آخر الأخبار

أجساد النساء ليست ساحة للحرب.. أصوات من السودان تحكي عن العنف الجنسي

شارك

زينب عبد الخالق زاهر بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان

يشهد السودان فصلًا جديدًا يعرّض أنماط التعايش والتماسك المتجذّرة فيه للخطر. فقد تسبّبت الحرب الجارية في السودان في اضطراب واسع للبُنى الاجتماعية، وأدّت إلى معاناة هائلة للمدنيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة عالقين في دوّامة لا تنتهي من العنف. ودخلت الأزمة منعطفًا خطيرًا ينذر بتداعيات كارثية تتجاوز الحدود الجغرافية للبلد لتهدد استقرار المنطقة بأسرها. في هذا المقال نروي قصة لا تعكس ديناميكيات الجبهة أو التطورات السياسية، بل تسطرها دموع «مريم»* التي خرجت لجلب الماء فعادت بجسد منتهك وروح مكسورة. وآثار هذه القصة، وشبيهاتها، تظهر عميقاً في البيوت وفي نفوس الناجيات والناجين من العنف الجنسي في السودان. إذ يختبئ هؤلاء خلف جدارٍ من الوصم والخجل والخوف من الانتقام. فقصصهم نادرًا ما تُروى، لكن صمتهم لا يعني أن معاناتهم ليست حاضرة بقوة.

حكايات صامتة من الفاشر
في أحد أحياء مدينة الفاشر، خرجت «مريم» مع شقيقتها الصغرى بحثًا عن الماء. الطريق الذي كان يومًا عاديًا أصبح مليئًا بالحواجز والمخاطر. في لحظات قصيرة، انقلب مسار حياتها رأسًا على عقب؛ تعرضت لاعتداء جنسي عنيف تحت تهديد السلاح. عاد جسد «مريم» إلى البيت مجروحًا، وحملت روحها أعباء الصمت والخوف. هي تشعر بأنها «ضحية» لا «مذنبة». لكنها تخشى أن يصبح الصمت قدرها، وأن تتحول حياتها إلى ظلّ خوفٍ دائم.
قصة «مريم» ليست حالةً فردية. في الفاشر وغيرها من مناطق القتال، تُجبَر ناجيات كثيرات على الصمت. يتساءل البعض من حولهنّ بلهجة اللوم: «لماذا خرجتِ؟ لماذا كنتِ وحدكِ؟». يتحول الاعتداء إلى تحقيق غير رسمي في سلوك الضحية، وكأنما يُبحث عن خطأ في «شرفها» بدل التركيز على الجريمة ذاتها. تحت وطأة هذه النظرة القاسية للضحايا، تُفضِّل كثيرات التزام الصمت خشية اللوم والوصم الاجتماعي. في مجتمعٍ ما زال يُحَمِّل الناجية مسؤولية ما حدث، يصبح كسر الصمت بالنسبة لـ«مريم» ومن يشبهنها أمرًا شبه مستحيل.

العنف الجنسي في السودان
ما يحدث في الفاشر ليس مختلفاً عما يحصل في السودان ككل. في عام 2025، احتاج أكثر من30 مليون شخص في السودان إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية، بينهم ملايين النساء والفتيات اللواتي يعشن في ظروف انعدام أمنٍ غذائي وانهيارٍ في الخدمات الصحية وتقييدٍ للحركة. هذه الظروف تخلق بيئات تزيد فيها الأخطار، بما في ذلك العنف الجنسي، خاصة عندما يضعف الوصول إلى الخدمات والمأوى الآمن ونظم الدعم المجتمعي. وبحسب تقديرات وكالات أممية فإن نحو رُبع سكان السودان – أي حوالي 12 مليون شخص – معرّضون لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي. وقد تصاعدت حالات العنف الجنسي المبلّغ عنها بما يقارب 300% خلال عامٍ واحد فقط، مما يعكس حجم المعاناة المخفية خلف الأرقام المعلنة. ورغم ذلك، فإن الحالات المُبلَّغ عنها لا تمثل سوى جزءٍ يسير مما يحدث فعليًا على الأرض. كثيرٌ من الجرائم لا يُكشف عنها بسبب الخوف والوصم وانعدام الثقة بجدوى الشكوى. هذا الظل الثقيل من الصمت يجعل من الصعب رسم صورةٍ كاملة لحجم العنف الجنسي في السودان، لكنه بالتأكيد يشير إلى أزمة إنسانية وأخلاقية تتطلب اهتمامًا عاجلًا.

جرحٌ يتجاوز ساحة القتال
لا يقتصر العنف الجنسي في النزاعات على الاغتصاب وحده؛ بل يشمل طيفًا واسعًا من الأفعال ذات الطابع الجنسي التي تُفرض بالقوة أو التهديد أو الاستغلال. هذه الأفعال تترك جرحاً جسديا ونفسيا يمتد أثره لسنوات بعد لحظة الاعتداء ذاتها. تعيش الناجيات والناجون تبعات هذا الجرح في هيئة آلام جسدية مستمرة أو صدمات نفسية عميقة أو وصمة اجتماعية تلاحقهم أينما ذهبوا. إنه جرح يتجاوز ساحة القتال المباشرة ليصيب الأسر والمجتمعات برمّتها. فالتبعات لا تتوقف عند الضحية وحدها، بل تمتد إلى شعور عام بانعدام الأمان وإلى تفكك النسيج الاجتماعي حين يخشى الناس على بناتهم وأخواتهم من مصيرٍ مماثل. فالعنف الجنسي سلاحٌ خفيّ يهدف إلى بثّ الرعب وكسر المعنويات، وتبقى ندوبه حاضرة حتى بعد أن يصمت أزيز الرصاص.

طبقات من المخاطر
اليوم، يواجه السودان طبقات متعدّدة من المخاطر جعلت الحياة اليومية محفوفة بالتهديد منها نقص الغذاء والماء، ما يزيد المعاناة ويجبر الكثيرين على المخاطرة بحثًا عن الضروريات بالإضافة لصعوبة الوصول إلى الرعاية الطبية تفاقم جراح المصابين جسديًا ونفسيًا. قيود الحركة والأمن تعني أن من يخرج بحثًا عن الأمان أو المساعدة قد يقع فريسة الخطر في الطريق.
وسط هذه الظروف، يبرز العنف الجنسي كخطر متزايد يغذيه تآكل إنفاذ القانون، وضعف آليات الحماية المجتمعية، ومحدودية القدرة على التنقّل الآمن، وتراجع الوصول إلى الخدمات الصحية والنفسيّة‑الاجتماعية مجتمعةً، ما تقلّل من قدرة الناجيات والناجين على طلب المساعدة.
نتيجة لذلك يجد الناجون والناجيات أنفسهم أحيانًا أمام أبوابٍ موصدة بدلًا من خدماتٍ منقذة للحياة. فالعيادات إما معطّلة، أو بعيدة أو يصعب الوصول إليها، والدعم النفسي نادر وسط الفوضى. في ظل هذه الطبقات المتراكمة من الخطر، تصبح الحماية من العنف الجنسي أكثر تعقيدًا وإلحاحًا.
ومع ذلك، هناك جهود تبذل على الأرض للتخفيف من هذه المخاطر. المجتمع المحلي نفسه يحاول ابتكار حلول ذاتية قدر الإمكان: مجموعات من الجيران يتناوبون على مرافقة النساء في رحلات جمع الماء أو الحطب، مبادرات لتحسين إنارة الشوارع ليلًا باستخدام بدائل بسيطة، وتحذيرات متبادلة حول المناطق الأكثر خطورة. تلك المحاولات العفوية تساعد في تقليل الشعور بالعجز، لكنها لا تكفي وحدها في مواجهة خطرٍ بهذا الحجم.

الوقاية
في مواجهة العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات، ترتكز استجابة الجهات الإنسانية على ثلاثة أعمدة مترابطة: الوقاية، والتخفيف من المخاطر، والاستجابة القائمة على دعم الناجيات والناجين. في ركن الوقاية، ينصبّ التركيز على من يملكون السلاح والسلطة. تعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشكل مباشر مع أطراف النزاع لحثّهم على احترام القانون الدولي الإنساني. ومن خلال حوار ثابت خلف الأبواب المغلقة، تذكّر اللجنة الدولية أطراف النزاع بالتزاماتهم بحماية المدنيين واحترام كرامتهم. وتُثار مزاعمُ وقوع حالات عنف جنسي، حينما تسمح الظروف، في إطار حوار سري بهدف منع المزيد من الانتهاكات، وتعزيز احترام القانون الدولي الإنساني، وتحسين حماية المدنيين.
هذه الجهود الوقائية تسعى إلى منع وقوع الجريمة من الأصل عبر توعية من بيدهم زمام الأمور بأن العنف الجنسي جريمة خطيرة بموجب القانون الدولي الإنساني، لا ينبغي السكوت عنها. كما تهدف إلى كسر حلقة الإفلات من العقاب من خلال حث سلاسل القيادة على تعزيز إجراءات المساءلة والوقاية داخل هياكلها.

التخفيف من المخاطر
رغم أهمية جهود الوقاية، يبقى الخطر قائمًا ما دامت ظروف الحرب والفوضى حاضرة. لذلك يأتي التخفيف من المخاطر كخط دفاعٍ تالٍ، عبر العمل مع المجتمعات المحليّة لتقليل فرص التعرّض للخطر. من خلال شبكة متطوعي جمعية الهلال الأحمر السوداني، تدعم اللجنة الدولية مبادرات يقودها المجتمع نفسه لتقليل مخاطر العنف الجنسي في السودان. يشمل ذلك تنظيم جلسات توعية في الأحياء ومواقع النزوح تستهدف قادة المجتمع والزعامات الدينية وكذلك النساء والشباب. الهدف هو فتح نقاش صريح حول قضية الوصم المرتبطة بالعنف الجنسي، وكيف يمكن دعم الناجيات والناجين بطريقة تحفظ كرامتهم وسريّتهم. يتعلم المشاركون في هذه الجلسات كيف يتحدّثون عن المشكلة دون تحفّظ، وكيف يمكنهم مساندة الضحايا بدلًا من لومهم.
رغم كل إجراءات المنع والتخفيف، قد يحدث الأسوأ ويقع هذا الانتهاك. هنا يأتي دور الاستجابة لدعم الناجيات والناجين وتمكينهم من البدء من جديد. منذ شباط/فبراير 2025 تمكنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من دعم أكثر من مئة من الضحايا والناجيات والناجين من العنف الجنسي في السودان بمختلف أنحاء البلاد. تتخذ هذه المساعدة أشكالًا متعددة تراعي احتياجات كل حالة. يشمل ذلك الإحالة الآمنة إلى خدمات الصحة الجسدية والنفسية المتوفرة، وتقديم معلومات واضحة للناجيات والناجين حول حقوقهم والخيارات المتاحة أمامهم. كما تعمل اللجنة الدولية مع شركاء متخصصين على توفير مساحات آمنة قدر الإمكان لمن تعرضوا لهذه الانتهاكات، لكي يجدوا ملاذًا يحميهم ويمنحهم بعض الطمأنينة.
في حالات محددة، تقدم اللجنة الدولية أيضًا مساعدة نقدية فورية تُعين الناجيات والناجين على تغطية النفقات الأساسية العاجلة. قد تساعدهم هذه المنحة الطارئة في تأمين احتياجات ضرورية أو استئجار مكان آمن للإقامة أو حتى بدء مشروع صغير يوفّر مصدر دخل بسيط. الهدف هو تمكين الناجية أو الناجي من استعادة قدر من السيطرة على حياتهم والبدء في «فصل جديد» بعد التجربة الصادمة. كل تلك الجهود تُنفَّذ وفق نهجٍ محوره الناجيات والناجون، يضع سلامتهم وخياراتهم وكرامتهم في المقام الأول. تلتزم اللجنة الدولية بالسرية التامة في التعامل مع الحالات، وتحرص على عدم التمييز بينها، وتأخذ بالاعتبار ما قد يترتب على المساعدة من مخاطر إضافية لضمان ألا تؤدي خطوات الدعم إلى أي ضرر غير مقصود. إن منح الناجيات والناجين شعورًا بالأمان وبأن أصواتهم مسموعة هو جزء أساسي من عملية شفائهم ومنع تكرار معاناتهم.

16 يومًا من النشاط
تُعد حملة «16 يومًا من النشاط لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي» محطة سنوية للتوعية والعمل، وهي انطلقت من يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر، وهو اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، واختتمت في 10 كانون الأول/ديسمبر، اليوم العالمي لحقوق الإنسان. خلال تلك الفترة، نفّذت المنظمات الدولية المعنية، إلى جانب بعض الحكومات، سلسلة من الأنشطة والفعاليات للتذكير بخطورة العنف القائم على النوع الاجتماعي بجميع أشكاله، وأهمية الوقاية منه والاستجابة للمتأثرين به.
في السودان، تعد الحملة فرصة لطرح أسئلة جوهرية على المجتمع: كيف نواجه العنف الجنسي؟ وكيف نكسر الوصم الذي يُحمّل الناجيات والناجين تبعات الانتهاكات، بدلًا من الاعتراف بهم كضحايا يستحقون الحماية والدعم؟ فمنع العنف الجنسي وتأمين الحماية لمن عانوا منه يحتاج إلى التزام جماعي. وتقع هذه المسؤولية على عاتق كل من يحمل السلاح وكل من يصدر الأوامر، وعلى السلطات المدنية والقضائية التي ينبغي أن توفر العدالة والردع، وعلى القادة المجتمعيين الذين يلعبون دورًا محوريًا في تشكيل المواقف والتقاليد، وكذلك على المنظمات الإنسانية والمجتمعات نفسها في خط الدفاع الأخير. لكن نقطة الانطلاق واحدة لا تتجزأ: الاعتراف بأن العنف الجنسي انتهاك جسيم ذو عواقب إنسانية عميقة، والتأكيد بشكل قاطع أن الناجين والناجيات ليسوا أبدًا موضع لوم. ويجب أن تُوجّه كرامتهم وسلامتهم وقدرتهم على اتخاذ القرار جميع جهود الوقاية والاستجابة والتعافي، بحيث لا تكون الحماية والرعاية تدخّلات ظرفية، بل التزامات مستمرة.
بدون هذا الاعتراف، سيظل التصدي للمشكلة منقوصًا. ففي نهاية المطاف، لا تطلب «مريم» ومن يشبهنها أمرًا مستحيلًا. مطلبهنّ بسيط وبديهي: أن يُصغَى إليهن، وأن يُصدَّقن، وأن يحصلن على الحماية والرعاية والكرامة التي يستحققنها. وأن لا تستخدم أجسادهن في ساحات الحرب. حملة «16 يومًا» تذكيرٌ بأن هذه المعركة ضد العنف الجنسي في السودان لا تُقاس بالأيام ولا بالشعارات، بل بقدرتنا جميعًا على بناء مجتمعٍ لا مكان فيه للعنف الجنسي ولا للوصم الذي يتستر عليه.

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا