في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
على وقع الهدوء النسبي الذي أعقب وقف إطلاق النار في قطاع غزة ، يتكشّف مشهد سياسي أكثر تعقيدا من ساحات القتال، إذ بدأت معالم صراع جديد، لا يُدار بالدبابات هذه المرة، بل بالإرادات والتفسيرات.
فبينما تسعى واشنطن إلى تثبيت اتفاقها الذي أنهى الحرب، تتجه إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) نحو مواجهة من نوع آخر، هدفها تحديد مَن يمتلك الكلمة الفصل في تنفيذ بنوده، وترتيب أولويات المرحلة التالية.
في هذا السياق، تشير التحركات الأميركية المتسارعة إلى رغبة واضحة في تحويل الهدنة إلى مسار سياسي أكثر استقرارا.
فالمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف يستعد لزيارة المنطقة لمتابعة إنشاء سلطة انتقالية دولية في غزة، ضمن خطة رعتها إدارة الرئيس دونالد ترامب ، وتعهدت واشنطن بتمويلها وتوفير قوات حفظ سلام عربية وأوروبية.
لكن خلف هذه الدبلوماسية النشطة، يكمن مأزق أكثر عمقا يتعلّق بمن يملك تفسير الاتفاق، ومن يحدد حدود الأمن والسيادة في غزة.
يرى المسؤول الأميركي السابق توماس واريك في حديثه لبرنامج "مسار الأحداث" أن الالتزام الأميركي قائم، لكنه يربط نجاح الاتفاق بسلوك حركة حماس، معتبرا أن أي تأخر في تسليم السلاح أو استمرار الإعدامات الميدانية سيمنح واشنطن مبررا للسماح لإسرائيل بالعودة إلى الحرب.
غير أن هذا الطرح، وإن بدا حريصا على استقرار الهدنة، يعكس رؤية أميركية ترى أمن إسرائيل وما تراه لازما لذلك مقدما على الإعمار في قطاع غزة، وتضع "نزع سلاح" المقاومة شرطا لأي إعادة بناء، وهو ما يثير قلقا فلسطينيا واسعا بشأن نيات واشنطن الحقيقية.
في المقابل، يدرك الإسرائيليون أن اللحظة الراهنة تمثل فرصة لإعادة صياغة المشهد لمصلحتهم.
فبحسب الأكاديمي والخبير في الشأن الإسرائيلي الدكتور مهند مصطفى، تعتبر تل أبيب أن مكاسبها بعد الحرب تفوق أي مصلحة في استئنافها، إذ حصلت على جميع أسراها الأحياء، وتحتفظ بنصف مساحة القطاع تحت سيطرتها العسكرية.
لذلك فهي تسعى إلى تثبيت هذا الواقع كأداة ضغط على حماس والوسطاء، وتحويله إلى ورقة تفاوض تمنحها اليد العليا في تفسير بنود الاتفاق.
ويرى مصطفى أن إسرائيل لا تريد عودة شاملة للحرب، لكنها في المقابل تعمل على إعادة تعريف المرحلة التالية وفق أولوياتها الأمنية.
فهي تسعى لجعل "نزع سلاح حماس" البند الأول في أي تنفيذ، وتعارض أن تبدأ الخطة بتشكيل حكومة أو لجنة فلسطينية لإدارة القطاع، لأن ذلك -من وجهة نظرها- سيخلق كيانا معترفا به دوليا يعيدها إلى ما تعتبره مأزق "6 أكتوبر" حين فُرضت عليها وقائع سياسية غير مرغوبة.
هذا المنحى الإسرائيلي في فرض التفسير الأحادي يثير تخوفات لدى الفلسطينيين.
فبحسب مدير المؤسسة الفلسطينية للإعلام إبراهيم المدهون، فإن إسرائيل تتلكأ في تنفيذ حتى المرحلة الأولى من الاتفاق، من خلال تقييد المساعدات وإغلاق المعابر واستمرار الاستهدافات المحدودة، بينما تواصل استخدام ملف الجثث ذريعة للضغط السياسي.
ويضيف أن حركة حماس، التي التزمت سريعا بإطلاق الأسرى وتنفيذ التزاماتها، تسعى الآن لدفع العملية نحو الاستقرار من خلال لجنة إسناد مجتمعي تدير غزة من مستقلين، لكن الاحتلال يحاول إفشال هذه الجهود لإبقاء القطاع في حالة "جمود منظم" تسمح له بالتحكم في التفاصيل.
في المقابل، تطرح واشنطن مشروع السلطة الانتقالية كبديل عن الحكم المحلي، في محاولة لجمع قوات دولية تمارس مهام أمنية داخل القطاع.
لكن هذا الطرح، كما ترى أستاذة الدبلوماسية وحل الصراع في الجامعة العربية الأميركية الدكتورة دلال عريقات، يعيد إنتاج إشكالية "المراحل الانتقالية المستدامة"، التي تبقي الاحتلال فاعلا دون حل جذري.
وتؤكد أن الضمانات التي قدمها ترامب شخصيا لم تتحول بعد إلى التزامات عملية، وأن الضامنين الإقليميين لم يقوموا بالدور الكافي لضمان الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية.
وترى دلال عريقات أن المشكلة الجوهرية تكمن في تغييب جوهر الصراع، فالاتفاق -كما صيغ- يعالج نتائج الحرب دون أن يقترب من أسبابها، وعلى رأسها الاحتلال العسكري الإسرائيلي.
وتضيف أن استمرار الخروقات، سواء في الضفة الغربية أو داخل غزة، يؤكد أن إسرائيل تتعامل مع الاتفاق كفرصة لإعادة التموضع لا لإنهاء الصراع، وأن الإدارة الأميركية تغض الطرف عن هذه الانتهاكات تحت شعار "الأمن أولا".
ومع دخول المنطقة مرحلة "صراع الإرادات"، يبدو كل طرف عازما على اختبار مدى صلابة خصمه في تفسير نصوص الاتفاق، فإسرائيل تريد أن تبدأ المرحلة الجديدة من بوابة الأمن ونزع السلاح، بينما تسعى حماس والوسطاء العرب إلى تحويل الاتفاق إلى خطوة نحو الاستقرار والإعمار.
أما واشنطن، فتمارس دورا مزدوجا بين الضغط على الجانبين ومحاولة حفظ نفوذها السياسي في الشرق الأوسط عبر سلطة دولية قد تتحول إلى أداة جديدة لإدارة الأزمة، حسب محللين.
هذا التداخل بين الإرادات لا ينفصل عن حسابات أوسع، إذ تشير معطيات ميدانية إلى أن تل أبيب تعمل على ترسيخ وجودها العسكري في مناطق محددة جنوب وشرق القطاع، تحت مسمى "إعادة الانتشار"، بينما تتجنب استخدام مصطلح "الانسحاب الكامل"، ما يفتح الباب لتفسير مرن يسمح لها بالتحكم في إيقاع التنفيذ ومراحله.
وفي الوقت ذاته، لا تخفي حماس خشيتها من أن يتحول الاتفاق إلى غطاء لفرض "سلام هش" يحاصر غزة اقتصاديا ويمنع إعادة إعمارها.