في عصرنا الحالي تتسارع وتيرة التطور التكنولوجي بشكل غير مسبوق، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي ، مما يضعنا أمام تساؤلات فلسفية عميقة حول جوهر الإنسانية ومستقبلها، ولم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية، بل أصبح قوة مؤثرة تلامس كل جوانب حياتنا، من طريقة تفكيرنا إلى علاقاتنا الاجتماعية وأنظمتنا السياسية والاقتصادية.
هذا التحول يدعونا إلى إعادة النظر في مفاهيم مثل الوعي، والهوية، والأخلاق، والحرية، في ظل أنظمة قد تتفوق علينا في الذكاء وتتخذ قرارات مصيرية نيابة عنا. إن فهم هذه التحديات الفلسفية ليس مجرد ترف فكري، بل هو ضرورة حتمية لضمان أن تظل التكنولوجيا خادمة للإنسان ومقوماته الأساسية، لا أن تصبح تهديدًا لوجوده.
من هذا المنطلق، لا يمكننا فصل التقدم التكنولوجي عن الإرث التاريخي والتحيزات البشرية. إن أنظمة الذكاء الاصطناعي، رغم ما يبدو عليها من موضوعية، هي نتاج لبيانات وخوارزميات صاغها البشر، وتحمل في طياتها بقايا الماضي من العنصرية والتمييز والطبقية الاجتماعية.
هذا يطرح سؤالًا فلسفيًّا حاسمًا حول مسؤوليتنا الأخلاقية في مواجهة هذه التحيزات الموروثة، وكيف يمكننا صياغة مستقبل تكنولوجي أكثر عدلًا وشمولية. إن التحدي لا يقتصر على تطوير آلات أكثر ذكاءً، بل يمتد إلى تطوير وعي إنساني أكثر عمقًا وقدرة على توجيه هذه القوة الهائلة نحو تحقيق الأمن البشري والتحرر الاجتماعي، بدلًا من إعادة إنتاج الأخطاء التاريخية بشكل رقمي.
وعليه قامت الجزيرة نت بحوارٍ مع البروفيسور آرشين أديب-مقدم، أستاذ الفكر العالمي والفلسفات المقارنة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن (soas)، وهو زميل في هيوز هول بجامعة كامبريدج، وحاصل على درجة الأستاذية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية باعتباره أحد أصغر الأكاديميين في مجاله. وقد رُشِّح لعضوية اللجنة الوطنية لمؤسسة رويال أنيفرساري تراست التي تمنح جائزة الملكة السنوية، وهي أعلى تقدير لمؤسسات التعليم العالي في المملكة المتحدة .
كما يُعرف أديب-مقدم عالميًّا بأنه فيلسوف وناقد بفضل أعماله في السياسة العالمية، والفلسفة المقارنة، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وتأليفه كتاب "هل الذكاء الاصطناعي عنصري؟ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية" (Is Artificial Intelligence Racist? The Ethics of AI and the Future of Humanity)، الذي يناقش سؤالًا جوهريًّا حول كيفية تسرّب العنصرية إلى الخوارزميات التي تحكم حياتنا اليومية، ويربط بين هذا التحيز وأشكال التمييز في أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة.
يحلل أديب-مقدم كيف تُغذّي البيانات المتحيزة التكنولوجيا، ويستعرض روايات عمالقة التكنولوجيا مثل إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وبيل غيتس، موضحًا كيف تساهم التكنولوجيا في ترسيخ التسلسلات الهرمية الاجتماعية والحدود التمييزية، وهو ما يراه تهديدًا للأمن الدولي وحقوق الإنسان في المستقبل.
يأتي الحوار أيضًا في ضوء كتاب أديب-مقدم الحديث "أسطورة الذكاء الاصطناعي الجيد: بيان من أجل ذكاء اصطناعي نقدي" (The myth of good AI: A manifesto for critical Artificial Intelligence) الصادر عن جامعة مانشستر في مايو/أيار 2025 في 184 صفحة، الذي يفند فيه السردية التي تروّج لها شركات التكنولوجيا حول "الذكاء الاصطناعي الجيد" كحل سحري لمشاكل البشرية، ويكشف المدى الكامل لتأثيره الضار في المجتمع. وقد أشاد دانييل ميخائيلوف، المدير التنفيذي لـ"data.org"، بالكتاب، مشيرًا إلى أنه "يوفر تصحيحًا تشتد الحاجة إليه عبر ترسيخ نقده للذكاء الاصطناعي في نهج الفكر العالمي"، مما يجعله إستراتيجية أساسية للنجاة من الأخطار المحتملة لهذه التكنولوجيا.
خلال الحوار وصف أديب-مقدم الذكاء الاصطناعي بأنه أداة "للحرب الاجتماعية" و"القتل الاجتماعي"، وشبّه هيمنة التكنولوجيا الحديثة بـ"الإمبريالية التكنولوجية" و"استعمار البيانات"، حيث أصبحت بياناتنا الخاصة "النفط الجديد" الذي يُستخرج لخدمة أغراض السيطرة.
ولمواجهة هذه التحديات، يدعو أديب-مقدم إلى المقاومة من منطلق مبدأ "حيث توجد قوة، توجد مقاومة"، ويقترح أن تبدأ هذه المقاومة من المجتمع المدني عبر "التثقيف الذاتي" ودمج مبادئ "إنهاء الاستعمار" في إطار أخلاقي جديد للذكاء الاصطناعي، ويرى أن العالم العربي والإسلامي يمتلك فرصة فريدة لقيادة هذا التغيير من خلال تطوير ذكاء اصطناعي يرتكز على أخلاقيات عالمية ويخدم الأمن البشري، فإلى الحوار:
يجيب الكتاب عن هذا السؤال بطرق مختلفة. يُعدّ تحليل أنظمة الذكاء الاصطناعي التي نتعامل معها اليوم ضمن سياقها المؤسسي والثقافي إحدى الحجج التي أقدمها في الكتاب. لذا، فإن هذه الأنظمة ليست موضوعية بأي حال من الأحوال كما تُقدم لنا. في الواقع، هي محملة ببيانات سيئة يمكن للمرء أن يصفها بأنها بقايا من الماضي. تنبع هذه البيانات السيئة حقًّا من أشكال مؤسسية لبناء المعرفة التي دامت طويلًا وتتغلغل في جميع مؤسساتنا التعليمية، من المدارس فصاعدًا إلى الجامعات. ومن الطرق التي بدأت بها تحليل تلك البيانات النظرُ في كيفية تشكيل أنظمة المعرفة لدينا في المقام الأول.
بطبيعة الحال، تتطلب محاولة الجدال بأن أنظمة الذكاء الاصطناعي تحتوي على بيانات سيئة وأنها ذاتية وليست موضوعية، تقديم أدلة على مصدر هذه البيانات الذاتية السيئة في المقام الأول. لذا، تتمثل إحدى الحجج التي أسعى لتقديمها في أن أنظمة الجامعات، وأنظمة المعرفة، والعلوم التي نتعامل معها حتى اليوم قد نشأت خلال فترة التنوير، أي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تقريبًا في أوروبا.
لقد أحدث عصر التنوير بالطبع اختراعات مذهلة للبشرية، مثل الكهرباء والعديد من الاختراعات الطبية، التي نتجت عنها اختراعات رائعة ودائمة ومفيدة جدًّا لأمن الإنسان اليوم. ولكن في الوقت نفسه، تطورت خلال تلك الفترة أيضًا علوم أكثر خفاءً. كان أحدها العلم الفعلي الذي اعتُبر علمًا للعنصرية. كانت هذه الفكرة تقوم على أن العالم يمكن تمييزه وفقًا للخصائص العرقية. لم تكن هذه مجرد فكرة أو نظرية، بل تم إضفاء الطابع المؤسسي عليها كعلم. وبالطبع، اليوم نطلق عليها علمًا زائفًا، ونسميها عنصرية ذات دلالة سلبية، لكنها في ذلك الوقت كانت تُعتبر علمًا.
لذلك، كان علماء الأنثروبولوجيا يخرجون ويقيسون جماجم الناس لتحديد ما إذا كانوا أكثر نقاءً عرقيًّا أم لا. وُضع البيض على رأس الهرمية العرقية الجديدة. وكان هناك كل هذا الهراء عن الآرية، الذي غذى الاشتراكية الوطنية في ألمانيا، والذي كان الأيديولوجية التأسيسية لنظام الهولوكوست وما حدث بعد ذلك. لذا، كان لكل هذه الأمور الهيكل المؤسسي الأساسي الأولي داخل عصر التنوير. وكان خطاب العنصرية هذا، بالطبع، هو الأساس للعديد من أشكال الاستعمار والإمبريالية.
تجاوزنا بعض الموروثات المؤسسية منذ ذلك الحين، ولكن من الواضح أن بعضها لا يزال قائمًا. فهي لا تقتصر على هياكلنا المؤسسية فحسب، بل تتغذى أيضًا على أشكال مختلفة من الخوارزميات. لذلك، كان أحد طموحات الكتاب هو تضييق الفجوة بين هذا الإرث التاريخي والبيانات السيئة الناتجة عنه من خلال ما يحدث اليوم في مجال الخوارزميات والذكاء الاصطناعي. وقد تم تأطير ذلك ضمن سؤال عما إذا كان الذكاء الاصطناعي عنصريًّا بالفعل. والإجابة هي: نعم، توجد بقايا عنصرية داخل العالم الخوارزمي الذي نتعامل معه يوميًّا.
تُعد أشكال التمييز المختلفة، سواء كانت عنصرية قائمة على الخصائص العرقية، أو أشكالا متنوعة من كراهية النساء والتمييز على أساس النوع الاجتماعي، أو حتى أشكالا أخف مثل التمييز على أساس العمر، ضرورية لتقسيم المجتمع. ولم يكن تنفيذها وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، وكونها أساسا لأشكال الحكم، من قبيل المصادفة؛ فقد كانت أدوات فعلية لتقسيم المجتمع.
بالعودة إلى فترة التنوير، كان علم تحسين النسل، الذي يهدف إلى خلق سلالة رئيسية من خلال الهندسة البيولوجية والاجتماعية، علما فعليا. وقد طُبِّق من خلال أشكال مختلفة من تعقيم المجتمعات المهمشة، وأشكال متعددة من التمييز العنصري في التخطيط الحضري. كانت جميع هذه الأشكال المتنوعة من الحكم تمثل أساسًا أشكالًا من الطبقات الاجتماعية، بهدف فصل الذات النقية، ووضع الرجل الأبيض، والمغاير جنسيًّا في الأعلى، وجميع الآخرين في الأسفل. كانت هذه كلها أشكال حكم لتحقيق تلك الغاية.
في رأيي، كان هذا صراعا اجتماعيا مستمرا تُخنق فيه المجتمعات المختلفة اقتصاديا وماديا، وكذلك من حيث قوتها الخطابية للتعبير عن صوتها. وتوجد نخبة حاكمة تُخضِع، كما تعلمون، الأغلبية الصامتة.
أعتقد أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وكان هذا أحد طموحات الكتاب، مواتية جدا لهذا النوع من الطبقات الاجتماعية، لأنها احتكرت القوة التكنولوجية بشكل أساسي في أيدي عدد قليل من الشركات ورؤسائها التنفيذيين. لذا، فإن هذه التكنولوجيا تحفز حقًّا الصراع الاجتماعي. وفي الوقت الحالي، أعتقد حقًّا أن الأغلبية الصامتة ليست مجهزة جيدًا لفهم ما يحدث.
تناولت الأشكال المختلفة للإمبريالية التي كانت أساسية في عصر التنوير. أدت هذه الأشكال إلى ظهور خطاب عنصري دعم حكم الشعوب الخاضعة. تمحور جوهر الإمبريالية حول التوسع الجيوسياسي والجغرافي، وهو ما يمثل الفكرة الأساسية لكل من الإمبريالية التقليدية والإمبريالية التكنولوجية والاستعمار
تناولت الأشكال المختلفة للإمبريالية التي كانت أساسية في عصر التنوير. أدت هذه الأشكال إلى ظهور خطاب عنصري دعم حكم الشعوب الخاضعة. تمحور جوهر الإمبريالية حول التوسع الجيوسياسي والجغرافي، وهو ما يمثل الفكرة الأساسية لكل من الإمبريالية التقليدية والإمبريالية التكنولوجية والاستعمار. ارتبط الاستعمار حينها بإعادة هندسة التركيبة السكانية من خلال الاستيلاء على أراضي الشعوب الأخرى، بينما كانت للإمبريالية دلالة اقتصادية توسعية أكبر. لكن كلا المفهومين دار في الأساس حول التوسع، والانتقال إلى مناطق أخرى، وغزوها، والاستيلاء على أراضيها.
نعيش اليوم الديناميكية ذاتها مع الذكاء الاصطناعي وهذا النوع من التكنولوجيا، خاصة مع عقلية عمالقة التكنولوجيا وكيفية عملهم. يتمحور الأمر كله حول الوصول والتوسع. لم يعد الأمر يتعلق بالجغرافيا السياسية بقدر ما يتعلق بالتوسع الجغرافي، لأن العالم الرقمي أنشأ مظلة ومصفوفة عالمية تخترق مساحاتنا الخاصة بطرق لم تحلم بها أشكال الإمبريالية القديمة.
تعد هذه التقنية شديدة التدخل وموجودة في كل مكان؛ في غرف المعيشة لدينا، وفي أجهزتنا الشخصية، يتم زرعها بشكل متزايد في شركات ضرورية مثل نيورالينك (Neuralink)، مما يخلق واجهات بين الذكاء الاصطناعي وأنظمتنا المعرفية. إنها تخترق على نطاق لم نشهده من قبل في تاريخ البشرية.
لذلك، تعد هذه التقنية إمبريالية من حيث توسعها، وهي أيضًا شكل من أشكال الاستعمار؛ فالبيانات المستخرجة من مساحاتنا الخاصة، ومن ذواتنا، وهويتنا، وإنسانيتنا، تشبه إلى حد كبير شكل استخراج الموارد الذي كان يدفع ويساند المفاهيم السياسية التي تدعم العقلانية الاستعمارية. ببساطة، نحن النفط الجديد؛ خصوصيتنا وبياناتنا هي النفط الجديد لشركات البيانات هذه.
يشير استعمار البيانات أساسا إلى ذلك، بينما تشير الإمبريالية التكنولوجية إلى هذا التوسع في مصفوفة الوصول إلينا بهدف استخراج البيانات أولا، ثم حكمنا ثانيا، وتشفيرنا ثالثا. لقد قدمت هذه المصطلحات الثلاثة في الكتاب الأخير: التشفير النفسي، والمراقبة الميكروبية، والحرب ما بعد البشرية، وهي تتحدث عن هذه المشاعر المتعلقة بالوصول والحكم والمراقبة والتحكم.
تعد هذه التقنية إمبريالية من حيث توسعها، وهي أيضًا شكل من أشكال الاستعمار؛ فالبيانات المستخرجة من مساحاتنا الخاصة، ومن ذواتنا، وهويتنا، وإنسانيتنا، تشبه إلى حد كبير شكل استخراج الموارد الذي كان يدفع ويساند المفاهيم السياسية التي تدعم العقلانية الاستعمارية. ببساطة، نحن النفط الجديد؛ خصوصيتنا وبياناتنا هي النفط الجديد لشركات البيانات هذه
أومن دائمًا بمبدأ "حيث توجد قوة، توجد مقاومة". هذه العبارة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو تلخص حقيقة علمية: كل شكل من أشكال القوة يخلق مقاومته الخاصة. على سبيل المثال، ولد الاستعمار حركات مقاومة ومعاداة الاستعمار، وحركات استقلال تبنت في كثير من الأحيان لغة العنف التي فُرضت عليها من قبل الأنظمة الاستعمارية. وقد وثق فرانز فانون وآخرون هذا الأمر في كتاباتهم، بغض النظر عن مدى إيمان المرء بذلك. النقطة الأساسية هي أن ممارسة القوة تستفز نوعًا معينًا من المقاومة.
نشهد اليوم ديناميكية مشابهة مع قوة الذكاء الاصطناعي. لقد أدت هذه القوة إلى ظهور جيوب مقاومة خاصة بها، وحركات مجتمعية تقاوم إنشاء مراكز بيانات كثيفة الموارد. يناقش كتابي الأخير كيف حدث هذا في جنوب إسبانيا وبعض مناطق أميركا الجنوبية، حيث تنظمت حركات مجتمعية للذكاء الاصطناعي، يمكننا تسميتها حقًّا، حول بيان للذكاء الاصطناعي النقدي، وبيان لحماية خصوصيتنا، وأشكال مختلفة من الحركات النشطة ذات الدوافع العالمية. تعمل هذه الحركات، مثل أنونيموس (Anonymous) الشهيرة، على نطاق عالمي وتستخدم وسائلها التكنولوجية الخاصة لتعطيل بعض أنظمة القوة التي تعتبرها قمعية.
تظهر طرق مختلفة للمقاومة التكنولوجية في جميع أنحاء العالم. والأهم من ذلك، كما تثبت الأبحاث، أنها تنبع من القاعدة إلى القمة؛ أي من المجتمع المدني، ومن رغباتنا نحن، الأفراد، في أن يحمي الذكاء الاصطناعي أمننا البشري بدلًا من تهديده. من هذا المنطلق المشترك والعالمي، يتولد وعي مشترك بكيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الأمن البشري، وتحسين الروابط المجتمعية، وحقوق الإنسان، والتحرر الاجتماعي، وكل ما هو أساسي لمجتمع عامل وصحي.
تتجاوز الأمثلة التي ناقشناها حتى الآن كونها مجرد أفكار تجريدية؛ ففهمي للتفكير السليم يبدأ بنظام يومي فردي للتثقيف الذاتي يمكن لكل شخص اتباعه في خصوصيته. يتضمن هذا الفهم كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي فينا، وكيف يمكن استخدامه لأغراض جيدة على المستويين الفردي والمجتمعي. كما يتطلب فهم كيفية تنظيم أنفسنا داخل المجتمعات لحماية خصوصيتنا.
يتعين على المحامين والفلاسفة التعاون لإنشاء نظريات وأنظمة قانونية تحمي أمننا البشري. يبدأ الأمر حقًّا بهذا التثقيف الذاتي، حيث يجب أن نملأ مكتباتنا بكتب عن الذكاء الاصطناعي، والنظرية النقدية، والآثار الضارة للتكنولوجيا. علينا أن نتعمق في هذا الوعي الذاتي حول كيفية حماية أنفسنا وأحبائنا في حياتنا اليومية.
أعتقد جازمًا أن الأمر بهذه الخطورة. إذا لم يكن هناك جهد واعٍ منا بوصفنا مواطنين ديمقراطيين للتثقيف الذاتي في عصر الذكاء الاصطناعي هذا، فسيصعب حقًّا فهم كيفية مقاومة هذه الأنظمة العملاقة أولًا، ثم استخدامها أيضًا لحماية أنفسنا وأحبائنا.
يتناول كتابي الثاني "أسطورة الذكاء الاصطناعي الجيد"، الطريقة التي يُسَوَّقُ بها الذكاء الاصطناعي لنا كحل سحري سيغير كل شيء إلى الأفضل، ويخلق حالة بشرية أفضل، أو يدفعنا نحو مجتمع فاضل تسوده السعادة. أرى، ومعي العديد من الباحثين والصحفيين والناشطين، أن هذا مجرد خدعة تسويقية لبيعنا منتجًا. لذا، يجب أن نكون متشككين في شعار "الذكاء الاصطناعي الجيد" هذا.
يبحث الكتاب في روايات عمالقة التكنولوجيا ورؤسائهم التنفيذيين، من أمثال إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وغيرهم، لكشف عقليتهم وكيف يقومون بتشفير شركاتهم لبيع فكرة ما أسميه "أسطورة الذكاء الاصطناعي الجيد". إنه نظام أيديولوجي يُسوق على أنه يدعم الأمن البشري، بينما يقوضه في الواقع بشكل يومي. يوضح الكتاب الطرق المختلفة التي يعمل بها هذا الأمر مؤسسيًّا، ونظاميًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، وكيف يتغذى على أشكال مختلفة من التمييز والقمع، سواء كان سياسيًّا أو غير ذلك.
للإجابة عن سؤالك حول كيفية التغلب على هذه التحديات، يجب أن تكون نقطة البداية حركة اجتماعية تدعم الذكاء الاصطناعي المجتمعي والذكاء الاصطناعي النقدي. لهذا السبب، فإن العنوان الفرعي للكتاب هو "بيان نقدي". نحتاج إلى جهد مجتمعي لتنفيذ أشكال من الذكاء الاصطناعي تدعم أمننا البشري.
لا يمكن تحقيق ذلك بدون نوع من التفاعل مع الحكومة في المجتمعات الديمقراطية، وهذا ممكن عندما ينظم المجتمع المدني نفسه. لقد أظهر لنا التاريخ أن هذا ممكن. ولكن في الوقت الحالي، لا يزال الأمر في مراحله الأولى، لأننا نواجه تركيزًا هائلًا للقوة في أيدي عمالقة التكنولوجيا، وتركيزًا هائلًا للقوة إلى جانبهم على الحكومات التي تتنافس مع هؤلاء العمالقة.
تحتاج الأغلبية الصامتة في المجتمع، في رأيي، إلى التثقيف -إذا لم يبد ذلك متعجرفًا للغاية- لفهم ما يحدث بالفعل. وهذه هي الفكرة وراء ما يسمى بالذكاء الاصطناعي النقدي: إحداث هذا الوعي على أساس فهم عالمي لكيفية استخدام الذكاء الاصطناعي ليكون جيدًا حقًّا، ويكون داعمًا للأهداف التي تستند في المقام الأول إلى احتياجات المجتمع بدلًا من الربح والقوة وغير ذلك.
يجب أن تكون نقطة البداية حركة اجتماعية تدعم الذكاء الاصطناعي المجتمعي والذكاء الاصطناعي النقدي. لهذا السبب، فإن العنوان الفرعي للكتاب هو "بيان نقدي". نحتاج إلى جهد مجتمعي لتنفيذ أشكال من الذكاء الاصطناعي تدعم أمننا البشري.
يعد "الاستشراق التكنولوجي" جانبًا آخر من جوانب التمييز، له سابقة وتاريخ طويل. صاغ مصطلح "الاستشراق" الراحل العظيم إدوارد سعيد، الذي نفتقد صوته بشدة هذه الأيام. يشير المصطلح إلى خطاب تطور بشكل أساسي خلال عصر التنوير، وكان يهدف إلى إدارة الشرق الخاضع سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. كان هذا الخطاب وراء الاستعمار والإمبريالية، كما ذكرنا سابقًا، وكان ضروريًّا لحكم الأعراق الخاضعة التي أُعلنت أدنى من قبل العلم. لقد كانت لحظة مروعة بشكل لا يصدق في تاريخ البشرية؛ فلأول مرة، تطور علم يصنف البشر وفقًا لخلفيتهم العرقية. ولم يُدرس هذا العلم في الجامعات والمدارس فحسب، بل كان أيضًا نظام الحكم الذي مكّن من حكم الأعراق الأخرى باسم "تمدينها".
لا تزال نظريات مثل "صراع الحضارات" قائمة، وما زلنا نمتلك خطابات سياسية تتحدث عن "تمدين" البلدان الأخرى، وما زلنا نشهد حروبًا تُشن باسم "الحضارة". لا يزال هناك مفهوم كامل لصراع "البربرية" ضد "الحضارة" في جميع الصراعات التي نشهدها في منطقتنا وفي العالم بأسره. دائمًا ما يكون هناك هذا التركيز على أننا "نحن الأخيار، والآخرون هم الأشرار، نحن المتحضرون، والآخرون هم البرابرة"، وذلك لتبرير العنف والموت والدمار. هذا في الأساس تأثير مستمر لخطاب التنوير، و"الاستشراق التكنولوجي" مثال جيد على ذلك.
يمثل "الاستشراق التكنولوجي" أو خطاب الاستشراق، أداة لنقل التمييز إلى العالم الرقمي. وهو ما تنتج عنه قرارات رهن عقاري سلبية للأشخاص ذوي الأسماء العربية والإسلامية، وقرارات سيئة بعودة الإجرام للأقليات. كما ينتج عنه مفهوم خاص للآسيويين بأنهم دقيقون وفعالون، وأنواع أخرى من الصور النمطية. جوهر أشكال التمييز هذه هو اختزال الأفراد إلى تعميمات وخطابات لا تعترف بفرديتهم، وبالتالي تجردهم من الذاتية والفاعلية. هذا هو الغرض الأساسي، سياسيًّا واجتماعيًّا، للخطابات التمييزية، سواء كانت عنصرية بشكل أكثر تجريدًا أو أكثر تحديدًا وموجهة. "الاستشراق التكنولوجي" مجرد مثال آخر على ذلك، وقد طبقته على المجال التكنولوجي وحاولت أن أنظر في كيفية عمله في مجال الذكاء الاصطناعي.
نحن على بعد خطوة واحدة فقط من أنظمة تستطيع قراءة الاستجابات العاطفية بدقة واستخدامها في التعذيب النفسي (شترستوك)يمتلك التعذيب تاريخًا طويلًا ومحزنًا في الدراسات الأكاديمية، وقد شهد علاقة شريرة بين العلم وممارساته. تدور أشكال التعذيب الحديثة حول تدمير إنسانية الشخص، وفرديته، وذاتيته، وتجريده من جوهره الإنساني. لا يتعلق الأمر بالقتل أو التدمير الجسدي الكامل؛ بل على العكس، فقد وظّفوا الأطباء وعلماء النفس في أشكال التعذيب الحديثة لضمان أن يظل الشخص يعمل على مستوى أدنى جدًّا، لكنه مدمر عقليًّا بشكل أساسي.
تُجرى حاليًّا تجارب مختلفة تُستخدم فيها أشكال من الذكاء الاصطناعي لفك شفرة عقلية الشخص، واكتشاف نقاط ضعفه للتلاعب بهذه السمات الفردية وتدمير فرديته. هناك باحثون يجادلون بأن "الذكاء الاصطناعي الثقافي" يمكن أن ينتج شكلًا "أكثر إنسانية" من التعذيب، وكأن هذا ممكن على الإطلاق! في الكتاب، أقدم حجة قوية ضد استخدام الذكاء الاصطناعي الثقافي وسيلةً لتعزيز ما يسمى بـ"أشكال أكثر إنسانية من التعذيب".
إذا ذهبت إلى "تشات جي بي تي" (ChatGPT) وسألته عن السمات الفردية لشخص معين يمكن الوصول إليه عبر الإنترنت، فسيعطيك ملفًّا نفسيًّا. يمكن بعد ذلك استخدام هذا الملف بسهولة في خطوة ثانية للسؤال عن كيفية التلاعب بالشخص.
هذا يضعنا على بعد خطوة واحدة فقط من أنظمة متطورة للغاية يمكنها قراءة الاستجابات العاطفية، وقراءة نفسية الشخص بطريقة شاملة للغاية، يمكن بعد ذلك استخدامها بسهولة في التعذيب. وبالفعل، تُستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي العاطفي على نطاق واسع في عمليات التوظيف، وفي قرارات الرهن العقاري، وفي مجالات مختلفة من التعليم. لذا، لا أتحدث عن مستقبل بعيد بـ100 عام؛ فالكتاب يتناول ما يحدث هنا الآن، وكيف سيتطور في المدى القصير إلى المتوسط.
هناك دائمًا المجال التجريدي المؤسسي المنهجي، والمجال اليومي الأكثر واقعية. على المستوى التجريدي المنهجي المؤسسي، نحتاج إلى إعادة كتابة أرشيفاتنا لتكون أكثر استجابة للأخلاقيات العالمية، أي لشكل من أشكال الأخلاق المتوافقة تمامًا مع الفكر العالمي الذي لا يتركز على منظور معين، سواء كان أوروبيًّا، أو صينيًّا، أو أي شكل هرمي للمعرفة قد تتخيله. فالمعرفة المنحرفة هي دائمًا "علم سيئ" وتنتج دائمًا "بيانات سيئة".
يجب أن نتعلم هذا من أرشيفاتنا ومن تجارب الاستعمار؛ نحن لا نتحدث عن الماضي من أجل السعي للانتقام، بل من أجل العلم نفسه. دعونا لا نكرر أخطاء الماضي. لقد كانت الإمبريالية كارثة والاستعمار كان شرًّا واليوم "الإمبريالية التكنولوجية" كارثة و"استعمار البيانات" شرّ جديد؛ هذه الممارسات سيئة لأن بقاياها لا تزال موجودة في مؤسساتنا.
من أجل علم أفضل وأخلاقيات أفضل، نحتاج إلى الاستجابة لأنظمة فكرية أخرى؛ لهذا السبب، أقدم الحجج الفكرية لفهم عالمي للأخلاق. أقدم عدة أمثلة من جميع أنظمة الفكر الرئيسية تقريبًا، مع التركيز بشكل خاص على أفكار الفلاسفة العرب والفرس والمسلمين، نظرًا لجذورِ تعليمي، لكنني حاولت أيضًا تقديم أمثلة أخرى من مجالات ثقافية أو حضارات أخرى.
النقطة الأساسية هي أننا نحتاج على المستوى المؤسسي والعلمي إلى فهم عالمي للأخلاق يدرك أن جميع أشكال السلوك الأخلاقي هي في الأساس عالمية، وأنها ناتجة عن صراعات عالمية. هذا يحدث بالفعل في الجامعات مع أجندة إنهاء الاستعمار التي تحدثنا عنها.
لذا فهو ليس شيئًا خياليًّا على الإطلاق؛ لقد حدث في السابق بالفعل على غرار حركات مثل "حياة السود مهمة" و"أنا أيضًا"، وهي مظاهر سياسية حقيقية لإنهاء الاستعمار. لذا فهذا يحدث بالفعل على المستوى المؤسسي التجريدي المنهجي.
يناقش الصحفيون والناشطون والباحثون والمثقفون يوميًّا، على المستوى اليومي، أهمية أن تكون الفرق التي تبرمج أنظمة البيانات والخوارزميات شاملة ومتعددة التخصصات. فلا يمكن أن يقتصر الأمر على مهندسي الكمبيوتر والبرمجيات وخبراء تكنولوجيا المعلومات فقط؛ بل يجب أن تضم هذه الفرق متخصصين في النوع الاجتماعي، وملمين بدراسات العرق النقدية وفلاسفة. يجب أن يكون الجهد متعدد التخصصات، تمامًا كما نحاول أن نكون متعددي التخصصات في أبحاثنا.
تقنيات الذكاء الاصطناعي التفاعلية تدرب عقولنا على أن تكون أقل انتقادًا وأكثر اعتمادًا على الإشباع اللحظي (شترستوك)نحتاج على أساس يومي، إلى فرق شاملة من حيث التكوين التخصصي، وأيضًا من حيث التنوع العرقي والجنسي. ويمكن تنفيذ ذلك حتى من الناحية القانونية، عندما تتبنى الحكومة أخيرًا بعض الأفكار التي يطورها الناشطون والعلماء النقديون. هذا سيجعل هذه الفرق أكثر استجابة للتكوين الحقيقي لمجتمعاتنا، التي تتسم بالتنوع والشمولية وتحاول أن تكون شاملة قدر الإمكان.
يمثل هذا سؤالًا روحيًّا في جوانب عديدة، وربما يتطرق إلى أحد أخطر جوانب الذكاء الاصطناعي. لقد خصصت قسمًا من الكتاب لمناقشة هذا الموضوع. تكمن القضية الأولى في أن عقلية وادي السيليكون يمكن مقارنتها بسهولة بالدين. إنها بمثابة جماعة متصلة بالشبكة من الأشخاص الذين يؤمنون برؤية عالمية معينة يتشاركونها. تتميز هذه الرؤية بكونها رأسمالية، وتتعلق بالتوسع، وهي طوباوية، وتركز على تنظيم الجميع حول مسعى أو أجندة معينة. لذا فهي أيديولوجية تمامًا بالطريقة التي أسسناها بالفعل. هذه كلها مكونات رئيسية لمجتمع ديني.
يعد هذا التطور فوريًّا ويسهل الوصول إليه. فإحدى المشكلات التي واجهتها الأديان التقليدية هي إمكانية الوصول إلى الله؛ فالله "ليس كمثله شيء" وهو "الأول" قبل كل شيء. في المسيحية واليهودية نجد مفاهيم عن الله الضروري والبعيد، بعد الله في المنظور المسيحي اليهودي هو ما مهد الطريق للعلمنة.
مع هذه الأديان الجديدة الناشئة عن الذكاء الاصطناعي، أصبح استدعاء الإله أمرًا فوريًّا، فهو وفق منظومتهم موجود في التطبيق، ويمكنه إخبارك بالضبط بما يجب عليك فعله. أرى هذا تطورًا كبيرًا في المستقبل، وأن أديان الذكاء الاصطناعي هذه ستنتشر. سنرى قريبًا وعاظًا يتولون دور واعظ الذكاء الاصطناعي، وستكون هذه حركة كبيرة في مجال التكنولوجيا.
وكما أشرت، فإن عمليات البحث على غوغل عن أصدقاء الذكاء الاصطناعي، والأزواج، والزوجات، تفوق بكثير أي بحث آخر؛ هذا أحد أعلى عمليات البحث. وبالتالي، يرغب الناس في الإشباع الفوري. تدرب هذه التقنيات عقولنا على أن تكون أقل انتقادًا وتعقيدًا، لتتوق إلى الإشباع الفوري. إنه مثل الوجبات السريعة لأنظمتنا التعاونية، ووجبات سريعة لتفكيرنا. وبمجرد أن نصبح مدمنين على هذا النوع من "الوجبات السريعة"، فإننا نريد المزيد منها. لذا، فإن إلهًا فوريًّا يمكن الوصول إليه يبدو لي نتيجة منطقية لما نشهده من تسارعٍ في عالم التقنية.
ما تخيله الخيال العلمي في "عالم جديد شجاع" و"1984″ و"المدمر" أصبح واقعًا ملموسًا في عصر الذكاء الاصطناعي (الجزيرة)لقد بُرمجنا على التفكير بمصطلحات الخيال العلمي الذي رأيناه، ومن المخيف حقًّا أن ما تخيلوه أصبح حقيقة. فـ"عالم جديد شجاع" لهكسلي و"1984″ لجورج أورويل كانا محقين، وحتى "المدمر" (Terminator) في تصويره لحرب ما بعد البشر وما يفعله الذكاء الاصطناعي في هذا المجال كان دقيقًا.
بدأت البلدان بالفعل في تجريب جيوش الروبوتات، ونرى ذلك يُستخدم في حروب مختلفة. في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لأول مرة في تاريخ البشرية استُخدمت الأجهزة الشخصية كأسلحة، مثل أجهزة النداء التي انفجرت في لبنان مستهدفة مقاتلي حزب الله .
هذا يوضح مدى فظاعة الوضع، ويعني أن أي جهاز نستخدمه يمكن تسليحه، بما في ذلك أدوات الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها أطفالنا أو آباؤنا أو أمهاتنا. كانت هذه قفزة كبيرة نحو شيء لم يفعله أحد من قبل، وهو أمر مخيف للغاية.
أعتقد أن فهم هذا الأمر ضروري لصياغة أشكال المقاومة التي تحدثنا عنها. خلق الوعي هو الخطوة الأولى؛ لن نتوقف عند هذه المرحلة ونقول "لا يمكننا فعل أي شيء حيال ذلك". ستكون الخطوة التالية، بمجرد وجود الوعي والإلحاح، هي صياغة أشكال المقاومة المختلفة.
الهدف ليس القول إن تقنيتنا سيئة، بل استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي لتحسين الأمن البشري وجميع الأشياء التي ذكرناها هي المهمة؛ ليس أن نقول إننا لا نريد التكنولوجيا، أو أننا نريد أن نعود إلى العصور الحجرية أو الوسطى. لقد تعرضت للمعاتبة في مقابلات سابقة لقولي إنني لا أريد التكنولوجيا، لكن الأمر لا يتعلق بذلك.
ما نريده هو تقنية تستجيب لإنسانيتنا ولا تهددها. وتقنية الذكاء الاصطناعي، كما نختبرها اليوم، يمكن أن تصبح تهديدًا كبيرًا لإنسانيتنا. لماذا؟ لأنها أول قفزة تكنولوجية في أنظمة ستكون أفضل منا في كل شيء تقريبًا. من هنا جاء مصطلح الذكاء الاصطناعي، فهو لا يحاكي ذكاءنا فحسب، بل هو أفضل منه في الواقع. وهذا يتطلب في رأيي نهجًا مسؤولًا للتحرك.
أظهر " الربيع العربي " في رأيي، أنه من الممكن حشد الناس في حركة عالمية باسم التحرر، وباسم الأمن البشري، وباسم المساواة. فلماذا لا يكون هذا ممكنًا لهذه المجتمعات عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي؟
يمثل هذا الأمر قضية محورية، خاصة أن العالم العربي والإسلامي كان تاريخيًّا في قلب العديد من أشكال الاضطهاد التي ناقشناها، ولا يزال يواجه تحديات في قضايا متعددة. لكن هنا تكمن الفرصة مع الذكاء الاصطناعي. وذلك إذا أمكن، منذ البداية، ومع توفر رأس المال في شبه الجزيرة العربية بشكل خاص، ورأس المال البشري في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، تطبيق المبادئ الأخلاقية التي تحدثنا عنها في هذه المقابلة.
يجب أن يتم ذلك بناءً على الأنظمة الأخلاقية التي تحكم المجتمعات المتنوعة التي نوجد فيها، والبدء مما هو إيجابي في مجتمعاتنا. هذه هي أفضل نقطة ينبغي البدء بها. ومن هناك يمكننا بناء أنظمة تعليمية ومؤسسية تعمل على تطوير ذكاء اصطناعي نافع للبشرية جمعاء، وهذا سيكون مساهمة فريدة.
لا أرى هذه المساهمة تأتي من الحكومات الحالية في معظم أنحاء العالم، ولا من الطبقة السياسية. كما لا أراها تأتي من عمالقة التكنولوجيا بسبب توجههم نحو الربح والجوانب الأخرى التي تحدثنا عنها. لذا، لا يمكن أن تأتي إلا من المجتمع.
لقد أظهر " الربيع العربي " في رأيي، أنه من الممكن حشد الناس في حركة عالمية باسم التحرر، وباسم الأمن البشري، وباسم المساواة. فلماذا لا يكون هذا ممكنًا لهذه المجتمعات عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي؟ مع نوع الأرشيفات الفكرية المتاحة، ومع نوع التفكير والمواهب المتاحة على نطاق عالمي، يتطلب الأمر فقط إرادة مؤسسية وتعليمية، من القاعدة إلى القمة. ثم أيضًا، العمل الجماعي لإحداث ذكاء اصطناعي نقدي حقيقي من شأنه أن يضيف شيئًا إلى الخطاب العالمي الذي لا نملكه حاليًّا.