تشهد الأنظمة الصحية حول العالم تحولًا جذريًا في طريقة تقديم الخدمات. لم تعد الرعاية الصحية تُقاس بعدد المستشفيات أو الأسرة، بل بمدى تكامل الخدمات وجودة النتائج.
ومن هنا نشأت فكرة «التجمعات الصحية»، وهي نموذج إداري وتنظيمي يربط بين المستشفيات والمراكز الصحية والرعاية المنزلية والوقائية ضمن منظومة واحدة، بحيث تعمل جميعها كشبكة مترابطة تخدم الإنسان في كل مراحل حياته.
أُطلقت هذه الفكرة عالميًا في دول مثل المملكة المتحدة التي أنشأت أنظمة الرعاية المتكاملة (Integrated Care Systems)، لتوحيد الجهود وتحقيق العدالة في الوصول إلى الخدمة، فكانت مصدر إلهام لتجارب أخرى في أوروبا وآسيا وأستراليا.
البداية في السعودية
مع إطلاق رؤية المملكة 2030، تبنّت وزارة الصحة فكرة التجمعات الصحية ضمن برنامج التحول الصحي الوطني.
وتقوم الفكرة على فصل الدور التنظيمي عن الدور التنفيذي:
• فتبقى الوزارة جهة تنظيمية ورقابية
• بينما تتولى الشركة القابضة للصحة إدارة التجمعات الصحية المنتشرة في مناطق المملكة.
كل تجمع يخدم نطاقًا جغرافيًا محددًا، ويضم في شبكته مستشفيات عامة وتخصصية، مراكز رعاية أولية، خدمات إسعافية ومنزلية، إضافة إلى برامج رقمية للمتابعة والاستشارات عن بُعد.
أهداف التجمعات الصحية
التجمعات الصحية ليست مجرد إعادة هيكلة، بل تحوّل فكري في فلسفة الرعاية، يقوم على المبادئ التالية:
1. تقديم رعاية متكاملة حول المريض وليس حول المنشأة.
2. التركيز على الوقاية قبل العلاج.
3. تحسين جودة الحياة وتقليل التكرار والهدر.
4. تحقيق الاستدامة المالية عبر إدارة الموارد بفعالية.
5. تطوير مهارات الكوادر الصحية وتحفيزها على العمل الجماعي.
الواقع الحالي
اليوم، يوجد في المملكة 20 تجمعًا صحيًا تغطي مختلف المناطق، على سبيل المثال:
• تجمع مكة المكرمة الصحي
• تجمع الشرقية الصحي
• تجمع الرياض الثاني
• تجمع القصيم الصحي
وتعمل هذه التجمعات تحت إشراف الشركة القابضة للصحة التي تتولى عملية نقل وإدارة المرافق الصحية تدريجيًا من وزارة الصحة إلى التجمعات، في إطار زمني يمتد حتى عام 2026.
ما الذي سيتغير للمواطن؟
مع تطبيق التجمعات الصحية، سيلمس المواطن والمقيم تغييرات ملموسة في طريقة الحصول على الخدمة لتصبح:
• نافذة موحدة للرعاية في منطقته.
• سرعة في التحويل بين المستشفيات والمراكز.
• ملف صحي إلكتروني متكامل يسهل التنقل بين الخدمات.
• برامج وقائية وكشف مبكر للأمراض المزمنة.
• رعاية أكثر إنسانية تضع المريض وراحته في قلب الاهتمام.
رسالة الكوادر الصحية
التجمعات الصحية تعني أيضًا طريقة جديدة للعمل داخل المنظومة. لم يعد الطبيب أو الممرض يعمل بمعزل عن غيره، بل ضمن فريق متكامل متعدد التخصصات يتشارك المعلومات والقرارات. كما سيُقاس الأداء مستقبلًا بنتائج المرضى وجودة الخدمة، لا بعدد المراجعين أو حجم الإجراءات.
لذلك، تمثل هذه المرحلة فرصة لتجديد المهارات، وتبنّي ثقافة الجودة، والمشاركة في بناء نموذج وطني يُحتذى به.
تجارب عالمية داعمة
في بريطانيا، أدى تطبيق نظام الرعاية المتكاملة إلى تحسين التنسيق بين المستشفيات والمجتمع وخفض التكاليف التشغيلية.
وفي سنغافورة وكندا، أسهمت التجمعات الصحية في تقليل الدخول للمستشفيات بنسبة كبيرة من خلال تعزيز الطب الوقائي والرعاية الأولية.
السعودية اليوم تمضي في الاتجاه ذاته، ولكن برؤية وطنية مستقلة تراعي خصوصية المناطق والتوزيع السكاني وتستفيد من التحول الرقمي السريع في الخدمات الحكومية.
الطريق إلى المستقبل
وضح قرار مجلس الوزراء رقم 469 وتاريخ 19 / 8 / 1443هـ ما يلي:
1- تأسيس شركة الصحة القابضة لتكون الجهة المسؤولة عن الإشراف على تقديم خدمات الرعاية الصحية من خلال شركات التجمعات الصحية.
2- تكون وزارة الصحة ممولة ومشرفة والشركة مشغلة من خلال تجمعات مستقلة.
3- تنشأ شركات تابعة مملوكة بالكامل للشركة تُعرف باسم شركات التجمعات الصحية مستقلة ماليًا وإداريًا.
4- تُحدد فترة انتقالية يتم فيها استمرار بعض المهام داخل وزارة الصحة حتى نقل جميع المسؤوليات إلى الشركة القابضة.
5- تُتخذ الإجراءات اللازمه لإنهاء الشركة القابضة متى ما تم نقل خدماتها وأصولها وحقوقها إلى شركات التجمعات الصحية بالكامل.
خلال السنوات الفترة، سيُستكمل نقل الخدمات إلى التجمعات الصحية، مع تفعيل نموذج الرعاية الوطني الذي يركّز على ستة محاور:
الوقاية، الأمراض المزمنة، الطوارئ، الرعاية المخطط لها، الأمومة والطفولة، والرعاية التلطيفية.
كما يجري الإعداد لتطبيق التأمين الصحي الشامل ليكون الممول الرئيس للرعاية، بما يعزز مفهوم القيمة مقابل الخدمة.
ولأننا نعيش المرحلة الانتقالية فقد برزت بعض الملاحظات مثل تضارب المصالح الإدارية بين فروع وزارة الصحة (والتي حلت بديلاً للإدارة العامة للشؤون الصحية) والتجمع لم يكن جليًا لكل الكادر الصحي لمن يلجأ في إدارته. أما المواطن فتاه بين الإدارتين ولم يكن لديه الرؤية الواضحة أين يقضي مصلحته. ولعل ما أوردته يبين أمور قد تغيب على البعض.
وكلنا ثقة في أن حكومتنا الرشيدة لن تسعى إلا لما فيه صالح المواطن والمقيم. أما وزارة الصحة فمسؤوليتها جمة وتحتاج إلى الكثير من الجهد، من واقع عقود من الخبرة في قيادة الصحة، لتوضيح كل ما يخص الموظف والمواطن، لتجسيد مفهوم هذا التحول ولنطمئن على رعايتنا الصحية.
خاتمة
التجمعات الصحية ليست مجرد مشروع تنظيمي، بل تحول وطني شامل يعيد تعريف الرعاية الصحية في المملكة.
هي خطوة نحو نظام يركز على صحة الإنسان قبل مرضه، وعلى الوقاية قبل العلاج، وعلى الجودة قبل الكمية.
ومع تكامل الجهود بين الدولة والممارسين الصحيين والمجتمع، تسير السعودية بثبات نحو نظام صحي رائد على مستوى العالم.
رؤية
الدكتور إبراهيم الحفظي
استشاري - رئيس الجمعية السعودية لطب الأطفال حديثي الولادة
مدير صحة عسير الأسبق