“العمل في مناطق سيطرة الدعم السريع أشبه بالحبس الإلزامي”. هكذا وصف مسؤول سابق في وزارة الصحة كان يعمل في مستشفى مدينة نيالا التعليمي بعد إعادة تشغيله بإشراف الإدارة المدنية التابعة لقوات الدعم السريع. ذلك أن مدينة نيالا ، وهي الأكبر سكانياً واقتصادياً في ولاية جنوب دارفور، تشهد انهيارًا شبه كلي في الخدمات الأساسية عامة، والصحية خصوصاً، رغم تردد أنها العاصمة المُرجحة لحكومة “الدعم السريع” التي تُسيطر عليها منذ نوفمبر عام 2023.
وهذا الانهيار المتواصل في القطاع مرده الحرب نفسها وخروج مؤسسات الدولة من المنطقة، لكن الأهم هو التدهور الأمني واستهداف الطواقم الطبية في المستشفيات.
بحسب المسؤول عينه، الذي تحدث لـ”دروب” اضطر“الكادر الطبي في مستشفى نيالا التعليمي للبقاء في المدينة بسبب الظروف الأسرية، وارتفاع تكاليف التحرك. العمل مستمر رغم شح الإمكانيات، ومهنة الطب بطبيعتها إنسانية، لكنها تحتاج إلى من يحفظ كرامة من يمارسها”. لكن “العمل في مناطق سيطرة الدعم السريع أشبه بالحبس الإلزامي، بسبب دخول عناصر مسلحة إلى المستشفيات دون مراعاة لحرمة المكان أو المرضى”.
ترك خروج وزارة الصحة من المدينة نهاية عام 2023، فراغاً إذ يقع على عاتقها الإشراف على عمل المستشفيات الحكومية، ومنح التراخيص، ومراقبة عمل المراكز الصحية الخاصة، وتنظيم عمليات إدخال الأدوية وبيعها، والتي اعترتها فوضى عارمة.
ومع تعطل خطوط الإمداد الرئيسية للأدوية، وتوقف خدمات التأمين الصحي التي كانت توفر أصنافًا دوائية ضرورية، خاصة أدوية الأمراض المزمنة، خرج مستشفى نيالا التعليمي عن الخدمة، وهو الذي كان يخدم أكثر من مليوني شخص، بحسب إحصاءات وزارة الصحة الولائية قبل اندلاع الحرب، إلى جانب توقف المستشفى التخصصي وعدد من المستشفيات الأخرى في وسط المدينة، بما في ذلك مركز غسيل الكلى.
وبات المستشفى التركي، المدعوم من السلطات التركية والواقع جنوب المدينة، المركز الرئيسي لتقديم الخدمات. ومع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية، تم إجلاء الطاقم الطبي والإداري الأجنبي، وأُسندت مسؤولية الإشراف عليه للكادر المحلي، الذي واجه تحديات جسيمة في إيصال الإمدادات الدوائية، لا سيما في ظل انحسار العلاقات وصعوبة إدخال المعينات الدوائية عبر المنظمات الدولية.
منذ سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة نيالا في أواخر العام 2023، أغلقت جميع شركات الأدوية المسجلة والمرخصة أبوابها، وخرجت عن الخدمة، بسبب انهيار الصناعة الدوائية بالعاصمة الخرطوم. وأصبحت الأدوية تُتداول في هذه المدينة كسلع لا يمكن التحكم فيها، في ظل غياب الضمانات والإجراءات الرقابية لضمان استيفاء شروط التسجيل وسلامة التركيبات التي يتم تداولها، بحسب صيدلي ما زال يزاول عمله من داخل المدينة، وطلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية.
يقول هذا الصيدلي لـ”دروب” : “يتم إدخال الأدوية الضرورية، من علاجات الضغط والسكري والعيون، عبر الحدود الجنوبية مع جنوب السودان، والحدود الغربية مع تشاد، ولكن دون أي رقابة”، بينما نعاني في توفير العلاجات المسجلة والمرخص بها لصعوبة النقل عبر الطرق الرسمية من العاصمة الإدارية أو أي أجزاء أخرى من البلاد.
من جهته، كشف مسؤول بوزارة الصحة الولائية – فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية – أن عددًا كبيرًا من شركات الأدوية وتوكيلاتها خرج من الولاية، ما تسبب في غياب الرقابة تمامًا على تجارة الأدوية، ونشطت تجارة التهريب عبر التجارة الحدودية، الطريقة الأكبر لتوفير الأدوية، مع بعض المعونات التي توفرها المنظمات الإغاثية.
وأوضح الصيدلي أنهم يلجؤون إلى استيراد الأدوية عبر شركات موجودة في بلدان مثل الهند ومصر، مرورًا بجنوب السودان، حرصًا على استيفاء الاشتراطات المعتمدة قبل الحرب، إلا أن تكاليفها تصبح عالية بسبب خطوط النقل، مما يجعل المرضى مضطرين إلى اختيار العلاجات غير المسجلة.
وأشار إلى أن هناك جهات وأفرادًا يتعمدون استيراد أدوية من دول غرب إفريقيا عبر تشاد، تحتوي على مستويات سمّية عالية نتيجة الاختلافات في النمط الغذائي والبنية الجسدية للسكان، مطالبًا بضرورة تفعيل الدور الرقابي لوزارة الصحة، وخاصة المجلس القومي للأدوية والسموم.
بالتزامن مع تدهور الوضع الصحي، نشطت تجارة الدواء المهرّب عبر المعابر الحدودية مع تشاد وجنوب السودان، وهي تجارة محفوفة بالمخاطر في ظل غياب الرقابة، ما يفتح الباب أمام أدوية غير مطابقة للمواصفات.
ويعيش الكادر الطبي في إقليم دارفور – الخاضع في معظمه لسيطرة قوات الدعم السريع – أوضاعًا مأساوية، وسط بيئة عمل تفتقر لأبسط المقومات، وتحيط بها مخاوف أمنية، تتراوح بين الاعتداءات، والترهيب، والعمل القسري، خصوصًا في المراكز التي تستقبل جرحى قوات الدعم السريع، التي تقاتل الجيش منذ منتصف أبريل 2023.
نجحت الإدارة المدنية – الذراع الخدمي لقوات الدعم السريع في الولاية – بالتنسيق مع منظمات مثل “أطباء بلا حدود” و”كير إنترناشونال”، في إعادة تشغيل أقسام النساء والتوليد، والأطفال، والتغذية، وبعض المرافق في مستشفى نيالا التعليمي، والمستشفى التخصصي، والمستشفى التركي، ومركز “الوحدة جنوب”.
تتكفل المنظمات بتوفير المعينات الطبية ودفع 60٪ من رواتب الكوادر، بينما تُغطى الـ 40٪ المتبقية من إيرادات المستشفيات.
لكن الكادر الطبي شهد تغيرات كبيرة، بعد مغادرة معظم الأطباء، وحلول كوادر جديدة محلهم، بينما بقي عدد من الكوادر التقنية والمساعدين.
من أبرز الانتهاكات، حادثة ضرب ممرض داخل غرفة العمليات بالمستشفى التركي في أبريل الماضي، على يد عنصر من الدعم السريع بعد وفاة رفيقه المصاب، أجبر الكادر الطبي على الدخول في إضراب عن العمل استمر لـ 3 أيام، قبل أن تدخل الإدارة المدنية وتعهدت بوقف الانتهاكات ضد العاملين في الحقل الصحي.
واستمرت الانتهاكات بحق الأطباء داخل مدينة نيالا. في الحادي والعشرين من يونيو، اختطفت مجموعة مسلحة الطبيب مهاجر يحيى من عيادته بحي طيبة شرق المدينة إلى جهة مجهولة، وتعرض للتعذيب. وقال أحد جيرانه – فضّل عدم ذكر اسمه بسبب الوضع الأمني – إن أسرته اضطرت إلى دفع فدية بلغت 50 مليون جنيه سوداني، حوالي 18 ألف دولار، لإطلاق سراحه، بعد أن تعرض لصنوف تعذيب وتصويره لإجبار أسرته على دفع الفدية، وقال إنهم بحثوا عنه في جميع مراكز الاحتجاز ولم يجدوه، بينما عجزت الإدارة المدنية والمكاتب الأمنية التابعة لقوات الدعم السريع عن تقديم أي مساعدة لهم خلال عمليات البحث عنه.
ظل الصندوق القومي للتأمين الصحي يقدم خدمات تكافلية لتغطية تكاليف الخدمات الصحية في السودان منذ العام 2003، مقابل اشتراكات، إلا أن غياب التأمين الصحي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع منذ اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل شكّل عبئًا إضافيًا على المرضى. فمنذ توقفت خدمات الصندوق القومي للتأمين الصحي، أصبح المرضى يتحملون تكاليف العلاج كاملة، بما في ذلك الذين لديهم اشتراكات في الخدمة، في ظل توقف الأعمال، وتنامي تكلفة الحصول على الخدمات.
ومنذ أكثر من عام، كوّنت قوات الدعم السريع إدارة مدنية لتحمل أعباء تقديم الخدمات للمدنيين الموجودين في أراضيها، إلا أن انشغال الإدارة المدنية وقوات الدعم السريع بالتعبئة العسكرية، دون تحمل أي مسؤولية تجاه الخدمات العامة، لم يحدث فرقًا.
في يونيو الماضي، أصدرت منظمة “أطباء بلا حدود” تقريرًا يكشف عن تدهور كارثي في الأوضاع الصحية بجنوب دارفور، وأوضح التقرير، الصادر عن مدير دائرة الطوارئ بالسودان، أوزان أعباس، أن الحرب في 2023 دمّرت البنى التحتية الصحية، وأجبرت المنظمات الإنسانية على الانسحاب، بينما توقفت الرواتب وفرّ العاملون الى مناطق أكثر اماناً.
أشار التقرير إلى أن ضعف الإمداد الدوائي وانقطاعه من أكبر التحديات، مما ضاعف من معاناة السكان الذين باتوا يتحملون تكاليف باهظة للوصول إلى ما تبقى من نظام صحي، بعد أن تخلّى عنهم مقدمو الخدمات، وعلى رأسهم وزارة الصحة والإدارة العامة للتأمين الصحي.
بينما كشف مسؤول طبي في “أطباء بلا حدود”، لـ(دروب) – فضّل عدم ذكر اسمه بسبب قيود منظمته التي تقيّد الظهور في وسائل الإعلام – عن صعوبات بالغة في نقل الأدوية من المخازن إلى المراكز الصحية داخل المدينة.
وقال: “نضطر أحيانًا إلى التنسيق المباشر مع قيادة الدعم السريع لضمان حماية كوادرنا خلال ترحيل المساعدات ورغم ذلك يتم توقيف عربات في الطرقات”، وأكد أن الإدارة المدنية لا تملك سلطة فعلية على القوات، مشيرًا إلى تجاهل عناصر الدعم السريع لتعليمات حراس أمن المستشفيات ويصرون عل الدخول مسلحين، الي المنشآت الطبية، وعلى رأسها مستشفى نيالا التعليمي والمستشفيات التي تشرف المنظمة على تشغيلها وتحدث مناوشات كثيرة بينهم وحراسات المستشفى.
تظل غياب الرقابة الدوائية وقصور حماية العاملين في الحقل الطبي داخل مدينة نيالا تحدياً امام الإدارة المدنية المشكلة من قبل قوات الدعم السريع لتولي مسؤولية تقديم الخدمات وحماية المدنيين في مناطق سيطرتها لا سيما مع انتشار ظاهرة الاختطاف وطلب الفدية نظير إطلاق سراح المخطوفين بما في ذلك الأطباء والعاملين في المجال الصحي.
دروب