لم يعد أمام سكان الإقليم سوى الاستسلام للموت جوعاً أو مواجهته ببدائل وخيارات فعالة للبقاء على قيد الحياة، وجراء هذه الأوضاع اضطر الآلاف من الأهالي إلى اللجوء للزراعة في أعالي الجبال والمساحات الصغيرة حول القرى ما يسمى “الجبراكة” لتأمين الغذاء وتسويق بقية المحاصيل، لا سيما الذرة وبعض الخضراوات مثل البامبي (البطاطا الحلوة)، والبصل والبامية والملوخية والرجلة.
تسبب الوضع الإنساني المتأزم نتيجة الحرب المستمرة في السودان منذ ما يقارب الـ26 شهراً في ولاية جنوب كردفان ومنطقة جبال النوبة في وضع السكان على حافة الجوع، بخاصة بعد عجز آلاف عن ممارسة النشاط الزراعي وخروج مساحات كبيرة من دائرة الإنتاج، وأسهم الوضع الأمني في تدهور القطاع، وسيطر القلق والخوف على المواطنين خشية التعرض للموت.
لم يعد أمام سكان الإقليم سوى الاستسلام للموت جوعاً أو مواجهته ببدائل وخيارات فعالة للبقاء على قيد الحياة، وجراء هذه الأوضاع اضطر الآلاف من الأهالي إلى اللجوء للزراعة في أعالي الجبال والمساحات الصغيرة حول القرى ما يسمى “الجبراكة”، لتأمين الغذاء وتسويق بقية المحاصيل، لا سيما الذرة وبعض الخضراوات مثل البامبي (البطاطا الحلوة)، والبصل والبامية والملوخية والرجلة.
يقول ياسر أبكر من مواطني منطقة الكرقل بولاية جنوب كردفان إن “الحرب ألقت بظلال كارثية على القطاع الزراعي في الإقليم، وتفاقمت المعاناة عقب إغلاق طريق كادوقلي – الدلنج بواسطة قوات الحركة الشعبية – شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، مما أدى إلى أزمة كبيرة في الوقود، وتقليص الرقعة الزراعية وعجز في التمويل، فضلاً عن خروج تسع محليات من دائرة الإنتاج، وهي هبيلا والدلنج ودلامي والقوز والريف الشرقي وكادوقلي وأم دورين وهيبان وبرام”.
وأضاف المتحدث أن “الشح وندرة السلع الاستهلاكية الغذائية والارتفاع الجنوني في أسعار المتوافر منها دفعت سكان المنطقة إلى اللجوء للبحث عن بدائل في استغلال المساحات الخالية داخل المنازل وقطع الأراضي الخالية المجاورة لزراعة الذرة والدخن وبعض الخضراوات مثل الجرجير والبامبي (البطاطا الحلوة) والبصل والبامية والملوخية والرجلة، مستفيدين من جزء منها في علف ما تبقى من حيوانهم الأليفة”.
وتابع أبكر، “بدأت وبعض من جيراني بالمنطقة بزراعة الذرة والخضراوات سريعة الإنبات في مساحات البيوت الواسعة، ونجحت التجربة بصورة كبيرة وحققت نسبة إنتاج عالية، خصوصاً الذرة الشامية والجرجير والعجور والفجل والبطيخ”.
في السياق أوضح حسين تيه، أحد مواطني مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان أن “وجود مشكلات أمنية تتركز داخل مناطق عدة، وبخاصة شمال وغرب الإقليم، جعل المواطنين غير قادرين على الذهاب إلى وجهات عملهم في المشاريع الزراعية البعيدة، حيث لا تزال الطرقات غير آمنة، فضلاً عن تزايد عمليات النهب تحت تهديد السلاح، وكذلك شح الوقود وارتفاع أسعاره”. ونوه بأن “غالبية السكان اضطروا إلى الزراعة في أعلى الجبال والمناطق المرتفعة، بخاصة الجبل الأبيض والقيقر وهيبان وجبل الريكة وجبل كلولو، وعلى رغم تراجع الإنتاج مقارنة بالمساحات الزراعية الكبيرة، لكن السكان قادرون على توفير الأمن الغذائي للأسر”.
وأردف تيه، “بعد النجاح الذي لاقته تجربة الزراعة في أعالي الجبال وتحقيق الاكتفاء الذاتي، بدأنا نمد الجيران في الأحياء القريبة ببعض حاجاتهم من الخضراوات، بعدها ازدادت التجربة رواجاً وسط كثير من الأسر في مواجهة ظروف الندرة والغلاء الطاحن”.
إلى ذلك دفعت أزمة الغذاء نتيجة إغلاق الطرق وتوقف إمدادات السلع والبضائع سكان مدينة الدلنج ثاني أكبر مدن ولاية جنوب كردفان للزراعة في مساحات صغيرة خلف المنازل يطلق عليها اسم “الجبراكة” لتأمين الغذاء وتسويق بقية المحاصيل لشراء حاجاتهم الضرورية.
واعتبر كمال رمضان الذي يقطن منطقة الرديف أن “التجربة تعد من ضمن الحلول التي لجأ إليها الناس في ظل ظروف الحرب، وشكلت خياراً جيداً نجح في تأمين حاجات ضرورية لمن تبقى من السكان واستفاد البعض من عوائدها من خلال توفيرها بالأسواق المحلية، لا سيما محاصيل الذرة والدخن والفول السوداني، وكذلك الخضراوات على أنواعها”.
وأشار المتحدث إلى أن “تركيز السكان في زراعة الخضراوات انحصر على أنواع سريعة النمو والنضج إلى جانب فائدتها في مثل هذه الظروف، مثل البامية والملوخية والكوسا والبطيخ والخيار، ومعظمها لا تزيد الفترة بين زراعتها وحصادها على الشهرين”.
على صعيد متصل أوضح المهندس بمؤسسة جبال النوبة الزراعية ماجد كوكو أن “زراعة (التروس) أو (الكنتور) ليست خياراً طبيعياً لسكان ولاية جنوب كردفان، بل آلية يلجأ إليها الناس في أوقات الحروب والأزمات، بالتالي فإن الصراع المسلح المستمر في الإقليم لما يقارب الـ26 شهراً جعل منها ضرورة لا مجرد بديل اقتصادي”. ولفت إلى أن “المناطق الجبلية تتميز بتربة غنية بالمعادن ومصادر مياه طبيعية من الأمطار والينابيع، مما يتيح فرصة لزراعة محاصيل متنوعة، كما تلعب الزراعة المدرجة دوراً رئيساً في استغلال الانحدارات، إذ تمنع انجراف التربة وتزيد من المساحات الإنتاجية”.
وتابع كوكو “مشاريع أعالي الجبال تكتسب أهمية اقتصادية كبيرة، فهي توفر لسكان تلك المناطق مصدراً للغذاء، وتساعدهم على الاستقرار في بيئاتهم بدلاً من النزوح إلى المدن، وتدعم التنوع البيئي من خلال زراعة محاصيل عدة تتناسب مع المناخ الجبلي”.
على النحو ذاته قال المهندس الزراعي بدوي الخير إنه “مع تفاقم معاناة سكان ولاية جنوب كردفان ومنطقة جبال النوبة جراء الحرب، وجد الناس ضالتهم في استدعاء تجربة الزراعة خلف المنازل وفي المساحات الفارغة بالأحياء لتأمين ما يسد الرمق وتسويق بقية المحاصيل والخضراوات، ولم يعد أمامهم خيار سوى الاعتماد على الذات واستدعاء أفكار ومخارج خاصة بهم”.
ويعتقد الخير أن “فكرة الزراعة في مناطق أعالي الجبال والمساحات الصغيرة التي يطلق عليها اسم “الجبراكة” تدعم الاقتصاد الأسري، خصوصاً في ظل تداعيات الصراع المسلح التي ألحقت أضراراً بالغة بالقطاع الزراعي في ولاية جنوب كردفان وأسهمت في خروج 60 في المئة من أراضي الولاية من دائرة الإنتاج”. ونوه بأن مجتمع النوبة يعلم الأطفال مبكراً على الزراعة، ويبدأون بمزرعة صغيرة خلف المنزل يطلق عليها “الجبراكة”، بما يحملهم المسؤولية ويجعلهم مساهمين في توفير الأمن الغذائي للأسرة، فهم يعملون إلى جانب أمهاتهم ويتدربون بذلك على العمل في المشاريع الخلوية الكبيرة.
اندبندنت عربية