آخر الأخبار

اللاجئون السودانيون في مصر … مهن مبتكرة وحقوق ضائعة.. رحلة كفاح من أجل البقاء

شارك

القاهرة :سمية المطبعجي

هناك في العراء على طريق وادي النطرون جلس ثلاثتهم يلفحهم زمهرير شتاء يناير من العام. تلاصقت أجسادهم تلفها خرقة من (ملاءة) بالكاد تكافح أن لا يتسرب الهواء البارد من فتحاتها الممزقة إلى الأجزاء العلوية من أجسامهم. لتبقى أرجلهم التي فترت بين شد وترادف مبغاة شعور بشيء من الدفء، تغطيها على استحياء جلابيب خفيفة بالية لا تمت لمظاهر الشتاء بصلة، فيما ارتدى أحدهم (شورت) لتظل سيقانه عارية يتصيدها برد ذلك المكان المكشوف. أقدامهم المكشوفة ذات النعلين الباليين لكل، لايغطيها سوى أتربة توحي برحلة طويلة مضنية خاضوها للوصول إلى ذاك المكان المقفر. ثلاثة سودانيين من الذكور بين العشرينات والثلاثينات تراوحت أعمارهم، جلودهم السمراء اعياها برد الشتاء حد التشبع فكانت كأنها بلا حياة رمادية جافة . يبقون هناك إلى أن يمن الله عليهم بعربة نقل يطلب صاحبها بعض العمالة لمزرعته، فذلك هو الفرج ليدلفون بذات التلاصق والإحتماء تحت ملاءتهم فوق عربة النقل طلباً للرزق ليعودوا بعد يومين أو ثلاثة ببعض جنيهات، لأسر في إنتظارهم وأفواه جوعى بما تيسر ليعاودوا الكرة. أحد السماسرة من المصريين في المكان قال : ” أعداد السودانيين من العمالة كثرت في الفترة الأخيرة .. لم نألف وجودهم في السابق لكنهم جاءوا بعد الحرب طلباً للعمل في المزارع في أعمال التنضيف والحصاد .. يعملون بالمقاولة، فقد يتطلب العمل يوم أو ثلاثة، يكملونه ويغادرون لغيره ..” .

ملمح عابر لأحد أشكال المعاناة لمن يكابدون بحثاً عن رزق في بلاد دفعتهم إليها ظروف الحرب. عشرات الآلاف من السودانيين على اختلاف وظائفهم وأعمالهم باتوا سواسية، عاجزون بلا عمل . معظم من التقتهم (مداميك)، تصيدوا مهن لم يألفوها من قبل للحصول على مصدر دخل يعين الأسرة في أدنى متطلبات الحياة . نعمة عبدالله موظفة بأحد البنوك الحكومية في الخرطوم وزوجة وأم لثلاثة أبناء قالت ” جئنا إلى مصر دون تخطيط هاربين فقط من الحرب وبحثاً عن الأمان ، كانت رواتبنا في الأشهر الأولى شبه منتظمة ومصدر رئيسي لإعاشة الأسرة .. لكن إدارة البنك طالبتنا بعد فترة وجيزة بالإختيار بين الاستقالة أو الإجازة بدون مرتب، وفي الحالتين يعني الأمر وقف الرواتب .. لا أجيد مهنة أخرى غير وظيفتي، فتعلمت شيئا فشيئا عمل الفطائر وأصبحت ابيعها بالطلب بين المعارف ..” .

طعمية عمر وقهوة علوية

(طعمية عمر) فلح عمر ، الذي قدم عن طريق التهريب واستقر لاجئاً بصفة رسمية في العجمي بالإسكندرية، فلح في انتزاع ذلك اللقب بإتقان عمل لم يخطر بباله يوما في أدائه داخل مطبخ منزله، ناهيك عن امتهانه . يحدثنا عمر بملامحه الحازمة أمام موقد (الطعمية) أو (الفلافل) : ” كنت في السودان أعمل في سوق الله أكبر كسمسار في وضع مالي مريح .. جئنا هنا بعد الحرب ولدي أسرة وأطفال في حاجة للدراسة … اخوتي في الخارج يمدون يد العون بالمصاريف لكن كثرت عليهم المسؤوليات .. تدربت قليلا في البيت على عمل الطعمية وانتهزت وجودي وسط مجتمع سوداني واسع في المنطقة وحبهم للطعمية وسعرها الذي هو في متناول الجميع .. وشيئا فشيئا أجادت زوجتي عمل الرغيف البلدي السوداني فوجد رواجاً وسط السودانيين وحتى المصريين ” . وفي زاوية مقتطعة من محل طعام بأحد أحياء القاهرة الشعبية تتناوب علوية وزوجها في عمل المشروبات الساخنة وبيعها (قهوة – شاي – حلبة – كركدي ..) . تقول علوية ” لم اعتد العمل .. كنت ربة منزل وزوجي يعمل بأحد المصانع ببحري ، لا يتطلب عمل المشروبات الكثير من المعرفة فلجأنا إليه .. معظم الزبائن من السودانيين والقليل من المصريين .. نضطر للتخفي أحيانا من ناس المحلية وشغلنا عموما في مهب الريح اذا تم ضبطنا نعمل بدون ترخيص ..” .
الباعة الشباب
في العديد من محلات بيع الملابس و(السوبر ماركت) انتشرت تلك الوجوه السمراء لشباب سودانيين في العشرينات وما دون. موسى ذو الواحد والعشرين عاما ، القينا عليه التحية أمام أحد محلات بيع الملابس، خرجت ابتسامته واهنة بين ملامح وجه كأنه يحمل كل هموم العالم ، اخبرنا بأنه طالب في السنة قبل النهائية بأحد الجامعات السودانية المرموقة في السودان قبل الحرب، وقال ” والدي مهندس ولكنه عاطل الآن وعمي يساعدنا من الامارات بما تيسر .. خرجنا أنا وأخي للبحث عن عمل فدلنا أحد الأصدقاء المصريين على هذا المحل، فيما يعمل أخي الأصغر في سوبر ماركت .. نعمل لساعات طويلة بأجرة 80 جنيهاً في اليوم .. قمت بتجميد العام الدراسي، لا أنا ولا واحد من اخوتي الأربعة يدرس الآن بسبب الصعوبات المادية ” .

الشابة نضال قابلتنا بابتسامة مجهدة بعد ساعات طويلة من العمل في محل لبيع الملابس قالت : ” أعمل طوال 10 ساعات يومياً لكي ادبر مصاريف دراستي في إحدى الجامعات السودانية التي تعمل (اون لاين)… لدي أخوة يصغرونني غير ملتحقين بالمدارس بعد قدومهم من السودان .. انها سنتي الأخيرة واطمح للتخرج والسفر للعمل لمساعدة الأسرة .. ” . مهند الشاب الثلاثيني صاحب كافيه أنيق على البحر بمنطقة العجمي، كان قد افتتحه ضمن خطة استثمارية قبل الحرب بسنوات، تحدث إلينا قائلا: ” توافدت أعداد كبيرة من السودانيين على المنطقة واصبح الكثير منهم من رواد الكافيه .. أعلم أن غالبيتهم دون عمل أو مصدر دخل ثابت ويعتمدون في الغالب على تحويلات ذويهم من الخارج .. بعضم يأتي علهم يتصيدون فرصة عمل على الماشي وأحيان كثيرة يعجزون عن دفع ثمن فنجان قهوة ، وابعاداً للحرج نتفق على أنه في الحساب ولا عليكم .. وبالفعل تراجع المدخول رغم تزايد الزبائن ولكن احس بالمسؤولية تجاههم .. العديد منهم من هذا المقام أمتهن السمسرة في العقارات وتأجير الشقق ..” .
الحناء والتضفير المهن الأكثر إزدهاراً

أطباء ومحامون وصحفيون يجلسون في مقاعد العطالة ، ولجأوا إلى مزاولة مهن متعلقة في معظمها بالأطعمة والمشروبات والمخبزوات وهي الأكثر طلباً، فخابت الحظوظ لدى البعض وصابت عند آخرين. كما كانت المدارس توفر الكثير من الوظائف الإدارية والتعليمية وها هي الآن قد توقفت. غير أن السوق الأكثر رواجاً كان سوق الحناء وتضفير الشعر وسط النساء والسيدات . بعضهن كن يزاولن المهنة في السودان وتتبعن حركة زبوناتهن فحضرن فكان الخير خيرين بإقبال الكثير من المصريات على (الحنة والتمشيط) فانتعش سوقهن . على ناصية أحد شوارع الإسكندرية الشهيرة المزدحمة تجلس فتيات ونساء بين العقد الثاني والرابع من العمر . يقضين يومهن طويل الساعات من الباح حتى المساء، في انتظار الزبونات، كريمة قالت : ” نأتي حوالي الحادية عشرة صباحا .. بعض الزبونات من المارة نقوم برسم الحناء على كفها بهذا المكان … وبعضهن يطلبن الذهاب للمنزل للحنة أو التمشيط .. أو طلب هاتف أي منا حسب الطلب لأداء المهمة لاحقاً بالمنزل، أو لحنة عروسة .. ثقافة الحنة والمشاط دخلت لدى المصريات وانتشرت والسوق يمضي في انتعاش وبعضنا وجد فرصة للسفر للعمل بالسعودية أو دول عربية أخرى من هذا المكان ..” . فاتن طالبة الفنون الجميلة بالسنة الأخيرة بجامعة الإسكندرية ، تسعى ووالدتها لتدبر إعالة الأسرة رغم وجود والدها الذي عجز عن أيجاد عمل، وجدت طريقها الى سوق رسم الحناء بنشر رقم هاتفها في نطاق المعارف والأهل ليتوسع المجال بعد ذلك . واللافت ان النساء كن الأكثر سعياً لتوفيق الأوضاع والقيام بمسؤلية إعالة الأسر .
اتفاقيات وحقوق مهدرة
يتساءل العديد من السودانينيين حول إتفاقية الحريات الأربعة التي ان نفذت لكانت قد ازاحت الكثير من العنت والمعاناة . إتفاقية الحريات الأربعة وقعت بين الحكومتين السودانية والمصرية بالقاهرة في يناير من العام 2004 ومنحت مواطني البلدين الحق في الإقامة والتملك والعمل والتنقل . ولكن موقف الإتفاقية منذ توقيعها ظل متذبذباً بين الرفض والتحفظ والتردد والقبول من الجانب المصري، فبالرغم من أن السودان التزم ببنودها إلا أن مصر ظلت متحفظة ، بل طالبت بإجراء تعديلات على مشروع الاتفاق بعدم تقييد حق التملك للمصريين في السودان فيما يشترط لتملك السودانيين في مصر أن يكون خاضعا لقانون (الحكر) ، بأن لا يتجاوز إنتفاع السودانيين بالملكية العشر سنوات حتى الوصول في الحق في التملك ، فيما أتاح السودان للمصريين الدخول بدون تأشيرة ، أما مصر فقد حددت دخول السودانيين بين 18- 49 عام بتأشيرة مسبقة ، وظل حق العمل معلقا وكذلك الإقامة ملزمة . بل اللافت أن السفارة السودانية الآن وضمن خدماتها للسودانيين في مصر قد أدرجت ما سمته (بإفادة الحريات الأربعة) في المعاملات القنصلية بموقعها الالكتروني ، بحيث يقدم للجهة التي ترغب في عمل طالب الإفادة معها برسوم قدرها 765 جنيهاً مصرياً .

فاتفاقية الحريات الأربعة لم تلغي ولم تنفذ ويعمل بها حسب الظروف ورغبة كل من الدولتين على حساب المواطنين . ففي العام 2018 قال وزير الخارجية المصري سامح شكري أن إتفاقية الحريات الأربعة لم تستكمل من قبل البلدين ، وفي عام 2021 أصدرت القنصلية المصرية بالخرطوم تعميماً للتوجه للحصول على تأشيرة دون مقابل وفقا لإتفاقية الحريات الأربعة .

قد يقول قائل أن الأوضاع تختلف ما بعد الحرب والكثير من السودانيين يعيشون في مصر بصفة لاجئين . وهنا نشير الى أن الإتفاقية الدولية الخاصة بوضع اللاجئين قد خصصت الفصل الثالث لتنظيم (أعمال الكسب) وكفلت في هذا الفصل الحق في العمل لكل أنواع العمل للاجئين سواء كان عملاً حرا أو مأجوراً أو المهن الحرة من حملة شهادات. حيث نصت المادة (17) من الإتفاقية (1) ” تمنح الدول المتعاقدة اللاجئين المقيمين بصورة نظامية في إقليمها أفضل معاملة ممكنة تمنح، في نفس الظروف، لمواطني بلد أجنبي في ما يتعلق بحق ممارسة عمل مأجور” . والمادة (18): العمل الحر : ” تمنح الدول المتعاقدة اللاجئين المقيمين بصورة نظامية في إقليمها أفضل معاملة ممكنة، وعلي ألا تكون في أي حال أقل رعاية من تلك الممنوحة للأجانب عامة في نفس الظروف، في ما يتعلق بممارستهم عملا لحسابهم الخاص في الزراعة والصناعة والحرف اليدوية والتجارة، وكذلك في إنشاء شركات تجارية وصناعية” . والمادة (19) المهن الحرة : ” تمنح الدول المتعاقدة اللاجئين المقيمين بصورة نظامية في إقليمها، إذا كانوا يحملون شهادات معترفا بها من قبل السلطات المختصة في الدولة ويرغبون في ممارسة مهنة حرة، أفضل معاملة ممكنة، على ألا تكون في أي حال أقل رعاية من تلك الممنوحة للأجانب عامة في نفس الظروف ” .
اما قانون لجؤ الأجانب المصري لعام 2024 والذي يترقب تطبيقه قريباً، على الرغم من أنه قد نص في مواده الحق للاجئين في العمل، إلا أنه قيد ذلك بإخضاعه للقوانين الوطنية ذات الصلة. فقانون العمل المصري نصاً يسمح للاجئين بالعمل ولكن وفق شروط وضوابط غالباً ما يصطدم بها اللاجئين، فلا بد من حصول اللاجئ على تصريح عمل من وزارة القوى العاملة والذي يخضع لموافقة الجهات الأمنية، فيما حدد القانون مهن محظورة على الأجانب وتقتصر فقط على المصريين، مثل المحاماة والصحافة والمهن الطبية والهندسية والوظائف الحكومية، وتلك تحديداً مخالفة لما نصت عليه الاتفاقية الدولية للاجئين وفقاً للمادة (19) المذكورة آنفاً .

فالنظام القانوني والإداري والإجراءات البيروقراطية والنصوص والتدابير التي تعطى الأولوية للرعايا من المصريين وتفضيلهم على الأجانب تقلل بالطبع فرص الحصول على عمل إلى الصفر وترد من طموحات العمل في بلد اللجؤ خائبة وتدفع بالكثيرين لارتجال مهن هامشية آملين في انقشاع غمة الوطن أو ربما تدفع بهم الأيام إلى بلدان توفر لهم فرص وخيارات وحياة أفضل .

مداميك

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار