آخر الأخبار

النجاح والفلاح.. بين بريق الدنيا ووعد الآخرة

شارك

ربما لا تجد كلمة ترتبط بالإنسان وآماله وطموحاته مثل كلمة النجاح، فمنذ نعومة أظفاره وهو يسعى للنجاح في نيل أهدافه وتحقيق رغباته، وما إن يبدأ سنوات الدراسة حتى يكون النجاح في نهاية العام الدراسي هو الأمل الأكبر وهو كذلك الدعوة التي لا يتوقف الوالدان عن الابتهال بها إلى الله عز وجل.

تنتهي سنوات الدراسة المدرسية وتعقبها الدراسة الجامعية ويبقى النجاح أيضا هو الهدف والأمل المنشود، وبعدها تتحول الآمال إلى النجاح في العثور على عمل مناسب وزوجة تشاركه رحلة الحياة.

وبعد ذلك تتواصل آمال النجاح، ما بين النجاح في العمل أو الانتقال إلى عمل أفضل يضمن دخلا أكبر، والنجاح في تربية الأطفال وتعليمهم، إذ يتحول الزوجان إلى أب وأم يتوليان هذه المرة مهمة الدعاء لأولادهم بالنجاح ناهيك عن توجيههم إلى وسائل تحقيقه.

إذن مفهوم النجاح في الخطاب اليومي المعاصر، يرتبط كثيرا بصور التفوق الدراسي والترقي الوظيفي، بتحقيق الثروة أو حصد الشهرة والمكانة الاجتماعية، وبالتالي فهو مفهوم دنيوي بالأساس، يُقاس غالبا بالمعايير المادية الظاهرة، ويرتبط بما يراه الناس إنجازا ملموسا يمكن قياسه أو التفاخر به.

ولذلك ربما تتفاجأ عزيزي القارئ إذا أخبرتك أن كلمة "النجاح" لم ترد أبدا في القرآن الكريم، كتاب رب العالمين، والذي يقدم رؤية أعمق وأشمل من مجرد "النجاح"، وهي مفهوم الفلاح، الذي يتجاوز الظاهر إلى الجوهر، ويربط بين الدنيا والآخرة في رؤية متكاملة لحياة الإنسان.

وقد ورد مصطلح "الفلاح" بمشتقاته 40 مرة في القرآن الكريم، وهو ما يدفعنا لمزيد من محاولة الإيضاح للفارق بين المفهومين.

صلاح الدنيا والآخرة

إن شئنا التبسيط فالنجاح في اللغة يُقصد به إدراك الشيء والظفر به، وغالبا ما يُستخدم في السياقات الدنيوية وهي مؤقتة غير دائمة بطبيعتها، فالظفر بمنصب أو مال لا يعني بالضرورة تحقيق السعادة، وكم رأينا من أناس سعوا إلى منصب ثم شقوا به، أو تسابقوا للحصول على مال ثم كان سببا في شقائهم أو حتى هلاكهم.

إعلان

أما مصطلح "الفلاح" المستخدم في القرآن فيذهب إلى نحو أوسع بما يضمن الفوز والنجاة في الدنيا وكذلك في الآخرة حيث مقر النعيم الأبدي، كما أنه يشمل صلاح القلب والجوارح، ويجمع بين منفعة الفرد ومصلحة الجماعة.

ويذهب بعض من أصّلوا لهذه المقارنة إلى أن النجاح يكون ناقصا أو جزئيا، فإذا اكتمل صار فلاحا، فمن نجح في دراسته وأخفق في علاقته الأسرية، ومن نجح في تخصصه وأهمل عبادته، ومن نجح في دنياه وضيَّع آخرته، ومن نجح في معاشه ونسي معاده، كل هؤلاء نجحوا ولم يفلحوا، ولا يكون المفلح مفلحا إلا إذا جمع خيوط النجاح إلى بعضها.

4 أصناف

ويرى هؤلاء أن المرء يحتاج إلى 4 أصناف من النجاح كي يكون من المفلحين، أولها النجاح في علاقته مع ربه وثانيها النجاح في علاقته مع أسرته ومجتمعه، وثالثها النجاح في علاقته مع علمه وعمله، ثم رابعها النجاح في علاقته مع ذاته.

الأول يكون بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، والثاني يكون بالبر والصلة والإحسان والثالث يكون بتحصيل العلم النافع والمداومة على العمل الصالح والتقوى والرابع بالاعتناء بالصحة الجسدية والنفسية والروحية بناء ووقاية وعلاجا.

هناك زاوية أخرى تتعلق بنسبية النجاح وتغيره، فالنجاح في النظرة الإنسانية العامة أمر نسبي؛ فما يُعتبر نجاحا عند شخص قد لا يُعد كذلك عند آخر. فالطالب قد يرى النجاح في اجتياز الامتحان بدرجة عالية، بينما ينظر المستثمر إلى النجاح على أنه مضاعفة أرباحه.

وحتى على مستوى المجتمعات، تتباين معايير النجاح بين ثقافة وأخرى: ففي مجتمعات تُقاس المكانة بالمادة، ويكون النجاح مقرونا بالثروة، بينما في بيئات أخرى قد يُقاس بالعلم أو المكانة الاجتماعية.

إذن النجاح مفهوم مؤقت ومحدود؛ قد يتحقق اليوم ويزول غدا مع تقلب الظروف وتبدل الأحوال، وقد يمنح صاحبه سعادة آنية قد لا تدوم، بل وقد يبقى النجاح لكن صاحبه يظل يعيش قلقا من فقدانه أو العجز عن الحفاظ عليه.

أما الفلاح في المنظور الإسلامي فهو أوسع وأعمق، إذ لا يرتبط فقط بالإنجاز الدنيوي، بل بتحقيق الغاية الكبرى من وجود الإنسان وهي عبادة الله، وعمارة الأرض، والسعي للإصلاح.

الفلاح بذلك هو مفهوم شمولي يجمع بين صلاح الدين والدنيا، وبين نفع الفرد ونفع الجماعة. فالمؤمن يفلح إذا صلحت سريرته وعمله، وإذا انعكس ذلك على أسرته ومجتمعه. وهو كذلك مفهوم أبدي؛ لا يتوقف عند حدود الحياة الدنيا، بل يمتد إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار، كما أخبر الله عز وجل في الآية 185 من سورة آل عمران: ﴿فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز﴾.

وفي هذا السياق فهناك كلمة (الفوز) التي وردت في القرآن الكريم ثماني مرات تتحدث سبع منها عن الفوز بالجنة والثامنة عن النجاة من عذاب يوم القيامة.

ترتيب الأولويات

بعبارات أخرى، فالنجاح ينحصر غالبا في جانب واحد من حياة الإنسان، بينما الفلاح يدمج كل الجوانب: الروحية، الأخلاقية، الاجتماعية، والمادية.

كما أن النجاح دنيوي نسبي يختلف باختلاف الناس وظروفهم، وقد يكون محفوفا بالأنانية أو التنافس غير الشريف، في حين أن الفلاح مفهوم إيماني شامل: يوازن بين الدنيا والآخرة، ويُبنى على قيم ثابتة كالعدل، الصدق، والإحسان.

إعلان

ولذلك فالنجاح قد يحقق لصاحبه منفعة شخصية مؤقتة، أما الفلاح فيضمن له سعادة الدنيا ورضا الله في الآخرة.

وفي زمن أصبحت فيه معايير النجاح أقرب إلى الارتباط بالمظاهر والمنافع الدنيوية القريبة، ربما يحتاج الإنسان إلى إعادة ترتيب أولوياته وفق ميزان الفلاح. فالطالب الذي يسعى للتفوق العلمي لا ينبغي أن يكتفي بتحقيق الدرجات، بل أن يجعل علمه نافعا للمجتمع. ورجل الأعمال الذي يضاعف أرباحه لا يحقق الفلاح إلا إذا اقترن نجاحه بالعدل في المعاملات، ورد الحقوق، وخدمة الناس.

الفلاح بهذا المعنى الإسلامي يدعو إلى التكامل لا إلى التجزئة؛ فحياة الإنسان ليست جزرا معزولة بين دين ودنيا، بل هي وحدة متماسكة، لا يتحقق فيها التوازن إلا إذا وُضع رضا الله غاية كبرى.

ولذلك فإذا كان النجاح قد يحقق للإنسان بعض ما يرجو في حياته القصيرة، فإنه قد يترك قلبه فارغا وروحه تائهة. أما الفلاح، فهو المعنى الأسمى الذي يجمع بين متطلبات الجسد والروح، ويضمن للإنسان سكينة في دنياه، وفوزا في أخراه.

ولعل هذا هو الفارق الذي يلخصه النداء الإسلامي الخالد: "حي على الفلاح"، نداء يتكرر 5 مرات يوميا ليذكر الإنسان بأن الغاية الكبرى ليست مجرد نجاح عابر، بل هو فلاح دائم لا يزول.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا