آخر الأخبار

قراءة في كتاب المؤرخ إيلان بابيه.. إسرائيل على حافة الهاوية

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

صدر في سبتمبر/أيلول 2025 كتاب "إسرائيل على حافة الانهيار: ثماني ثورات قد تؤدي لتصفية الاستعمار والتعايش" للمؤرخ والبروفيسور الإسرائيلي إيلان بابيه ، أبرز المؤرخين الإسرائيليين الجدد، الذين نبذوا تقاليد المؤسسة الصهيونية الرسمية في البحث التاريخي، ونأت دراساتهم عن أساطير التأسيس، متجهة نحو منظور وتاريخ نكبة فلسطين الحقيقي.

دحض "المؤرخون الجدد"، مثل توم سيغيف وسيمحا فلابان وآدم راز وبيني موريس وإيلان بابيه، أساطير الرواية الرسمية الإسرائيلية حول حرب 1948 . يقول أحدهم، وهو آفي شلايم، مؤرخ يهودي (عراقي الأصل) بجامعتي ريدنغ وأكسفورد، إن بابيه يُعد أحد أكثر الباحثين دراية بتفاصيل الصراع على فلسطين وخلفياته وتشعباته.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 أندرو مارش: الغنوشي أحدث ثورة فكرية إسلامية و"الديمقراطية المسلمة" محاولة لتفادي حتمية الانقلاب
* list 2 of 2 “الزمن تحت الخرسانة”.. الجذور الاستعمارية لإدارة المخيمات الفلسطينية end of list

صدر الكتاب بالإنجليزية في طبعتين متزامنتين؛ في أميركا عن دار "بيكون بريس" (Beacon Press)، وفي بريطانيا عن "ون وورلد بابليكيشنز" (OneWorld Publications)، ويقع في 216 صفحة.

كان بابيه أستاذ التاريخ بجامعة حيفا سابقا، وهو حاليا أستاذ التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكستر البريطانية، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة. وقد صدرت له عدة مؤلفات منها: " التطهير العرقي لفلسطين"، و"عشر خرافات عن إسرائيل"، و"تاريخ فلسطين الحديثة"، و"موجز تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني".

يرى إيلان بابيه أن إسرائيل تشهد انقساما، ويتناول قضايا يجب التركيز عليها لأجل مستقبل سلمي للفلسطينيين واليهود. فلا يمكن لإسرائيل الاستمرار على هذا المنوال؛ إذ كشفت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاها من غزو إسرائيلي لغزة، عن تصدعات في أسسها.

مصدر الصورة المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه (مواقع التواصل الاجتماعي)

انكشفت إسرائيل كدولة عاجزة عن حماية مواطنيها، ومنقسمة بين رجال دين "مشيحانيين" و"ليبراليين" انتقائيين، ويمقتها جيرانها، وتفقد دعم اليهود حول العالم. في حين يبرر قادتها حملات قصف تفوق أسوأ فظائع الحرب العالمية الثانية ، وتتسبب بكارثة إنسانية متفاقمة بقطاع غزة ، وبذلك تصبح دولة منبوذة. ولم تعد " حماس " ألد أعدائها، بل إسرائيل نفسها.

إعلان

في هذا السِّفر الصادر في وقته المناسب، يمهد بابيه طريق الخروج من كارثة القومية اليهودية والدولة الصهيونية، برؤية واسعة الأفق متجذرة في "العدالة التصالحية" وتصفية الاستعمار، بما في ذلك عودة اللاجئين، وإنهاء المستوطنات، وبناء جسور تواصل مع العالم العربي. يمكن أن يكون المستقبل مصالحة، وليس حروبا بلا نهاية.

يرى بابيه أنه مع انتخاب الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل عام 2022، وهجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحرب الإسرائيلية على غزة والإبادة اللاحقة، اتسعت الانقسامات السياسية الكامنة في الدولة اليهودية بشكل خطير، ويُحتمل أن تؤدي لانهيارها.

ويُقدم بابيه أفكاره حول المخاطر والفرص الناشئة عن هذه اللحظة التاريخية، بهدف انتقال سلمي قدر الإمكان.

يجادل بابيه بأن 8 "ثورات صغيرة" أو "نقلات نوعية تاريخية" ستكون ضرورية لظهور مستقبل أكثر تفاؤلا، ومنها:

– إعادة وضع "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين في مركز الرؤية المستقبلية.

– وضع تعريف جديد للجماعة اليهودية في فلسطين التاريخية.

– وضع اللمسات الأخيرة على خطة لمستقبل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية بعد عام 1967.

– وضع إستراتيجية جديدة لحركة وطنية فلسطينية موحدة تتبنى خيار الدولة الديمقراطية الواحدة.

يتصور بابيه بقوة مستقبلا أكثر عدلا؛ دولة ديمقراطية منزوعة الاستعمار للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، ويبحث كيفية الوصول إليه.

وتحاول هذه المراجعة عرض ومناقشة أهم القضايا المطروحة في الكتاب، مثل سيناريو السقوط المحتمل، وصعود اليمين الديني الصهيوني، وانقسام الدولة إلى دولة "يهوذا" الدينية ودولة "إسرائيل" العلمانية، ومسارات التفكك، ونموذج مركز الثقل وقاعدة القوة، والإنهاك العسكري الإسرائيلي بشرا وعتادا.

سيناريو السقوط المحتمل

رغم هيمنته وتفوقه العسكري على خصومه الإقليميين، يمر الكيان الصهيوني فعليا بأضعف مراحله. والأهم: هل يستطيع الحفاظ على مشروع الدولة اليهودية؟

فرغم الإحباط والدمار اللذين أحدثتهما الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين بقطاع غزة خلال عامين، إلا أن إسرائيل قد تجد نفسها في أضعف مراحلها في تاريخها القصير.

في هذا الكتاب الجديد، يُؤكد بابيه أن مسار إسرائيل الحالي للمضي قدمًا بنفس الخط والوتيرة غير قابل للاستمرار. فمع مزيج من الضغوط المحلية والسياسية والعسكرية والدولية، سيتواصل عدم استقرارها.

يكتب بابيه "قد يكون سقوط إسرائيل المحتمل إما كنهاية دولة فيتنام الجنوبية [العميلة لأميركا]، أي محو دولة بالكامل؛ أو كجنوب أفريقيا ، أي سقوط نظام أيديولوجي معين، نظام الفصل العنصري (أبارتهايد)، واستبداله بآخر. أعتقد أنه في حالة إسرائيل، ستتكشف عناصر كلا السيناريوهين أسرع مما يستطيع كثير منا استيعابه أو الاستعداد له".

فالمسار الذي سلكته إسرائيل لبلوغ هذه النقطة، هو تعصب ديني متطرف، تمثله شخصيات تشغل أعلى مناصب الحكومة، مثل بنيامين نتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ؛ فكيف يبدو المستقبل لهم ولشعب فلسطين المنكوب؟

يطرح بابيه أن إسرائيل تنهار أو تنفجر داخليا (Implode)، ويُعرّف حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة الحالية بأنها "صهيونية جديدة" (neo-Zionist)، أي أن قيم الصهيونية القديمة باتت أكثر تطرفا وعنصرية وفوقية وعنفا. لقد تخلت دولة الصهيونية الجديدة عن النهج التدريجي، والتطهير العرقي البطيء لفلسطين، كما مارسته الحكومات الصهيونية السابقة.

إعلان

"دولة يهوذا" و"دولة إسرائيل"

تستخدم إسرائيل الإبادة الجماعية سلاحا لإفراغ قطاع غزة من الفلسطينيين، والضفة الغربية لاحقا، بل قريبا. يُسيطر على حكومة إسرائيل متطرفون يهود حوّلوا هذا الكيان لما يسميه بابيه (مستلهما تاريخ انقسام مملكة بني إسرائيل القديمة) لـ"دولة يهوذا"، وهي دولة ستنفصل عن دولة "إسرائيل"، كما وقع في التاريخ القديم.

دولة يهوذا الجديدة، يديرها مستوطنون يهود متعصبون، يعيش 750 ألفا منهم بالضفة الغربية، وتدمج الصهيونية الدينية باليهودية الأرثوذكسية. وتسعى لإمبراطورية يهودية تسيطر على بلاد جيرانها العرب، وخاصة لبنان والأردن وسوريا .

إن كراهية الذين يديرون دولة "الصهيونية الجديدة"، دولة "يهوذا"، للفلسطينيين تمتد إلى يهود إسرائيل العلمانيين. وهذا يعني أن إسرائيل ستتصدع في النهاية، مما يجعلها غير قابلة للاستدامة.

ومع انحدار قوة أميركا وانكماش إمبراطوريتها لاحقا، وهي عملية تتسارع بعجز إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفسادها، ستتآكل ركيزة الدعم الأساسية لإسرائيل، مما سيضطر الولايات المتحدة للتقشف والانكماش بالشرق الأوسط .

ماذا يعني انهيار الكيان للإسرائيليين والفلسطينيين والشرق الأوسط؟ هل سيُبشر ببداية عملية إنهاء الاستعمار؟ أم سيُعزز المزيد من العنف وإراقة الدماء والتطرف؟ هل سيكون من الممكن استبدال إسرائيل بدولة علمانية ديمقراطية، دولة يتمتع فيها الفلسطينيون والإسرائيليون بحقوق متساوية، دولة "الشخص الواحد والصوت الواحد" كجنوب أفريقيا؟ أم تنكمش إسرائيل لدولة ثيوقراطية دينية استبدادية، مع فرار نخبتها العلمانية المتعلمة منها وانهيار اقتصادها تحت وطأة حروب بلا نهاية؟

العدوانية والتمدد والاستيطان "شفرة الحمض النووي الوراثية" لإسرائيل، مع الشعور أنهم حكام الشرق الأوسط والقوة المهيمنة. وبين حين وآخر، يمضون قُدما بنفس الاتجاه، ويُظهرون لمن في المنطقة أنهم يمتلكون القوة والقدرة لفعل ما يشاؤون بغض النظر عن القانون الدولي أو سيادة دول الجوار.

إنه شعور حقيقي لديهم بأن العالم العربي، أو أنظمته الحاكمة، تحت رحمتهم وخاضعة لهم تماما. ويعتقد بابيه أن هذين كانا الهدفين المزدوجين لهجوم إسرائيل على الدوحة في سبتمبر/أيلول 2025: أحدهما تكتيكي يتعلق بالمفاوضات، والآخر توكيد هذا الشعور المتغطرس بأنهم الآن القوة الحقيقية في المنطقة.

وهو ما يتوافق تماما مع الرؤية "المشيحانية الخلاصية" الصهيونية الجديدة لإعادة بناء مملكة إسرائيل القديمة التي يزعمون استلهامها من العهد القديم، معتقدين أنهم قادرون الآن على إعادة بنائها بنفس القوة والنفوذ.

يُسمّى يهود "دولة يهوذا" في إسرائيل "المزراحيين"، وساد التوتر طويلا بينهم وبين "الأشكناز"، يهود أوروبا الذين أسسوا الدولة الصهيونية، وهيمنوا عليها حتى ثمانينيات القرن العشرين. لكن عائلة نتنياهو من الأشكناز، واسمها الأصلي "ميلكوفسكي"، وجاءت من بولندا. تمثل هذه التوترات العرقية في إسرائيل عنصرية متأصلة، سجلها المؤرخ آفي شلايم في كتابه "ثلاثة عوالم".

مسخ اليهود العرب

لقد جُلب أجداد "المزراحيين" جلبًا لإسرائيل أوائل الخمسينيات؛ لفشل الحركة الصهيونية في إقناع ملايين اليهود بأميركا وبريطانيا وأوروبا بالهجرة إلى إسرائيل. واضطرت القيادة الصهيونية لجلب من اعتبرتهم يهودا عربا. ولكن بمساعدة مستشاريهم الأكاديميين، شرعوا في نزع عروبتهم، وتحويلهم ليهود أوروبيين.

اقتضى فتح المجال أمام اليهودي العربي، على قدم المساواة باليهودي الأوروبي، إظهار الأول كراهيته وعنصريته واحتقاره للعرب، بل ولهويته الذاتية. وهذا يخلق بنية تحتية عقلية مضطربة للغاية، فضلا عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة لأنهم دُفعوا لهوامش المجتمع الجغرافية والاجتماعية.

إعلان

لاحقا، وقع أمر آخر. فالحكومات لم تُعالج قضايا الرعاية الاجتماعية والمشكلات الاقتصادية. وبدلا من ذلك، دخلت الجماعات الدينية الحكومة، وكان لها تأثير كبير على جيل الشباب. فلم يقتصر الأمر على صراع اليهود الشرقيين والأشكناز، بل امتد لجيل كامل من شباب إسرائيل، خضعوا لنظام تعليمي ديني قومي، وليس للنظام الديمقراطي العلماني. ويُنتج النظام الأول خريجين ثيوقراطيين وعنصريين إزاء الديمقراطية والحقوق الإنسانية والمدنية، وملتزمين تماما بالحلم الصهيوني.

وظهرت صور "سيلفي" لهؤلاء الشباب خلال الإبادة الجماعية، ويمكن تمييز تعبيراتهم لغةً وكراهية وعنصرية، وهذه ليست ظاهرة هامشية، بل واسعة الانتشار، وهي جزء من قاعدة القوة لـ"دولة يهوذا".

بحسب المؤلف، لهذه الظاهرة جانب علمي زائف؛ فهناك قربَ حائط البراق بالقدس ، بجوار الحرم الشريف والمسجد الأقصى ، يوجد "معهد بناء الهيكل الثالث"، يُفترض أنه معهد "أكاديمي" يدرس تاريخ المعابد بالعصور القديمة، ويبني نماذج للهيكل الثالث!

ويسود بين جمهور الصهاينة المتدينين فكرة هدم المسجد الأقصى، مما سيشعل بالطبع العالم الإسلامي. فإحدى سمات هذه الرؤية المشيحانية هي بناء واستبدال الهيكل الثالث بمصليات ومرافق وباحات الحرم الشريف. والجانب الآخر لهذه الرؤية التبشيرية إعادة مملكة داود وسليمان. فلا خرائط واضحة أصلا بالكتاب المقدس، لكن لديهم تصور جغرافي يمتد أبعد من فلسطين التاريخية، يشمل الأردن وسوريا ولبنان، بالمرحلة المقبلة.

حاليا، يبدو هذا ضربا من الجنون، وليس سيناريو عمليا أو ممكنا أو محتملا. ورغم أن بابيه لا يعتقد بإمكان تحقيق هذا التمدد الجغرافي، فإنه ليس متأكدا أنهم لن يحاولوا. ويبدو أحيانا أن هذا ما يفعلونه من توسع إسرائيل لتشمل غزة وجنوب لبنان وجنوب غرب سوريا قرب دمشق ، والغارات المتواصلة هناك. هذا سلوك إستراتيجي ومستقبلي غير عقلاني، سيؤدي لتفكك إسرائيل بالمستقبل البعيد.

نموذج مركز الثقل

يسمي بابيه هذا نموذج "مركز الثقل الإقليمي"، وقاعدة القوة بالشرق الأوسط فيه أورشليم اليهودية الصهيونية. وتُدار المنطقة بأكملها من هناك بأتباع وحلفاء، وأعداء يُعاقبون باستمرار، بينما يتجاوز نطاق الدولة حدود فلسطين الانتدابية أو التاريخية.

لا يعتقد بابيه أنهم سيتوقفون عند هذا الحد. ويدعو الغرب لإدراك الفرق بين الخطاب الإسرائيلي الداخلي بالعبرية وما يُنشر بالإنجليزية، لأنك إذا زرتَ مراكزهم التعليمية، أو قرأت مواقعهم الإلكترونية، وبذلت جهدا في دراسة كتاباتهم وأحاديثهم، فسترى أن الطموح أكبر بكثير، ويتجاوز مجرد الوجود العسكري في لبنان وسوريا. فالطموح هو إعادة بناء إسرائيل التوراتية القديمة، واعتبار العديد من المناطق مثل الأردن جزءا من تلك المملكة التي تنتمي بحق أو بمشيئة الرب للشعب العبري!

أظهرت الاحتجاجات ضد نتنياهو انقسامات داخلية، بينما لا تبدو خلافات داخلية حول الإبادة، لكنْ ثمة صدام بين الصهاينة المتدينين (دولة يهوذا)، وبين "دولة إسرائيل" القديمة. وتترافق الانقسامات الداخلية وتَوسّع إسرائيل الكبرى.

فكيف تُسهم هذه القوى في تفكك الكيان إلى "دولة يهوذا" و"دولة إسرائيل"؟

يرى المؤلف أن جميع هذه الإجراءات والإستراتيجيات، عند تطبيقها بالواقع، متصلة جدليا (وتفاعلا كليا) بعمليات أخرى. وكما لعبة البلياردو، تؤثر على عمليات أخرى. فكلما كان توسع إسرائيل أكثر عدوانية، وإجراءاتها العقابية أكثر وحشية، بمختلف أنحاء العالم العربي؛ يخضع العالم العربي نفسه لتغيير داخلي لم يحدث سابقا.

لم يُؤدِ " الربيع العربي " لتغيير الأنظمة الحاكمة جذريا، لكنّ تصعيد التوسع الإقليمي الإسرائيلي وإجراءاته الانتقامية سيؤدي لثورات مستمرة. فما بدأ عام 2011، كأحد تجليات أي نظام سياسي عربي جديد، قد ينتج أنظمة وحكاما وحكومات ونخبا سياسية، تعكس بدقة أكبر ما تريده المجتمعات العربية من دولها بشأن فلسطين.

وعندها، لن تواجه إسرائيل جيشين صغيرين من العصابات المسلحة تستطيع مواجهتهما، مع أنها لم تتمكن من هزيمتهما، لكنها ستواجه جيوشا تقليدية. أما التحدي الثاني فهو اقتصادي؛ فالتوسع بهذا الشكل الجنوني، كما حال الحكومات الشعبوية ، أينما كانت، له ثمن اقتصادي فادح.

مسارات التفكك

كان تصور مسارات أو خريطة طريق لتفكك الدولة الإسرائيلية بالواقع في كتاب بابيه، هو الجزء الأصعب. لم يكن صعبا عليه تخيل شكل فلسطين التاريخية عام 2048. لكنّ سؤال دعاة حل الدولة الديمقراطية الواحدة هو كيفية الوصول إلى هناك؟ وما كان يحاول فعله في الجزء الثاني من الكتاب، بطريقة تخيلية ما، من خلال خبراته وتأملاته كرجل عجوز ينظر للوراء، لاستيعاب ما سيحدث -على الأقل- بعد عقدين. لكنه حاول تجنب رسم صورة وردية لإنهاء الاستعمار، والفوضى المرافقة.

إعلان

لم يشهد التاريخ عملية تصفية استعمار واحدة سلمية أو سلسة. لذلك حاول بابيه أن يكون واقعيا، فيُدرج فيها نكسات محتملة وعنفا، ويأمل أن يكون محدودا، وليس القاعدة بل الاستثناء. كما حاول إظهار التأثير التراكمي لإجراءات دراماتيكية يمكن لمختلف أطراف المعادلة أن يتخذوها للتأثير في الواقع.

فمثلا، يعتقد أن تغييرا ما سيحدث بمنظمة التحرير الفلسطينية . لا يعلم إن كانت منظمة تحرير أخرى، أو ستكون حركة تحرير جديدة، لكنه يعتقد أن صوتا فلسطينيا أوضح سيتخلى عن حل الدولتين ، وسيحشد أوسع نطاق فلسطيني حول رؤية وبرنامج يُرغم العالم على القول إن هذا هو الموقف الفلسطيني، وليس موقف جماعة منعزلة أو فصيل آخر، بل رؤية رسمية لمجمل حركة تحرير فلسطين.

وسيصبح هذا أكثر واقعية إذا ضمت إسرائيل الضفة الغربية، وستحاول ذلك بشكل غير قانوني.

وفي ضوء السياسة الأميركية، يرفض بابيه تبني حتميات غائية مستقبلية. فهو يرى التاريخ دوريا (دورات) وليس خطّيا مستمرا، ولذلك يعتقد بقوة وجود فرصة لظهور نمط مختلف، ليس قريبا من السياسة الأميركية؛ فالقادة الشعبويون مثل ترامب ليسوا أكفاء في إدارة الاقتصاد والاجتماع والعلاقات الدولية.

لذلك يرى أن أي تغيير إيجابي في السياسة الأميركية، سيأتي في المستقبل البعيد، وسيلعب دورا هاما في تضييق خيارات إسرائيل إزاء استمرار الفصل العنصري (أبارتهايد) والتوسع والتطهير العرقي والإبادة الجماعية.

وهنا أمر ينبه إليه المؤلف؛ فرغم أن إسرائيل -في المنازلة الأخيرة (2023 – 2025)- أوقعت بحزب الله انتكاسة عسكرية، وضيقت خيارات إيران وحماس، فإنها تواصل احتلال ملايين الفلسطينيين بالضفة وغزة وداخل إسرائيل ضد إرادتهم، وتواجه ملايين يعيشون بمخيمات اللاجئين على حدود إسرائيل، وتربطهم صلات بمليشيات محلية وحركات مقاومة، وهذا الواقع لن يتغير.

هذا يضاعف الضغط العسكري الخارجي على إسرائيل. لذا يأمُل أن تُفضي الضغوط بنهاية المطاف لحركيات داخلية، وهي الفصل الضروري والأخير في هذا السيناريو. بنهاية المطاف، سيشهد المجتمع اليهودي بإسرائيل آخر تغيير، ويشابه تغيير الجماعة البيضاء بجنوب أفريقيا، إذ سلّمت بأنه لا خيار سوى التفاوض على الواقع.

ربما يبدو الأمر غير واقعي الآن، لكنه حديث عن مستقبل مختلف بأحداث مختلفة وقعت حتى تلك اللحظة القادمة، بما في ذلك جميع الضغوط التي نتحدث عنها. كذلك، لا يشك بابيه بوجود حركتين قادمتين بين السكان في الفصل الأخير:

أولا: الإسرائيليون الذين لا يرغبون بالعيش في دولة بدون فصل عنصري، ويحملون جنسية مزدوجة أو يجدون وظائف جيدة خارج إسرائيل، يمكنهم المغادرة. هذا حدث لبعض أفراد الجماعة البيضاء بجنوب أفريقيا.

ثانيا: ومع بداية حركة عودة الفلسطينيين من بلاد اللجوء والمنافي، وتغير التركيبة السكانية والخيارات السياسية، سيكون مفاجئا للبعض، لكن تجربة بابيه الممتدة 70 عاما مع الفلسطينيين تجعله واثقا تماما بأن الدافع الأساسي للفلسطينيين، لدى الاقتراب من لحظة التحرر من القمع والاستعمار والتطهير العرقي، ليس الانتقام بل التعويض، وإعادة بناء حياتهم الطبيعية التي كانت قبل وصول الصهيونية.

أما النموذج المُلهم، فلن يأتي من النماذج السياسية الأوروبية، بل من حقبة ما قبل عام 1948، حيث تعايش المسلمون والمسيحيون واليهود بصدق، ليس فقط في فلسطين التاريخية، بل في شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا أيضا.

الإنهاك العسكري بشرا وعتادا

يتعرض الجيش الإسرائيلي لضغوط ويعمل تحتها. فالتقارير تُفيد أن أعدادا كبيرة من جنود الاحتياط لم يلتحقوا بوحداتهم ولم يشاركوا في الحرب بغزة، وأن معدلات الإصابات أعلى بكثير مما يُعلن. وهناك تقديرات لعدد الإسرائيليين الذين غادروا البلاد منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعضها يبلغ نصف مليون مغادر.

يبدو أن هناك نوعا من الإنهاك؛ فلم يُنشأ الجيش الإسرائيلي مطلقا لخوض حروب استنزاف. فإسرائيل دولة صغيرة، سكانها 7 ملايين نسمة. لذا، سيكون هناك تأثير لضغوط عسكرية وداخلية تُسهم في سيناريو التفكك والتغيير.

اعتبر بابيه الإنهاك مؤشرا إضافيا على احتمال التفكك، وثمة نوعان من الإنهاك:

الأول: الإرهاق البشري الشديد. فالواضح جدا أن جنود الاحتياط أصبحوا جيشا نظاميا لأنهم يخدمون مددا طويلة منذ عام 2023، تقريبا نفس عدد أيام خدمة جندي نظامي. وأفراد الاحتياط لا يُنهكون فقط بسبب انخراطهم الطويل مع الجيش، بل يفقدون وظائفهم وأعمالهم، ويؤثر ذلك سلبا على عائلاتهم وحياتهم.

الثاني: يتعلق باستهلاك العتاد العسكري. وكما كشفت صحيفة "هآرتس" مؤخرا، هناك مشكلة في المعدات العسكرية، لأن إستراتيجيتها بشأن المعدات التي تنتجها وتشتريها، تستهدف كسب الحرب بثلاثة شروط:

أولها: أن تبدأ إسرائيل الحرب، وهذا لم يحدث عام 2023.

ثانيها: أن الحرب تُخاض على أرض العدو، وهو ما لا يحدث دائما.

ثالثها، والأهم: أن تكون الحروب قصيرة جدا، وإلا ستُصبح حروب استنزاف.

بالطبع لم تتحقق هذه العناصر الثلاثة، وهذا ينعكس أيضا على تدهور جودة المعدات، وقدرتها على خدمة الأهداف السياسية للحكومة. لا تزال إسرائيل تمتلك قوة عسكرية هائلة. لا أريد أن يظن أحد أن الفلسطينيين أو غيرهم يستطيعون هزيمة الجيش الإسرائيلي غدا؛ لسنا هناك بعد. لكنْ هناك إنهاك يعكس أيضا انعدام التماسك الاجتماعي بين من يخدمون عسكريا ومن لا يخدمون.

والخيار الأكثر جاذبية، إذا كنت إسرائيليا ولا تريد أن يخدم أبناؤك في الجيش، كما يحدث بأعداد كبيرة، هو مغادرة إسرائيل. هذا لا يعني أنه ليس هناك شباب إسرائيليون متحمسون للتطوع في الجيش، بل وفي وحدات النخبة. ولا يزال الجيش يملك القوة لقمع المدنيين الفلسطينيين وتدميرهم، وإبادتهم جماعيا، وإرهابهم كما يفعل بالضفة الغربية وداخل إسرائيل.

السؤال الجوهري، بناء على السوابق التاريخية: هل يمكن أن يستمر هذا إلى الأبد؟

التاريخ يُجيب قطعيا: لا. هناك حدّ لمثل هذا السلوك المارق، وهناك حد لإبقاء ملايين الناس عقودا عديدة تحت الحكم العسكري رغما عنهم، خاصة في منطقة يُشكل فيها المستعمِرون أقلية طارئة ضد أغلبية راسخة، وبرغم توازن قوى يُبقي هيمنتهم. لكن بابيه لا يعتقد أن هذا سيستمر في المستقبل القريب أو البعيد.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار