وجدت المواطنة السودانية، فاطمة علي حاج الأمين، نفسها وسط معركة جديدة، ليست على تخوم الخرطوم ولا في شوارع الفاشر، بل أمام مكتب النائب العام المصري، بعد أن تقدّم محامون وحقوقيون ببلاغ عاجل يطالب بحمايتها من تهديدات بالقتل و الاعتداء الجنسي تطاردها منذ خروجها من السودان .
تبدو الواقعة في حقيقتها، صورة مكثفة لأزمة أوسع تواجه آلاف النساء السودانيات داخل بلد اللجوء وخارجه، إذ تحولت الحرب التي مزّقت السودان إلى ظلّ ثقيل يلاحق النساء حتى على الضفة الأخرى من الحدود. وأوضح البلاغ المقدم يوم الأربعاء 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن فاطمة تلقت تهديدات من ثلاثة أشخاص يتشاركون تاريخاً من العنف الدموي. أحدهم -وفق ما ورد في البلاغ- متهم بقتل شقيقها وصادر بحقه حكم بالإعدام من محكمة جنايات دنقلا، ويُرجَّح أنه تسلل إلى مصر بشكل غير قانوني. والثاني هو والدها الذي يضغط عليها للتنازل عن دم شقيقها عبر التهديد بالقتل و الاغتصاب . أما الثالث فمنتسب إلى الدعم السريع، القوة المتهمة على نطاق دولي بارتكاب جرائم حرب في السودان. وخارج الخطوط المتعرجة للحدود، بدا أن عنف العائلة ونفوذ المليشيا لا يزالان قادرين على مطاردة امرأة تحاول النجاة.
طالب مقدمو البلاغ، ومن بينهم المحاميات والمحامون الحقوقيون عزة سليمان وراجية عمران وماهينور المصري وهيثم محمدين وآخرون، بفتح تحقيق رسمي في وقائع التهديد، والتحقق من دخول المتهم الهارب إلى الأراضي المصرية، وإخطار الأجهزة الأمنية لمنع الأشخاص الثلاثة من دخول البلاد لما يمثّلونه من خطر على الأمن العام وعلى المجتمع السوداني المقيم في مصر. وأرفقت في البلاغ صوراً للمتهمين، في محاولة لتأمين الحد الأدنى من الحماية لامرأة فقدت وطنها وشقيقها وأمانها الشخصي في وقت واحد.
هذه القصة الفردية تبدو امتداداً مباشراً لما وثقته “ المفوضية المصرية للحقوق والحريات ” في تقريرها الصادر نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعنوان: “أفضل أن أموت وألا أعود للخرطوم: اللاجئون السودانيون في مصر ضحايا الانتهاكات الجنسية والحق في التعافي والإنصاف”. ورسم التقرير، المبني على شهادات مباشرة لضحايا، جرى توثيقها بين مايو/أيار 2023 وديسمبر/كانون الأول 2024، صورة قاتمة للانتهاكات الجنسية التي اتُّخذت سلاحاً خلال الحرب السودانية، وللرحلة الشاقة التي يخوضها اللاجئون واللاجئات حتى بعد وصولهم إلى مصر.
وأشارت الشهادات التي جمعها التقرير إلى أن كثيراً من النساء والرجال والأطفال اضطروا للفرار من الاغتصاب الجماعي والانتهاكات الجسدية الممنهجة التي استخدمت لبث الرعب وإخضاع المجتمعات المحلية، لكن عبور الحدود لم يكن نهاية الألم؛ فمعظم الناجين يواجهون أوضاعاً قانونية هشة، ونقصاً في الخدمات الأساسية، إضافة إلى مخاطر التوقيف أو الترحيل حتى عندما يحملون وثائق لجوء رسمية صادرة عن الأمم المتحدة.
وأظهر التحليل القانوني المرفق في التقرير، أن العودة إلى السودان، تمثل خطراً مباشراً على الضحايا، سواء من أطراف النزاع أو من وصمة العار الاجتماعية داخل مجتمعاتهم. أحد أبرز ما وثّقه التقرير أيضاً، هو مسألة “العودة الطوعية” التي نظمتها الهيئة القومية لسكك حديد مصر، والتي نقلت ما بين 20 و30 ألف سوداني عبر 32 رحلة. ورغم وصفها بأنها “اختيارية”، أكدت شهادات عديدة أن جزءاً كبيراً من العائدين لم يختاروا العودة فعلاً، بل اضطروا إليها بفعل الفقر والعجز عن توفير الغذاء والسكن، أو بسبب التهديد بالاحتجاز، أو شعورهم بأن استمرار الحياة في مصر أصبح شبه مستحيل.
وتفاقمت الأزمة أيضاً بسبب التأخير في إصدار بطاقات اللجوء، وهو تأخير يصل أحياناً إلى عامين كاملين، ما حرم آلاف النساء من التعليم والرعاية الصحية والعمل القانوني، وفتح الباب واسعاً أمام الاستغلال. ومع تراجع التمويل الدولي، تعطلت برامج الدعم النفسي والاجتماعي، وأُغلقت مدارس مجتمعية كانت تشكل نافذة الأمل الوحيدة للأطفال.
واعتمد التقرير على مقابلات فردية مع 20 حالة من الضحايا والناجين، واستند إلى وثائق صادرة عن منظمات دولية موثوقة مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية. كما عرض تحليلاً قانونياً يسلط الضوء على الإطار الدولي الذي يجرم الانتهاكات الجنسية في النزاعات، وشدد على ضرورة مساءلة مرتكبي هذه الجرائم. وجددت المفوضية دعوتها للمجتمعين المحلي والدولي لتقديم كل أشكال الدعم الممكن لضحايا الانتهاكات، واحترام ظروفهم الإنسانية واحتياجاتهم في بلد اللجوء.
وبين بلاغ فاطمة وحكايات الناجين والناجيات، فإن الحرب لا تتوقف عند الحدود، والعنف لا يُدفن بمجرد عبور نهر أو صحراء. النساء السودانيات اللواتي فررن من الحرب يحملن معهن ذاكرة الجرح والخوف، لكنهن يواجهن في بلدان اللجوء تحدياً آخر: النضال من أجل الاعتراف بحقهن في الحماية والعدالة والبداية الجديدة.
وخلص التقرير إلى تضاعف الأزمة الإنسانية للسودانيين، خاصة النساء والأطفال، بسبب تأخر إصدار بطاقات اللجوء لفترات قد تصل إلى عام أو عامين، مما يحرم آلاف الأشخاص من الوضع القانوني والخدمات الأساسية. هذا التأخير يجعلهم عرضة للاستغلال والخوف اليومي من التوقيف والاحتجاز، بخلاف تأثر برامج الدعم النفسي والاجتماعي بشدة نتيجة تراجع التمويل الدولي، وتعرّض المدارس المجتمعية للتضييق والإغلاق، ونقص الموارد، مما زاد من عزلة الأطفال وصعوبة اندماجهم في المجتمع المضيف.
العربي الجديد
المصدر:
الراكوبة