقبل بذلك فمرحبا بالسلام. ومن يرفض، فالمعادلة باتت معروفة: الردع بالردع، والتصعيد بالتصعيد، والمعركة إذا فُرضت فلن تكون كما كانت، ولن تتوقف إلا وقد تغيّر شكل المنطقة بأكملها.
وهنا، يمكن القول بوضوح لا لبس فيه: العودة إلى المواجهة أصبحت حتمية وأقرب من أي وقت مضى. ليس لأن اليمن يريد الحرب، ولكن لأن الطرف الآخر لم يترك مسارًا حقيقيًا للسلام. وما دام الاحتلال مستمرًا، وما دام الحصار قائمًا، وما دام القرار السعودي مرتهنًا للخارج، فإن المعركة قادمة لا محالة. ويكفي أن تنظر المنطقة جيدًا إلى التاريخ، لتعرف أن اليمن حين يدخل معركته الكبرى، لا يخرج منها إلا وقد كتب مستقبلًا جديدًا لنفسه ولجغرافيته ولمن حوله.
المصدر:
البوابة الإخبارية اليمنية