يشهد ملف القاعدة البحرية الروسية في بورتسودان عودة قوية للواجهة وسط سباق دولي على النفوذ في البحر الأحمر. فرغم تعثر الاتفاق منذ عام 2020، تظهر موسكو والخرطوم استمرار التفاوض مدفوعاً بواقع الحرب السودانية وتنافس قوى إقليمية كإيران وتركيا، ودولية كالولايات المتحدة والصين. وتمنح بورتسودان موقعاً استراتيجياً لروسيا لمراقبة خطوط التجارة العالمية وتعويض خسارة نفوذها في شرق المتوسط، بينما يستخدم المجلس السيادي هذا الملف للضغط على الغرب. في المقابل، تعارض قوى إقليمية الخطوة.
يعود اتفاق السودان وروسيا الذي وقعه النظام السوداني السابق برئاسة عمر البشير لإنشاء قاعدة عسكرية روسية في بورتسودان على البحر الأحمر ، للواجهة مجدداً بعدما كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عن أن الحكومة السودانية عرضت على موسكو إنشاءها.
وينطوي المقترح الجديد الذي قدمته الحكومة السودانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على اتفاق مدته 25 عاماً يمنح موسكو الحق في نشر ما يصل إلى 300 جندي، وإرساء ما يصل إلى أربع سفن حربية، بما في ذلك سفن تعمل بالطاقة النووية في بورتسودان أو في منشأة أخرى على البحر الأحمر لم يحدد اسمها بعد، غير أن السفير الروسي لدى السودان أندريه تشيرنوفول أوضح لوكالة “تاس” الروسية أن أي تقدم لم يحرز لإقامة قاعدة بحرية لبلاده في المنطقة.
ووفق تشيرنوفول، فإن المعلومات التي نشرتها الصحيفة الأميركية تعود لعام 2020، عندما وقعت وثيقة حول هذه المسألة وأتيحت للعامة. وأوضح أنه “في هذه المرحلة، كل شيء متوقف. ولم يحرز أي تقدم في هذا الصدد حتى الآن. في الأقل، لا علم لي بوجود أي تقدم. لذا، فإن الحديث عن افتتاح شيء هنا في الوقت الحالي هو على أقل تقدير، سابق لأوانه”.
ويتعلق اتفاق عام 2020 بإنشاء نقطة دعم لوجستي للبحرية الروسية في السودان لإجراء الإصلاحات وتزويد السفن بالمؤن واستراحة الطواقم الروسية. وأصبح علنياً في أوائل ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه. لكن في 2021 علق الاتفاق من جانب الحكومة السودانية الجديدة بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك.
ومع ذلك، في فبراير (شباط) الماضي، قال وزير الخارجية السوداني علي يوسف شريف عقب محادثات في موسكو مع نظيره الروسي سيرغي لافروف إن الطرفين “اتفقا على كل شيء” حول التفاهم الخاص بقاعدة البحرية الروسية، مما يشير إلى أن المحادثات بين الطرفين لم تتوقف على مدى الأشهر الماضية، ولا سيما بالنظر إلى التطورات في السودان من جهة ومن جهة أخرى التطورات في سوريا بعد سقوط بشار الأسد وخسارة مركز نفوذ مهم في شرق المتوسط.
ويذكر المحلل السياسي الروسي لدى مركز ريبيل للأبحاث بلاتون نيكيفوروف، تعليق القائد السابق لأسطول البحر الأسود فلاديمير كومييدوف عام 2020 على الخبر الخاص بتأسيس قاعدة بحرية روسية في بورتسودان، قائلاً “لقد حان الوقت لاستعادة حضور بحريتنا”. لكن نيكيفوروف يرى أنه يصعب الجزم ما إذا كان الكرملين، المهووس بإحياء القواعد العسكرية بوصفها سمة قوة عظمى، قيم الأخطار المحتملة منذ البداية.
ومع ذلك، فإن روسيا ترى على الأرجح السياق الإقليمي حول الحرب الأهلية في السودان، إيجاباً، فيقول نيكيفوروف إن الوضع الراهن يبدو مفيداً للكرملين، إذ يضعه في صف واحد مع طهران وأنقرة، الشريكتين المعتادتين في الصفقات بالمقايضة. فإيران وتركيا أيضاً تسعيان إلى منشآت عسكرية في السودان. وتفيد تقارير وكالة “بلومبيرغ” بأن طهران وموسكو تنسقان لانتزاع اتفاقات ثابتة مع الجيش السوداني بقيادة عبدالفتاح البرهان ، مقابل طائرات مسيّرة واستخبارات. أما تركيا فتنكر أية نوايا عسكرية، قائلة إنها تريد فقط ترميم ميناء سواكن كمركز سياحي للحجاج، لكن هذا الغطاء يتيح لها توسيع نفوذها، إضافة إلى قواعدها في قطر والصومال.
ويقول المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في نيروبي، وهو مؤسسة بحثية لها شراكات مع معهد توني بلير والاتحاد الأفريقي، إن روسيا تسعى إلى تسريع توسعها في السودان وليبيا لتأمين مواقع لمزيد من العمليات العسكرية. وعززت كذلك تحديثات قاعدة معطن السارة الجوية في ليبيا قرب الحدود التشادية- السودانية الوجود الروسي الإقليمي.
وإضافة إلى ذلك، فإن امتلاك روسيا قواعد بحرية في كل من ليبيا والسودان، يمنحها الفرصة لإنشاء خطوط إمداد إلى الدول الأفريقية الداخلية غير الساحلية التي تستضيف وحدات من “فيلق أفريقيا” الروسي.
تطورت العلاقات بين السودان وروسيا بصورة كبيرة منذ عام 1956، لكنها تراجعت خلال السبعينيات بعد محاولة انقلاب مدعومة من الاتحاد السوفياتي واستؤنفت بين موسكو والخرطوم بعد سقوط الاتحاد. وبلغ التعاون ذروته أثناء عهد البشير فتحالف السودان مع روسيا في قضايا رئيسة، بما في ذلك دعم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وصولاً إلى اتفاق 2017 لبناء قاعدة بحرية تستضيف مئات القوات وأربع سفن. وكثيراً ما سعى البشير المتورط في جرائم حرب في دارفور، إلى الحماية الروسية ضد الضغوط الغربية. وحتى بعد سقوط نظام البشير في ديسمير 2019، زاد اعتماد السودان على المساعدات العسكرية الروسية لقمع التمرد.
تعد بورتسودان، الواقعة على طول البحر الأحمر، حلقة وصل حيوية بين البحر المتوسط والمحيط الهندي عبر قناة السويس ومضيق باب المندب، حيث يمر عبرها نحو 12 في المئة من التجارة العالمية. ووفق المراقبين الروس، تتيح السيطرة على هذا الميناء لروسيا مراقبة طرق بحرية رئيسة ومواجهة النفوذ الغربي، وربما تعطيل حركة البحر الأحمر إذا لزم الأمر. وبالمقارنة مع قاعدة طرطوس السورية التي تواجه فيها موسكو تحديات تشغيلية، توفر بورتسودان موقعاً أكثر أماناً واستراتيجية لإظهار القوة في أفريقيا والشرق الأوسط، ويمكن أن تعمل أيضاً كمركز استخباراتي لمراقبة الأنشطة التجارية والعسكرية في المنطقة.
وبعيداً من الوجود العسكري، وسعت روسيا نفوذها الاقتصادي في السودان، خصوصاً في قطاع الذهب. فالسلوك الروسي في السودان اتخذ تحولات من أطراف الصراع منذ بداية الحرب. ويوضح المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أنه من خلال شراكات مع قوات “الدعم السريع”، أمنت روسيا عبر شركات مجموعة “فاغنر” مثل “أم إنفست” M Invest و” ميرو غولد” Meroe Gold امتيازات تعدين مربحة في دارفور والنيل الأزرق، مما يعزز احتياطات الذهب الروسية ويتجاوز العقوبات ويقوي العلاقات مع النخبة الحاكمة في السودان. وفي مقابل المساعدات العسكرية، منح السودان الشركات الروسية امتيازات خاصة، متنازلاً عن 30 في المئة من حصص مشاريع عدة.
وبينما دعمت روسيا في بداية الصراع قوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فإنها أبدت إعادة تموضع تدريجي عام 2024 وسعت إلى الحد من تعاون الجيش السوداني بقيادة البرهان مع أوكرانيا.
ويقول الزميل لدى مؤسسة جيمستون البحثية في واشنطن أندرو ميكروغر إن موسكو كانت تنظر سابقاً إلى “حميدتي” على أنه عنصر أساس في مساعيها لإنشاء ميناء روسي على البحر الأحمر في بورتسودان، إلا أن الوضع تغير منذ ذلك الحين. فقبل وفاته، كان رئيس مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين يعمل بصورة وثيقة مع قوات “الدعم السريع” ويزودها بالسلاح مقابل الذهب. وفي الوقت نفسه، احتفظ الكرملين بقنوات اتصال مفتوحة مع الطرف المقابل، أي الجيش السوداني والمجلس السيادي الانتقالي، وهما ضمن القنوات التي تستغلها حالياً.
ويضيف أن دعم الجيش والمجلس السيادي اللذين يسيطران على بورتسودان، ينسجم مع السياسة الإيرانية، إذ تقوم طهران بتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيّرة متطورة. ويساعد هذا التحول أيضاً في قطع علاقة الجيش السوداني مع أوكرانيا التي دأبت منذ صيف عام 2023 على تزويد قوات البرهان بالمسيّرات ودعم القوات الخاصة.
لكن يشكك كثرٌ من القادة المدنيين السودانيين في حق المجلس السيادي والجيش في إبرام اتفاق ذي تبعات على السيادة، ويخشون أن يؤدي وصول المساعدات العسكرية الروسية إلى إطالة أمد الصراع المدمر. وفي الوقت نفسه، تعارض مصر والسعودية هذه القاعدة. فالقاهرة التي تمتلك نفوذاً كبيراً في الخرطوم، وعلى رغم علاقاتها الجيدة مع روسيا، لا ترغب في وجود منشأة عسكرية روسية رسمية قرب حدودها ومصالحها، ولا سيما بالنظر إلى موقع القاعدة حيث ستكون موسكو قادرة على مراقبة حركة المرور البحرية من قناة السويس وإليها.
ولا تعارض القاهرة والرياض وحسب، فوفق “وول ستريت جورنال” فإن هذه الصفقة في حال إتمامها فستكون بمثابة تطور مقلق للولايات المتحدة التي تسعى إلى منع روسيا والصين من السيطرة على الموانئ الأفريقية، حيث يمكنهما إعادة تسليح السفن الحربية وإصلاحها، وربما خنق الممرات البحرية الحيوية.
وبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، قد يغير ذلك ديناميكيات القوة الإقليمية، ويؤثر في مصالح الصين الاقتصادية واستراتيجيات السعودية والإمارات، وطموحات إيران الاستراتيجية في البحر الأحمر التي ترى أن المنطقة جبهة حاسمة لمواجهة النفوذ الغربي والخليجي وتوسيع وجودها البحري، مع الاستفادة من الحوثيين في اليمن لتعطيل التجارة العالمية والضغط على خصومها.
ويتوقع مراقبون أن يتبني السودان نموذج جيبوتي الربحي في استضافة قواعد بحرية لدول عدة، ووصف وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم المنشأة الروسية بأنها “ليست قاعدة كبيرة، بل مركز خدمة للسفن الروسية للحصول على الإمدادات”، مضيفاً أن ساحل السودان على البحر الأحمر يمكنه “استيعاب الجميع إذا أرادت الولايات المتحدة شراء ميناء مماثل”.
ويقول ميكروغر إن قادة المجلس السيادي في بورتسودان قد يستخدمون مفاوضاتهم الممتدة مع موسكو لتسليط الضوء على الصراع ولحث الغرب على وقف تدفق الأسلحة والمقاتلين إلى قوات “الدعم السريع”. ويؤكد السودان باستمرار أن تعاونه مع روسيا وإيران أمر لا مفر منه في غياب الدعم الغربي. وبخلاف ذلك، فإن مستوى التعاون العسكري بين السودان وروسيا سيعتمد بصورة كبيرة على مدى حاجة السياسيين والجنرالات في بورتسودان إلى الأسلحة الروسية التي قد تغير موازين الحرب.
وبالنسبة إلى روسيا، فإنها إذا أتمت الاتفاقات، فالأفضل لموسكو اعتماد نموذج صيني في البحر الأحمر، مما يتمثل في نقطة دعم لوجستي هادئة لتعزيز النفوذ الاقتصادي في أفريقيا. لكن بحسب نيكيفوروف فإنه من المشكوك فيه أن تقاوم موسكو إغراء الاستعراض العسكري أو تجنب لفت الانتباه إلى منشأتها.
المصدر:
الراكوبة