على تخوم مدينة تدمر السورية، تحوّلت لحظة كان يفترض أن تمرّ بهدوء، يوم السبت الماضي، إلى مشهد أمني بالغ التعقيد، بعدما اخترق وابل من الرصاص المكان، مستهدفاً قوات أميركية وعناصر من الأمن السوري.
لم تتوقف تداعيات الهجوم الذي أسفر عن مقتل جنديين أميركييْن ومدني أميركي، إضافة إلى عدد من الإصابات، عند الخسائر البشرية، بل امتدّ صداها إلى هوية المنفّذ والملابسات المحيطة بالهجوم.
فقد أعلنت وزارة الداخلية السورية أن مطلق النار هو عنصر في الأمن السوري مرتبط بتنظيم “داعش”، ما أعاد طرح أسئلة حسّاسة حول طبيعة الاختراقات داخل الأجهزة الأمنية الناشئة وحدودها، ومدى قدرة السلطة السورية الجديدة على ضبط بنيتها العسكرية والأمنية.
ضمن خطة المرحلة الانتقالية، دعا الرئيس السوري أحمد الشرع قادة الفصائل المسلّحة إلى حلّ تشكيلاتهم ودمجها ضمن مؤسسة عسكرية واحدة تحت مظلة وزارة الدفاع.
وفي 17 مايو الماضي، أعلن وزير الدفاع السوري اللواء مرهف أبو قصرة دمج الوحدات العسكرية ضمن الوزارة بهدف “توحيد البنية العسكرية في إطار مؤسسي واحد”، مع منح مهلة للفصائل المتبقية للالتحاق، محذراً من تبعات قانونية بحق المتخلّفين.
إلا أن مراقبين يؤكدون أن وتيرة الدمج السريعة لم تترافق مع عملية تدقيق معمّقة في الخلفيات الفكرية والسياسية للمنتسبين، ما أتاح انضمام عناصر تحمل توجهات سلفية جهادية إلى القوى الأمنية الجديدة.
وفي هذا السياق، يقول الخبير العسكري والاستراتيجي عصمت العبسي إن “المؤسسة العسكرية السورية تشهد مسار اندماج متسارع للفصائل المسلّحة تحت مظلّة وزارة الدفاع، عبر إعادة هيكلة الفرق، توحيد الرواتب، وفرض الانضباط، ما يعكس انتقالاً فعلياً من تعدد التشكيلات إلى هيكل مركزيّ واحد”.
ورغم هذا التقدم، لا تزال بعض الإشكاليات قائمة، أبرزها وفق ما يقوله العبسي لموقع “الحرة” “الجدل حول التمثيل ونفوذ فصائل كبرى سابقة، ما يُبقي السؤال مفتوحاً حول طبيعة الجيش الحالي: جيش موحّد أم اتحاد ميليشيات؟ وإن كان يميل إلى التوحيد المؤسساتي إذا استمر الدمج على مستوى الأفراد وأُغلقت قنوات التمويل والقرار الموازي”.
هذا الواقع أدى، كما يؤكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، إلى توثيق “حالات قتل وإعدام ميداني وتجاوزات جسيمة بحق المدنيين والأقلّيات، شملت مجازر خطيرة في مناطق متعددة، ولا سيما في الساحل السوري والسويداء، وأسفرت عن سقوط مئات الضحايا، بينهم نساء وأطفال”.
كما وثّق المرصد، بحسب ما يقوله عبد الرحمن لموقع “الحرة” “حالات قتل وخطف واقتحام حواجز مسلحة واعتقالات تعسفية في عدة مناطق، في ظل حالة الفوضى الأمنية وانتشار المقاتلين المدمجين ضمن القوات الجديدة دون ضبط فعّال”.
يرى الباحث والكاتب الأردني، الخبير في الحركات الإسلامية، الدكتور حسن أبو هنية، أن الحديث عن نفوذ التيار الجهادي داخل الجيش السوري الجديد مرتبط بطبيعة المرحلة الانتقالية، التي لا تزال تشهد عمليات تشكيل وإعادة هيكلة داخل وزارتي الدفاع والداخلية. ويؤكد أن الوضع الراهن لا يزال في “مرحلة البدايات”، ولم يصل بعد إلى الاستقرار المؤسسي.
ويوضح أبو هنية لموقع “الحرة” أن المكوّن البشري الأساسي في الجيش الجديد يتشكل بشكل رئيسي من فصائل ذات خلفيات جهادية متنوعة، من بين هذه القوى، “تبرز هيئة تحرير الشام، التي بلغ عدد مقاتليها في إدلب سابقاً نحو 12 ألف مقاتل، إضافة إلى حوالي 3500 مقاتل أجنبي تم دمجهم لاحقاً ضمن وزارة الدفاع، بينهم عناصر من الحزب الإسلامي التركستاني وما يقارب 3 آلاف مقاتل من الإيغور، إلى جانب مجموعات من الطاجيك والأوزبك”، مشيراً إلى أن “عدداً كبيراً من المقاتلين الأجانب يهدف للعودة إلى بلدانهم الأصلية”.
كما يضم الجيش الجديد، بحسب أبو هنية، “الجيش الوطني السوري السابق المدعوم من تركيا، الذي كان يضم نحو 35 ألف مقاتل موزعين على نحو 40 فصيلاً، وكان تركيزه منصبّاً على منع قيام كيان كردي مستقل، فيما لا تزال توجهاته ودوره بعد سقوط النظام السابق غير واضحة”.
يضم الجيش السوري الجديد عدداً من كبار القادة العسكريين الذين يمتلكون خلفيات جهادية، من أبرزهم بحسب ما ذكر “ معهد ألما ” الإسرائيلي المتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية:
– وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، القائد السابق في هيئة تحرير الشام.
– نائب وزير الدفاع محمد خير حسن شعيب “أبو الخير تفتناز”.
– رئيس الأركان علي نور الدين النعسان “أبو حمزة”.
– قائد الحرس الجمهوري عبد الرحمن حسين الخطيب “أبو حسين الأردني”، المطلوب أمنياً في الأردن.
– قائد القوات الجوية عاصم رشيد الهواري “أبو القاسم بيت جن”.
كما تقود شخصيات ذات خلفيات مماثلة وحدات عسكرية بارزة، بينها الفرقة 40 المرتبطة سابقاً بـ”أحرار الشام”، والفرقة 52 التابعة لهيئة تحرير الشام، والفرقة الثانية والثمانون التابعة لـ”أنصار التوحيد”، والتي وثّقت مشاهد لعناصر منها وهم يرتدون شارات تنظيم “الدولة الإسلامية” خلال معارك السويداء، كما يقول المعهد.
وحول تأثير الخلفيات الجهادية لبعض القادة، يوضح العبسي أنها “أسهمت في رفع الكفاءة التكتيكية في سياقات الحرب غير النظامية، لكنها لا تكفي لبناء عقيدة وطنية دائمة”. ويشير إلى “جهود تبذلها هيئة التوجيه المعنوي لتوحيد المرجعية الفكرية وصياغة عقيدة قتالية وطنية، بهدف الوصول إلى نموذج جيش وطني محترف”.
ويحذر العبسي من خطورة تباين المرجعيات الأيديولوجية والولاءات العابرة للحدود، معتبراً أنها “تهدد تماسك أيّ جيش، كما أظهرت تجارب في اليمن وليبيا والسودان. وفي الحالة السورية، يزيد تداخل نفوذ فصائل ذات دوافع دينية وقوى حكم ذاتي مدعومة خارجياً من صعوبة توحيد القرار العسكري، ما يجعل أيّ خلل في سلسلة القيادة خطراً مباشراً على الانضباط والفعالية”.
أما عبد الرحمن فيحذر من أن “ضم فصائل ذات خلفيات متعددة، بما فيها فصائل سبق أن ارتكبت انتهاكات جسيمة خلال سنوات الحرب، مثل بعض فصائل الجيش الوطني، إلى هيكلية الجيش الجديد، يثير مخاوف حقيقية من استمرار أنماط الانتهاكات السابقة تحت غطاء رسمي جديد”.
تشير دراسة لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي إلى أن الجيش السوري الجديد يبدو أقرب إلى “اتحاد ميليشيات تحت مظلة الدولة” منه إلى جيش موحد يحتكر استخدام القوة. فالفصائل، رغم الدمج الرسمي، ما تزال تحتفظ بتسلسلها القيادي الداخلي، ما يمنحها قدرة على العمل المستقل في أوقات الأزمات ويزيد من هشاشة الاستقرار.
ويرى خبراء أن الخليط القائم في القوى الأمنية الحالية من ضباط سابقين، وقادة فصائل، ومقاتلين أجانب، يشكّل “قنبلة موقوتة”، خصوصاً وأن الفصائل الجهادية تتباين فكرياً، كما يشير أبو هنية “فبعضها قريب من تنظيم القاعدة، فيما يحمل آخرون توجهات فردية شبيهة بتنظيم داعش”.
ورغم الحديث عن تغيّر في سلوك بعض الفصائل بعد دمجها، يؤكد عبد الرحمن أن المعطيات الميدانية تشير إلى أن “عملية الدمج لم تؤد إلى تحسّن ملموس في سلوك بعض الفصائل، بل أتاحت في بعض المناطق استمرار الانتهاكات أو حتى توسّعها، مثل الاعتقالات التعسفية والابتزاز وإساءة معاملة المدنيين”، ويعتبر أن “الانضمام الشكلي إلى وزارة الدفاع لم يكن كافياً، على ما يبدو، لإحداث تغيير جذري في سلوك المقاتلين، في ظل غياب آليات رقابة ومساءلة حقيقية داخل المؤسسة العسكرية”.
منذ سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في الثامن من ديسمبر عام 2024، حاول الشرع التخلّص من صورته السابقة كقائد لـ”هيئة تحرير الشام”.
تخلى الشرع عن اسمه الجهادي (أبو محمد الجولاني) وعاد لاستخدام اسمه الحقيقي، وأبدى مواقف منفتحة في الداخل وعلى الخارج، بما في ذلك إسرائيل، كما قام بزيارات إلى دول بينها، أبرزها الولايات المتحدة والسعودية وقطر.
لكن هذا التوجّه لم ينعكس بقوة على بنية الأجهزة الأمنية السورية الجديدة وتشكيلاتها المختلفة وولاءات عناصرها.
ويقول الباحث في الشأن السوري لدى “مجموعة الأزمات الدولية”، نانار حواش، في حديث لـ”الحرة”، إن ثمة خطراً “يتمثّل في أن ترفض العناصر الجهادية المتشددة داخل جهاز الدولة المسار البراغماتي الذي يتبعه الشرع، وأن تنظر إلى انخراطه مع الغرب على أنه خيانة” لافتاً إلى أن “العواقب قد تتراوح بين التمرد على الأوامر، وحالات انشقاق فردية نحو تنظيم داعش، وصولاً إلى سيناريوهات أكثر خطورة مثل حدوث تصدعات داخل الأجهزة الأمنية، أو محاولات اغتيال، أو انقلابات داخلية، أو تمرد مسلح”.
وبدوره، يحذّر المحاضر في السياسة والعلاقات الدولية في جامعة تيسايد، حيان دخان، من أن الشرع يواجه خطر ردّ فعل عنيف من الدوائر الإسلامية، إذا سعى إلى تقليص نفوذها بسرعة أو بشكل علني، ولا سيما في حال فُرضت القيود عبر إجراءات قسرية من دون بدائل مثل الاندماج المنظّم أو الإدماج الاقتصادي والسياسي.
ويؤكد دخان لموقع “الحرة” أن هامش المناورة أمام القيادة محدود، “إذ إن الضغوط الخارجية لتهميش الجهات المرتبطة بإرث الجهادية تقابلها كلفة داخلية باهظة لأي مواجهة مباشرة”.
يقترح مراقبون “وصفات” متنوّعة لـ”غربلة الأجهزة الأمنية السورية” من العناصر المتشددة المحتملة وضمان ولائها للدولة دون سواها.
في هذا السياق، يدعو عبد الرحمن إلى “إنشاء آليات عدلية مستقلة وشفافة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وفرض رقابة مدنية وقانونية صارمة على عملية دمج الفصائل، مع استبعاد المتورّطين في انتهاكات من المناصب القيادية، وضمان حماية الأقليات والنساء والأطفال، وتطبيق قانون عادل على الجميع”.
وبدوره، يقترح العبسي “حلّ الوحدات المستقلة، الجرد الشامل للسلاح والأفراد، وإعادة هيكلة القوات البريّة والجوية”، لكنه يشدد على وجود تحديات أساسية، أبرزها “صياغة عقيدة وطنية غير حزبية أو دينية، معالجة نقص التسليح والبنى التحتية دون ارتهان خارجي، تجاوز مقاومة بعض الفصائل لعمليات الدمج، وضمان تمثيل عادل لكل المكونات ضمن إطار دستوري مدني”.
أما أبو هنية، فيرى أن بناء عقيدة عسكرية موحّدة وجيش سوري جديد “يشكل مهمة طويلة ومعقدة، مرتبطة بمستقبل الدولة السورية وطريقة تعاملها مع المكونات الإثنية والعرقية، في ظل ساحة لا تزال غير مستقرة ومن دون مسارات مضمونة”.
المصدر:
الحرة