آخر الأخبار

المنح الدراسية جسور الهيمنة الخارجية على أفريقيا

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تمثل الدبلوماسية التعليمية والعلمية إحدى الأعمدة الرئيسية في سياسات بناء وترسيخ النفوذ التي تتبعها القوى الكبرى والصاعدة على مستوى العالم، حيث تصفها وزارة الخارجية الفرنسية بأنها "عنصر أساسي من عناصر سياسة التأثير التي تنتهجها على الساحة الدولية" وسبيلاً "لتعزيز عدد وفير من علاقات فرنسا الثنائية"، وهو ما يجعل المنح الدراسية أداة محورية للقوة الناعمة، وهي القدرة على الجذب والتأثير دون إكراه.

ورغم أن الأهداف المعلنة لهذه المنح الدراسية تبرز غالباً استهدافها دعم التنمية في أفريقيا ، وتعزيز المهارات البشرية، وسد فجوات التعليم، وبناء القدرات، فإن العديد من التحليلات تشير إلى وجود غايات خفية مختلفة مرتبطة بتعزيز المصالح الاقتصادية كالوصول إلى الأسواق والموارد، والسياسية المتعلقة بكسب الحلفاء الدبلوماسيين، والأجندات الأيديولوجية من خلال نشر نموذج الحكم أو القيم الثقافية.

مصدر الصورة المنح الخارجية تعد بمثابة قوارب نجاة يسعى كثير من الطلاب الأفارقة للصعود على متنها والاستفادة مما توفره (شترستوك)

أعداد متزايدة

يؤدي تردي الأنظمة التعليمية وضيق الفرص الاقتصادية أمام ملايين شباب القارة السمراء إلى تحول المنح الخارجية لقوارب نجاة يسعى كثير من الطلاب الأفارقة للصعود على متنها والاستفادة مما توفره من إمكانيات للارتقاء الاجتماعي والاقتصادي.

وقد شهدت أعداد هذه الشريحة في الصين زيادة صاروخية إذ ارتفعت من أقل من 2000 طالب في عام 2003 إلى أكثر من 360 ألف طالب 2024، كما تضاعف عدد الطلاب الأفارقة في الصين 21 مرة في عقد واحد فقط، وتعهدت بكين بتقديم 50 ألف منحة للطلاب الأفارقة بين عامي 2019 و2021.

وليست الصين التي تسعى وحدها في هذا المضمار، حيث أشار تقرير صادر عن "معهد التعليم الدولي" الذي يدير برنامج "فولبرايت" الأميركي للمنح إلى وجود قرابة 57 ألف طالب جامعي من أكثر من 51 دولة من أفريقيا جنوب الصحراء كانوا يدرسون في الولايات المتحدة في العام الدراسي 2023-2024، وهي زيادة تجاوزت 13%، بعد زيادة أخرى أكبر زادت على 18% في العام السابق.

إعلان

وتعد فرنسا وجهة رئيسية للطلاب الأفارقة، وتوضح دراسة صدرت بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والبحوث الفرنسية أن البلاد استضافت في العالم الدراسي 2023-2024 قرابة 219 ألف طالب من القارة الأفريقية.

كما تشير دراسة شارك في كتابتها مدير"معهد فينشسكي للديموغرافية" الروسي ميخائيل دينيسنكو إلى تزايد أعداد الطلاب الأفارقة في روسيا من 6700 في العام الدراسي 2010-2011 إلى ما يزيد على 34 ألفا في 2022-2023.

وللقوى الصاعدة نصيب من هذه الكعكة أيضا حيث تشير الأرقام إلى زيادة عدد الطلاب الأفارقة في تركيا إلى ما يزيد على 62 ألفا عام 2024 صعودا من 3500 عام 2011.

مصدر الصورة أعداد الطلاب الأفارقة في الصين شهدت زيادة صاروخية (شترستوك)

لماذا يغادرون؟

يعد الطلاب الأفارقة من أكثر الشرائح طلبا للمنح الخارجية، وهو انعكاس للواقع التعليمي المتدهور في عموم القارة السمراء، حيث تشير التحليلات إلى أن العديد من أنظمة التعليم الأفريقية تعترضها تحديات كبيرة من قبيل نقص المعلمين المؤهلين، وعدم توفر المواد التعليمية الكافية، وسوء الإدارة والحوكمة، ما يدفع الطلاب المتميزين إلى البحث عن "أطواق نجاة" خارجية.

جانب آخر من هذا الواقع المحزن يوضحه تقييم صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والمتمثل في نقص الاستثمار في التعليم العالي الأفريقي في البحث والتطوير ولا سيما في مجالات حيوية كالصحة والزراعة والتكنولوجيا، حيث تستثمر أفريقيا 0.6% من ناتجها المحلي الإجمالي في البحث والتطوير، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 1.79%.

كما يلقي تقييم "اليونسكو" الضوء على تأثير الفقر و البطالة في دفع الشباب الأفريقي إلى الهجرة، إذ يدخل 11 مليون شاب أفريقي سوق العمل سنويا، لكن أكثر من 40% منهم يفتقرون إلى المهارات اللازمة للتوظيف، مما يضطر الكثيرين إلى سلوك سبل أخرى للتحصيل الاقتصادي والارتقاء الاجتماعي، من أبرزها البحث عن منح للتعليم العالي في الخارج.

في المقابل، تبدو الصورة في الخارج مغرية وجذابة للطلاب الأفارقة حيث توفر الدول الأوروبية على سبيل المثال تعليماً عالي الجودة ويركز على الجوانب العملية ما يوفر للطلاب القادمين من أفريقيا فرصة لتطوير مهاراتهم الشخصية والعملية، كما أن الدراسة في هذه المؤسسات العلمية تيسر لهم الانخراط في أسواق العمل العالمية، كما تعزز بشكل كبير فرصهم في أسواق العمل المحلية إن عادوا إلى بلدانهم.

وبالنظر إلى الفقر الذي قد يعيق الكثير من الأفارقة عن استكمال الدراسة، تجسد المنح الدراسية الأجنبية الممولة بالكامل ما يوصف بـ"الفرصة الذهبية" التي لا تتيح لهم مواصلة رحلتهم التعليمية فقط بل هي تتكفل كذلك بكل نفقات المعيشة والرسوم والأقساط الدراسية ما يتيح للحاصلين عليها فرصة التفرغ للبحث العلمي.

مصدر الصورة الفقر والبطالة له تأثير كبير في دفع الشباب الأفريقي إلى الهجرة (شترستوك)

معايير الاختيار في خدمة المانحين

يبدأ بناء آليات الهيمنة على القارة الأفريقية عبر المنح منذ مرحلة مبكرة، حيث تخضع عمليات الاختيار والتقييم إلى العديد من المعايير المرتبطة بأهداف الدولة المستضيفة، حيث تُحدد الدول أو المؤسسات نطاق البلدان المستفيدة بحسب أولوياتها الجيوسياسية أو الاقتصادية.

إعلان

وتبين ورقة منشورة على "بريتش جورنال أوف بوليتيكال ساينس" الصادرة عن جامعة "كامبريدج" أن برامج الدعم والمساعدات، ومنها المنح التعليمية، توجه لتوطيد التأثير في دول أو حكومات بعينها.

وبالاعتماد على تحليلات إحصائية توضح ورقة شاركت في إعدادها الخبيرة في السياسة والصناعة الصينية ليا شيه أن الدول المنخرطة في مبادرة الحزام والطريق لديها عدد أكبر من الطلاب الحاصلين على المنح الدراسية مقارنة بالدول غير المنخرطة، وأن بكين خصصت 10 آلاف منحة إضافية سنوياً لدول الحزام والطريق عبر برنامج "منح طريق الحرير".

كما أن توزيع المنح والتخصصات الدراسية يرتبط في الغالب بالمصالح الإستراتيجية للأطراف المانحة، حيث تشير ورقة منشورة على موقع "المكتبة الوطنية للطب" الأميركي إلى تركز المنح الصينية بشكل كبير على تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

ورغم أن هذا التوجه يساعد في معالجة النقص الحاد في المهندسين والباحثين في أفريقيا، فإنه يشكل أيضا استثمارا صينيا إستراتيجياً، ما يضمن وجود قوة عاملة أفريقية مؤهلة ومألوفة بالمعايير والتقنيات الصينية، وبالتالي تعزيز الاعتماد طويل الأمد على بكين.

وتشير تغطية منشورة في موقع "صحيفة الشعب" الصينية إلى برنامج لبناء صيني لتعزيز القوى العاملة الماهرة في أفريقيا، حيث تضرب العديد من الأمثلة على العلاقة بين التعليم المهني والشركات الصينية العاملة في أفريقيا.

واستشهدت بالطلاب من جيبوتي المسجلين في برنامج لتطوير مهارات تشغيل السكك الحديدية، حيث سينضم الخريجون إلى شبكة القطار الكهربائي التي بنتها الصين بين جيبوتي وإثيوبيا ، إلى جانب برامج مشابهة في قطاعات مختلفة في دول أخرى كمجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في زامبيا.

مصدر الصورة توزيع المنح والتخصصات الدراسية يرتبط في الغالب بالمصالح الإستراتيجية للأطراف المانحة (شترستوك)

جسور الهيمنة

تصف الدول المانحة الخريجين العائدين بأنهم "جسور" بين بلدانهم والدولة التي درسوا فيها، ورغم إسهام هؤلاء في نقل الخبرات والمعارف المكتسبة، فإن هذه الخبرات غالباً ما تكون متوافقة مع نموذج التنمية والنهج الفكري للدولة المانحة، بما يشمل العديد من الجوانب الأكاديمية والمهنية والسياسية.

وتستهدف برامج المنح "تدريب نخب الغد السياسية والاقتصادية والعلمية" وفقاً لموقع وزارة الخارجية الفرنسية في تعريفه بالدبلوماسية التعليمية لباريس، حيث يتم تنسيق "إستراتيجية الاستقطاب" على أرفع مستوى من خلال التعاون الوثيق بين وزارتي أوروبا والشؤون الخارجية والتعليم العالي والبحوث.

ويحقق خلق نخب متماهية ثقافياً عدداً من الأهداف للجهات المانحة، حيث يضمن استمرار استخدامهم للغة الفرنسية أو الصينية بقاء هذه الدول كشركاء لا غنى عنهم من جهة، كما يساهم في استدامة بقاء دول هؤلاء الخريجين ضمن فضاءات نفوذ ثقافي معين كالفرنكوفونية مثلاً.

وتخلص مقالة بحثية ساهم في إعدادها الأستاذ المشارك في جامعة سيدني سيي أبيمبولا ومن خلال مقابلات من خريجين من عدة دول أفريقية درسوا في أستراليا، إلى أن المنح الدراسية التي تخصصها كانبيرا للأفارقة لديها القدرة على نشر النفوذ الأسترالي، وأن التعليم الذي يتلقاه هؤلاء الطلاب العائدون يساهم في جعلهم فاعلين في التنمية في بلاده، موصية بتطوير الاستثمارات في المنح الدراسية الدولية لإعداد الباحثين العائدين بشكل أكبر للتأثير على التنمية في بلادهم وإدامة النفوذ الأسترالي.

مصدر الصورة برامج المنح الدراسية تهدف إلى "تعزيز الفهم لقيم وثقافة الدولة المضيفة" و"بناء علاقات طويلة الأمد" (شترستوك)

شبكات الخريجين

وفي هذا السياق تبرز "شبكات الخريجين" كأحد أهم قنوات استمرارية التواصل بين الخريجين العائدين إلى بلادهم والدول المانحة، حيث يتم تشكيل ودعم هذه الشبكات عبر مجموعة من الأدوات والقنوات، على سبيل المثال تضم شبكة خريجي فرنسا التي تديرها باريس أكثر من 600 ألفاً، ويشير موقع الشبكة الإلكتروني إلى العديد من الوسائل التي تضمن دوام العلاقة بين فرنسا وهذه الشريحة كدعم الشراكات وتوفير فرص العمل وتنظيم الفعاليات والمؤتمرات.

إعلان

ويوضح مقال نشره القائد في البحرية الأميركية جوناثان أهلستروم توظيف واشنطن لمنصات التبادل التعليمي، معتبرا أن برنامج فولبرايت الذي يستقطب 4 آلاف طالب دولي سنوياً يحدث "تأثيراً كبيراً في أفريقيا"، ويضرب المقال مثالاً بغانا حيث يضم خريجو فولبرايت رؤساء ورؤساء وزراء سابقين وأكاديميين وشخصيات بارزة أخرى.

ويعد الرئيس الإثيوبي الأسبق مولاتو تيشومي (2013-2018) أحد أهم الأصوات الداعية إلى تطوير علاقات بلاده بالصين التي أكمل فيها دراسته الجامعية، حيث شهد عهده انخراط الشركات الصينية في تعزيز البنية التحتية الإثيوبية في النقل والصناعة، وفي مقابلة مع "شبكة تلفزيون الصين الدولية" وصف تيشومي العلاقة بين البلدين بأنها "شراكة إستراتيجية شاملة في جميع الظروف".

وتشير دراسة بريطانية إلى استخدام كانبيرا برامج المنح الدراسية في أفريقيا لتعزيز نفوذها الدبلوماسي، حيث إن العلاقات المستمرة بين أستراليا والخريجين قد تكون ضرورية لتعزيز التأثير الدبلوماسي، خاصةً عندما يتولى الخريجون أدواراً قيادية في حكوماتهم.

وحتى إن لم ينخرط الخريج في السلك الحكومي، فإنه يسهم في تشكيل الرأي العام أو القطاع الخاص بما يخدم المصالح الخارجية، حيث تضرب دراسة عن "دور القوة الناعمة الصينية في أفريقيا" منشورة في موقع "ريسيرش غيت" مثالاً بأن خريج دراسات عليا في الهندسة التكنولوجية من الصين قد يفضل استخدام منتجات شركة "هواوي" في شركته الخاصة، وهو ما يعزز الهيمنة الرقمية الصينية في القارة.

هجرة الأدمغة

يوجه العديد من الأكاديميين الأفارقة نقدا مرا للمنح الخارجية نتيجة تداعياتها شديدة التأثير على الدول الأفريقية، والتي يأتي على رأسها تفاقم هجرة الأدمغة من القارة وتفكيك المجتمعات البحثية فيها، بما يديم الحاجة إلى المساعدات والدعم الخارجي ما يضع الدول المعنية تحت ضغوط المانحين.

وتشير بعض التقارير إلى أن نحو 70 ألف مهني ماهر يغادرون أفريقيا سنويا، ما يلقي بظلال شديدة السواد على قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم والتكنولوجيا، كما تشير أرقام أخرى إلى أن أكثر من ثلث الطلاب الأفارقة يصرحون أنهم يخططون لمغادرة القارة بعد انتهاء دراستهم، بحثا عن فرص أفضل في الخارج.

وتتضح خطورة هذه الهجرة بشكل أكبر عند النظر فيما أوردته "مؤسسة بناء القدرات الأفريقية" التابعة للاتحاد الأفريقي في بعض تقديراتها لحجم النقص الحاد في الباحثين والمبتكرين والكوادر المؤهلة في مجالات بالغة الحساسية، حيث تعاني القارة من فجوات تحتاج لملئها إلى ما يزيد على 8 ملايين طبيب ومتخصص، وأكثر من 4 ملايين مهندس وأكثر من مليون باحث، وقرابة 70 ألف عالم وباحث زراعي.

كما تتطرق انتقادات الأكاديميين الأفارقة لأنظمة المنح الأجنبية إلى أنها لا تحقق التنمية الذاتية ولا تلبي الاحتياجات المحلية بقدر خدمتها مصالح الدول المانحة إذ يشيرون إلى أن من أخطر آثارها خلق حلقة مفرغة من الاعتماد الهيكلي، حيث يقود ضعف التعليم المحلي إلى ارتفاع الطلب على المنح الخارجية.

ويساهم هذا الارتفاع في الطلب في هجرة الكفاءات وكبح حوافز الحكومات الأفريقية لتطوير مؤسساتها التعليمية، ما يقود إلى زيادة ضعف هذه المؤسسات وبالتالي ترسيخ الحاجة للمساعدة الخارجية، ما يعيق في النهاية قدرة أفريقيا على بناء أنظمة تعليم مكتفية ذاتيا.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا