في تطور لافت، حطت طائرة مدنية في مدرج مطار الخرطوم، وعلى متنها رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، في زيارة وصفت بالعسكرية، رافقه فيها قادة كبار في الجيش السوداني.
وتجول البرهان داخل مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، واطلع على أعمال إعادة تأهيل الموقع الذي كان مسرحًا لمعارك عنيفة.
وتأتي هذه الخطوة بعد أيام من وصول رئيس الوزراء كامل إدريس إلى العاصمة، حيث أعلن أن حكومته ستعمل على إعادة إعمار الخرطوم، وتشغيل مصفاة الجيلي لتكرير النفط كأولوية للإنعاش الاقتصادي.
وقدرت الحكومة تكلفة إعادة الإعمار بنحو 700 مليار دولار، يخصص نصفها تقريبًا للعاصمة وحدها، لكن في الميدان، لا شيء يدل على أن الحرب تقترب من نهايتها.
ففي الفاشر بولاية شمال دارفور، تستمر المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع ضمن ما يشبه حرب استنزاف مفتوحة، وسط اشتباكات ضارية وهجمات مضادة للجيش تهدف إلى منع سقوط المدينة ذات الموقع الإستراتيجي.
أما في جنوب كردفان، فتتكرر المشاهد ذاتها، من خلال تصعيد ميداني متسارع، واتهامات لقوات الدعم السريع بارتكاب مجازر في حق المدنيين، ضمن محاولات لبسط مزيد من النفوذ على الأرض.
وتزامنًا مع الاشتباكات العسكرية، تتسع الكارثة الإنسانية يومًا بعد يوم. فبحسب تقديرات الأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى 60 ألفًا في الخرطوم وحدها، بينما تجاوز عدد النازحين 14 مليونًا منذ بدء الحرب.
ومع انهيار سلاسل الإمداد الغذائي، أصبح نحو 26 مليون سوداني، أي أكثر من نصف السكان، تحت تهديد الجوع، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية على مستوى العالم.
في هذا السياق، أوضح الخبير العسكري والإستراتيجي أمين إسماعيل مجذوب أن تشكيل لجنة عليا من مجلس السيادة إلى جانب عدد من الوزراء والتنسيقيات، وتحركها نحو الخرطوم، يُعد بداية فعلية للخطة الرامية إلى إعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة وباقي الولايات.
وفي حديثه إلى التلفزيون العربي من القاهرة، أكد مجذوب أن الخرطوم أصبحت مؤمنة بالكامل ضد أي تدخل أو تأثير من قوات الدعم السريع، رغم وجود بعض التحديات المتعلقة بالخدمات والأسواق والمصانع.
وأشار إلى أن الوزراء متواجدون ميدانيًا، وتُبذل جهود لحل العقبات على الأرض، في ظل توفر الإمكانيات التي تتيح الاستقرار وعودة المواطنين تدريجيًا.
وأضاف أن قوات الدعم السريع رفضت مرتين الدخول في مفاوضات بجدة، وأن تصريحات قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” تعكس نية استمراره في الحرب، وهو ما اعتبره مجذوب توجهًا يحمل أبعادًا أمنية وسياسية بالغة الأهمية.
وأوضح مجذوب أن الشعب السوداني لن يبقى منتظرًا لقرارات الدعم السريع، ولن يعوّل على التحركات الدولية سواء من واشنطن أو اللجنة الرباعية، بل بدأ بالفعل في إطلاق مبادرات ذاتية داخل السودان لاستعادة الأمان في الشمال والوسط والعاصمة.
ورأى أن قوات الدعم السريع أدركت أنها لن تتمكن من فرض رؤيتها على الشعب السوداني أو التحكم بمصيره.
وأردف قائلاً إن خطة إعادة الإعمار ترتبط بشكل مباشر بوقف الحرب والدخول في عملية تفاوضية جادة، موضحًا أن التفاوض لا يُعتبر مكسبًا سياسيًا لطرف دون آخر، بل هو خطوة نحو التسوية ولإنقاذ الشعب السوداني واستعادة استقراره.
وختم حديثه بالقول إن الحرب يمكن أن تنتهي بطريقتين: إما بالحسم العسكري، وهو خيار مكلف ويؤذي المدنيين، أو من خلال المفاوضات التي ترفضها قوات الدعم السريع حتى الآن.
من جهته،، اعتبر عبد الكريم جبريل القوني، رئيس مركز “سدرا” للدراسات، أن جوهر الأزمة في السودان لا يكمن في الخرطوم أو دارفور تحديدًا، بل في استمرار الحرب ذاتها، وأكد أنه ما دامت الحرب قائمة، فلن يتحقق السلام في البلاد.
وفي حديثه إلى التلفزيون العربي من جوهانسبرغ، أشار القوني إلى وجود فجوة واضحة بين ما يُعلن إعلاميًا حول الوضع في السودان، وبين ما يحدث فعليًا على الأرض، مشددًا على أن الإعلام بات إحدى أدوات التأثير في مجريات الحرب.
وأضاف أن أي منطقة في السودان لن تنعم بالأمان إلا إذا توصّل الطرفان إلى اتفاق لوقف العمليات العسكرية، مشيرًا إلى أن قوات الدعم السريع كانت قد وقّعت سابقًا وثيقة مع رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك تقضي بوقف التصعيد والانخراط في مفاوضات، إلا أن الجيش رفض ذلك المقترح.
وتابع القوني أن قوات الدعم السريع في اتفاق مع جزء من المدنيين لتكوين حكومة تأسيس مدنية حقيقية.
ويرى القوني أن التوجه نحو التسوية لا يتطلب سوى تصريح واحد من قائد الجيش يُعلن فيه استعداده للحوار من أجل إحلال السلام.
لكنه أشار في المقابل إلى أن حكومة البرهان غير مقتنعة بمسار الحل السياسي، وتُفضل خيار الحسم العسكري كوسيلة لإنهاء الحرب.
من ناحيته، يذكّر وليام لورانس، الرئيس السابق لمنطقة شمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، بأن الحرب في السودان لا تزال مستمرة، مشيرًا إلى أن الوضع في الخرطوم يعكس صورة غير مكتملة، نصفها إيجابي والآخر سلبي.
وفي حديث إلى التلفزيون العربي من واشنطن، اعتبر لورانس أن أي خطوة نحو مسار السلام تُعد أمرًا إيجابيًا، غير أن الشعب السوداني بحاجة إلى حوكمة فعّالة واتفاق سلام يضمن الاستقرار طويل الأمد، ويُمهّد الطريق لإعادة الإعمار في الخرطوم، مؤكدًا أن هذه الجهود مرتبطة بالدور الحكومي.
وأضاف أن تحقيق السلام في السودان يُعتبر خطوة جيدة، لكن الوصول إلى سلام مستدام هو الهدف الأفضل، والخرطوم تشكل عنصرًا محوريًا في هذا المسار، لكنها لا تمثل القصة بأسرها.
وأكد لورانس أن كلا الطرفين المتنازعين لم يبلغ بعد مرحلة الاستعداد الحقيقي للتفاوض على اتفاق جديد يتضمن تنازلات حقيقية تمس مصالحهم.
وفي ظل هذا الواقع، يرى أن الأطراف المسيطرة على المناطق المختلفة يجب أن تتحمّل مسؤولية إنسانية عبر تقديم المساعدات للمدنيين، مشيرًا إلى أن تقسيم السودان لا يخدم أي طرف من الأطراف، ولا يصبّ في مصلحة الشعب.
وختم بالقول إن كل طرف يعتقد أنه قادر على حسم الموقف لصالحه، وهو ما يجعل التوصل إلى اتفاق سياسي صعبًا، خاصةً في ظل التعامل مع المفاوضات وكأنها امتداد للمعركة.