في قلب الشرق الأوسط ، حيث تداخلت الحضارات وتشابكت الأديان منذ آلاف السنين، يشكل الصابئة المندائيون جزءا أصيلا من تاريخ المنطقة وهويتها الثقافية، هذه الديانة التي نشأت في بلاد الرافدين، عاشت قرونا طويلة محافظة على موروثها وطقوسها رغم الضغوط.
اليوم، تواجه المندائية تحديا من نوع مختلف، إذ تحاول إسرائيل عبر إعلامها وبعض أبحاثها أن تُلبس هذه الطائفة ثوبا غير ثوبها، مدّعية أن جذورها مرتبطة باليهودية، في حين يقرأ هذا التوجه كمحاولة لتثبيت صورة أن إسرائيل ليست غريبة عن المنطقة، بل جزء من نسيجها التاريخي، وأن الأقليات الدينية أقرب إليها من بيئاتها الطبيعية.
لكن أبناء الطائفة أنفسهم يرفضون هذه الرواية، ويتمسكون بحقيقتهم كديانة مستقلة ضاربة الجذور في العراق والأحواز وبلاد الرافدين، من هنا يأتي هذا التقرير ليفكك الرواية الإسرائيلية من خلال مصادرها، وينقل موقف المندائيين أنفسهم، ثم يضع هذه المحاولات في سياقها السياسي الأوسع الذي يسعى إلى إعادة تشكيل الهويات لخدمة مشروع الاحتلال.
رغم أن بلاد الرافدين احتضنت النشأة الرئيسية للمندائية، فإن المؤرخين قدموا روايات مختلفة عن أصولهم، ويقول المختص بالشؤون المندائية وئام الزهيري إن "الروايات التاريخية تختلف بشأن أصل المندائيين".
ويؤكد في تصريحات سابقة للجزيرة نت "أن بعض المخطوطات المندائية القديمة تشير إلى نزوح بعض المندائيين من فلسطين باتجاه وادي حران ثم إلى جبال ميديا على الحدود العراقية الإيرانية".
لكنه أضاف أن هناك آراء أخرى تشير إلى أن جنوب العراق لاسيما منطقة الأهوار والمناطق المحاذية لنهري دجلة والفرات هو موطن المندائيين.
يعد الصابئة المندائيون من أقدم الطوائف الدينية الباقية في الشرق الأوسط، وتستند ديانتهم إلى نصوص مقدسة مكتوبة باللهجة المندائية الآرامية، وهي إحدى اللغات الشرقية القديمة القريبة من لهجات بابل، مما يجعلها جزءًا أصيلًا من الإرث الثقافي والحضاري للمنطقة.
يؤمن المندائيون بإله واحد يسمونه "الحي العظيم"، ويرون أن الكون مسرح لصراع أبدي بين قوى النور والظلام، ومن أبرز خصوصياتهم الدينية المكانة الرفيعة التي يحتلها النبي يوحنا المعمدان، الذي يعدونه مصلحًا ومرشدًا روحانيًا.
كما يشكّل التعميد المتكرر في المياه الجارية الطقس الأهم في حياتهم الدينية، حيث ينظر إليه باعتباره رمزًا للنقاء الروحي والتجدد المستمر، لا كطقس تأسيسي يمارس مرة واحدة فقط.
ويعتبر المجتمع المندائي مجتمعًا مغلقا غير تبشيري، إذ لا يمكن الانتماء إليه إلا بالولادة من أبوين مندائيين، وهو ما يزيد من هشاشة وجودهم في ظل الظروف الراهنة.
في تقرير نشرته "صحيفة يونايتد وذ إسرائيل"، في 17 يونيو/حزيران 2025، جرى تقديم الصابئة المندائيين ليس كديانة مستقلة، بل كجزء من التاريخ اليهودي القديم.
يبدأ التقرير بتوصيف المندائيين "جماعة تعود جذورها إلى يهود الهيكل الثاني"، ثم يربطهم مباشرة بطائفة الأسينيين التي عاشت في تلك الحقبة، هذه البداية وحدها تحمل رسالة واضحة: المندائيون ليسوا جزءًا أصيلًا من بيئة العراق والأحواز، بل "امتداد ليهود قدامى".
ولتعزيز هذا الربط، يستحضر التقرير سلسلة من التشابهات اللغوية والطقسية، فالكهنة المندائيون -وفقاً للصحيفة- يلقبون بـ"ربّاني"، وهي كلمة تُترجم إلى "حاخام" بالعبرية.
أما أماكن العبادة فهي "مشكانا"، وهو مصطلح قيل إنه قريب من كلمة "مشكان" العبرية التي تعني المعبد أو خيمة الاجتماع، وحتى طقوس التعميد المندائية تُربط بكلمة "ياردينا" المشتقة من نهر الأردن، في محاولة لإعادة كل مفردة دينية مندائية إلى أصل عبري.
كما يركّز التقرير على مكانة يوحنا المعمدان، الذي يحظى بمرتبة نبوية عليا عند المندائيين، ويقدّمه كجسر إضافي بين المندائية والتقاليد اليهودية، ويُضاف إلى ذلك استخدام أسماء شخصيات توراتية (مثل آدم، شيث، ونوح) لتقوية الانطباع بأن هذه الديانة خرجت من رحم اليهودية، لا من بيئة بلاد الرافدين.
في النهاية، يُرسم مشهد مزدوج: من جهة، طائفة صغيرة مهددة بالاندثار في إيران، ومن جهة أخرى، رواية تاريخية تجعلها "قريبة" من اليهودية، وبذلك يحقق التقرير هدفين في آن واحد: إثارة التعاطف مع أقلية مضطهدة، وتثبيت فكرة أن هذه الأقلية مرتبطة بإسرائيل تاريخيًا، مما يعزز سردية الاحتلال بأنه ليس غريبًا عن المنطقة بل امتدادا طبيعيا لها.
وإذا كان تقرير "يونايتد وذ إسرائيل" قد اكتفى بطرح هذه المقارنات كمدخل لتأطير المندائيين في إطار يهودي، فإن صحيفة "إسرائيل هيوم" ذهبت أبعد من ذلك لتقدّم رواية شبه كاملة، تضع المندائية مباشرة في قلب التاريخ اليهودي القديم، مؤكدة أن المندائيين خرجوا من رحم الأسينيين، ثم انتقلوا إلى العراق وإيران، حيث تحوّلوا لاحقًا إلى ديانة مستقلة ذات طابع صوفي.
ولتعزيز هذه السردية، يستدعي التقرير مخطوطات البحر الميت لتثبيت الرواية، فيذكر أن اسمًا إلهيًا مندائيًا (مارا ربوثا) ورد في أحد نصوص قمران، وهي نصوص دينية خاصة باليهودية، ويشير إلى أن المندائيين يصفون أنفسهم بـ"أبناء النور"، وهو التعبير ذاته الذي استخدمته الطوائف اليهودية القديمة، حتى اللغة المندائية تُربط مباشرة بلهجات التلمود البابلي.
كل هذه الإشارات تُستخدم لتغليف المندائية برداء يهودي قديم، وسحبها من سياقها العربي الرافديني.
يشدد رئيس طائفة الصابئة المندائيين في العراق والعالم "الريش أما ستار جبار حلو" على أن كتابهم المقدس "كنزا ربا" يختلف جذريًا عن التوراة، إذ يعكس عقيدة مستقلة ذات طابع روحي وفلسفي عميق.
فبينما "كنزا ربا" يعتبر وحيًا من الخالق ويتناول مبادئ الخلق والنور والملائكة وصباغة النفس بالماء الجاري، ويحدد القيم الأخلاقية وصراع النور والظلام إضافة إلى الطقوس المتعلقة بالخلاص والآخرة، فإن التوراة على النقيض، تمثل سردًا تاريخيًا وقوانين قومية ترتبط بشعب معين، وتقتصر على نهج ديني يخص بني إسرائيل.
ويؤكد حلو أن هذا الاختلاف الجوهري يوضح خطأ أي محاولة لربط الصابئة المندائيين باليهودية أو إدراجهم ضمن رواية تاريخية إسرائيلية، ويبين بشكل واضح أن المندائية ديانة مستقلة قائمة بذاتها منذ آلاف السنين.
أما عن تصور المندائيين للخلق والآخرة، يقول حلو في حديثه للجزيرة نت إن الخلق في المندائية هو انبثاق وتجلّ من الخالق "الحي العظيم"، وهو ليس من العدم بل من كينونة الخالق، حيث بدأ بخلق الماء والنور، ثم الملائكة، وبعدها الإنسان الذي يحمل في روحه قبسًا من الخالق (نشمثا) يحييه.
بالمقابل، تقوم العقيدة اليهودية على خلق الكون من العدم، والإنسان على صورة الله، مع تركيز العلاقة الإلهية على بني إسرائيل فقط.
أما مفهوم الآخرة في المندائية، فيؤكد حلو أن العقيدة المندائية تؤمن أن الموت حق، والنفس تعود إلى عالمها الأول بعد المرور بمحطات تطهير لتصعد نقية وطاهرة إلى عالم الأنوار، في المقابل، لا توفر اليهودية إجماعا على الآخرة، إذ ترتبط بالعقيدة الصهيونية في انتظار المخلص، مع وجود انقسامات بين الفرق المختلفة.
وينتقل حلو بعد ذلك إلى الطقوس والعبادات، موضحًا أن التعميد بالماء الجاري (اليردنا) هو الركيزة الأساسية للعبادة المندائية، ويختلف بشكل جوهري عن طقوس اليهودية مثل الختان الذي تحرمه المندائية والصلاة الجماعية وأعياد السبت، في حين يخصص المندائيون الأحد للطقوس الكبرى، بما في ذلك التعميد ومراسم الزواج والتجمعات التعليمية والاجتماعية.
تؤكد فائزة سرحان -عضو شبكة تحالف الأقليات في العراق- أن إسرائيل تحاول ربط المندائيين باليهودية لأغراض سياسية، مستغلة دعوى أن جميع الديانات القديمة "ترجع إلى اليهودية" لتعظيم وجودها في المنطقة.
ورأت أن هذه الرواية تهدف إلى تثبيت حضور إسرائيل التاريخي في بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين، ومحاولة استخدام الأقليات الدينية لدعم مشروعها التوسعي، بما يشمل أحيانًا محاولة "تزوير التاريخ" أو تقديمه وفقًا لمصالحها.
وتقول فائزة، في حديثها للجزيرة نت، إن الديانة المندائية أقدم من الديانات السماوية، إذ يعتبرون أن أول نبي للمندائيين هو آدم، مما يؤكد أن إسرائيل تحاول استغلال تاريخ الديانة لتعزيز رواياتها، خصوصًا في ضوء مشروعها المعلن وطمعا في أرض ممتدة من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات.
توضح فائزة أن المندائية انتشرت تاريخيًا في العراق وفلسطين وسوريا والأردن، وأن تعاليمهم مستمرة ومتسلسلة عبر العصور، مع تواصل الرسالات النبوية، كما يشير القرآن الكريم إلى الصابئة في عدة مواضع بشكل منفصل، مما يؤكد وجودهم واعتراف الكتب السماوية بديانتهم وأهميتها.
ويعزز هذا الاستقلال التاريخي قصة الفتاة ميرْياي، التي وردت في "كنزا ربا"، حيث تخلّت عن اليهودية بسبب فساد كَهَنتها، واعتنقت الديانة المندائية بوصفها طريق النور والحق، لتصبح رمزًا على تميّز المندائية عن اليهودية منذ فجرها الأول، على حد تعبيرها.
تاريخيًا، اعتادت إسرائيل على استغلال الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة لتحقيق مصالحها السياسية والإستراتيجية، باتباع سلسلة من السياسات المنظمة والمدروسة.
وتظهر دراسة أعدها سكوت أبراهامسون في جامعة كاليفورنيا عام 2019، أن الوكالة اليهودية في الثلاثينيات بدأت بالتواصل مع الأقليات في العالم العربي، لا سيما الأكراد في العراق، بهدف تعميق الشعور بينهم بفكرة "كردستان الكبرى".
وقد ارتبطت درجة اختراق المجتمع الكردي بموقف النظام السياسي في الدول الشرق أوسطية من إسرائيل، مع استغلال فكرة العدو المشترك المتمثل في العرب لتعزيز التعاون بين اليهود والأقليات، وفقا للدراسة.
مع تقدم الزمن، تحوّل استغلال الأقليات إلى مشاريع معلنة ضمن الإستراتيجيات الإسرائيلية، يوضح عوديد ينون -في وثيقته الشهيرة- "الخطة الصهيونية للشرق الأوسط" عام 1982، أهمية تقسيم الدول العربية الكبرى على أساس الهويات الفرعية، بهدف تفتيت هذه الدول وتحويلها إلى دويلات متناحرة تضمن الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
هذا التوجه يتماشى مع تحليلات الباحث والمؤرخ الإسرائيلي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط موردخاي نيسان، الذي تناول تاريخ نضال الأقليات في الشرق الأوسط وكيف استُغل هذا التنوع العرقي والديني ضمن ألعاب القوى الإقليمية لتحقيق مصالح إسرائيلية طويلة الأمد.
ويشكل تمسك المندائيين -رغم ما ذاقوه على مر العصور- بالنصوص والعقائد والطقوس مقاومة بحد ذاته، فهم يواجهون إسرائيل بسلاح الذاكرة، ويذكّرون المنطقة كلها أن التنوع الديني والثقافي ليس عبئا، بل حصنا في مواجهة مشاريع التفتيت والتزييف.