في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كما أن بعض الأطعمة والمشروبات تصبح ألذ وترتفع قيمتها عندما تتقادم عبر التخزين شهورا وسنين، فما يكتب اليوم لا يمكن أن ننتبه للنفيس منه إلا بعد فترة، عندما تخفت الإضاءة المشوشة لكتب "البست سيلر" أو "الأفضل مبيعا" العرضية على عالم الكتب.
ولعل ما أنتج أثناء الأوبئة وعنها ظل عبر تاريخ الأدب والكتابة عموما غير رائج زمن صدوره، لأن الناس تستنكف قراءة واقعها الذي تعتقد أنها تدركه وليست في حاجة إلى رؤية خارجية، وينسحب ذلك على الكتب التي تكتب في زمن الأزمات السياسية من انتفاضات وحروب ولا تكتشف قيمتها إلا بعد زمن.
كما أن تلك الدهشة التي تطرأ على القراء أثناء قراءة يوميات كاتب سجل أيامه في تلك الفترة، تشعرهم بالندم لأنهم لم يكتبوها، وستزداد طوابير الندم كلما وقعت بين أيديهم تلك الكتب التي أحكمت القبض على اللحظة بطرق فنية مختلفة، إذ تتحول تلك الأعمال من ذاكرة شخصية إلى ذاكرة جماعية للحشود التي فاتها أن تنظر إلى يومها نظرة تأملية ليتركوا أثرا عنه.
يوميات الشاعر التونسي عادل المعيزي "من النافذة تطل شروخ النهار" الصادرة عن دار نقوش عربية، واحدة منها.
تنهض يوميات المعيزي عملا فنيا مثيرا في فن اليوميات، والذي يتخذ من المحنة العامة "الحجر الصحي" ذريعة لفلسفة العالم وإعادة صياغته بالمعنى الحرفي للكلمة، فالمجاز في النص توغل في عقلانية اللحظة حتى أغدق على الكاتب بأفكار جديدة تبني عبر التخييل دساتير جديدة وطرق عقاب جديدة، وأشكال وعي جديد، وإعادة التفكير في المفكر فيه وفتح نوافذ على "اللامفكر فيه".
اليوميات عند عادل المعيزي في هذا الكتاب رحلة في تسجيل الوقائع، سرعان ما تتحول معها الواقعة إلى عتبة صغيرة يتحايل بها الكاتب ليقف فوقها أمام نافذة زنزانته متوغلا بعقله وبصيرته في التخييل عبر ذرائع مختلفة منها الأحلام وكوابيس اليقظة والتأملات الفكرية والفونطازمات الحميمة والذكريات القريبة والبعيدة.
تستضيف هذه اليوميات عقلا منتفضا وثائرا داخل جسد مسجون في البيت، في ذلك استعاض الكاتب عن حالة الحصار الجسدي بحالة انفلات ذهني لبناء الأفكار وتحطيمها داخل الافتراض والشطب، ولئن ظل ينهزم أمام ابنه في لعبة الشطرنج التي علمه إياها، فقد انتصر بتشييد تلك اللعبة الخطرة: بناء الأفكار وتحطيمها وإعادة بناء السؤال حولها.
إن لغة الخلق الإبداعي في هذه اليوميات تجعلنا نكتشف أن الواقعة التي تعيشها الحشود لا يمكن أن تكون هي نفسها مهما تشابهت، لأن اللحظة محكومة بطبيعة وعيها وتخيلها، فاليومي والتفاصيل العرضية التي عشناها جميعا، والحصى الذي نتعثر به كل يوم، ينقلب بين يدي الفنان الشاعر إلى حجيرات نفيسة يشكل بها الفنان لوحة الفسيفساء التي يرسمها كل يوم عبر يوميات مفكرة ومتأملة في الوجود، فتتراكم نصوص الأيام بتواريخها الصارخة العارية لتقول كل استعارة ممكنة.
في كتاب يوميات "من النافذة تطل شروخ النهار"، نطل مع عادل المعيزي على ندوبنا ومأزقنا الوجودي والسياسي والحقوقي والإنساني الذي فضحه فيروس قبيح عابر.
نوافذ عادل المعيزي في يومياته ليست نوافذ لبيوت سياحية من سيدي بوسعيد الزرقاء الجميلة المطلة على البحر، إنما نوافذ نطل عبرها على قبحنا، بناية كابوسية أكلت سكانها وظل الكاتب فيها معلقا يصطلي نار عولمة تتداعى دون أن تنتج معنى.
فإنسان اللحظة الوبائية هو الآخر كائن مرتد إلى توحشه، وسقطت منه كل ادعاءاته من حريات فردية وثورات وديمقراطية، وصار يطالب بتدخل السلطة بالسلاح للقضاء على الحرية.
وكأن عادل المعيزي يستشرف كارثة أكبر ستهز الشعب التونسي بعد سنة من تسجيل يومياته، عندما انتفض في الشوارع يطالب بالديكتاتورية شأنه شأن عبيد الإيالة التونسية يوم عتقت رقابهم وفتح ملاكهم لهم الأبواب للمغادرة إلى الحرية، عادوا يقبلون أياديهم أن اتركونا عندكم عبيدا حتى رفع الأسياد السياط عليهم ودفعوهم إلى الحرية غصبا، فعاشوا بشوقهم الأبدي لاستعادة عبوديتهم.
يسجل الكاتب في يوميته الثانية بتاريخ 24 مارس/آذار 2020:
"أفقت هذا الصباح وفكرة تجول في خاطري مفادها أن أسوأ ما في الأمر الذي نحن فيه لا يتمثل في أن العالم لم يعد حرا، ولكن في أن الإنسان نسي ما تعلم عن الحرية! إذ إن جميع من تمتعوا بالحرية لأقل من 10 سنوات في تونس هم أنفسهم من يطالبون بالحد من حرية التنقل وحرية التواصل والاتصال وحتى حرية التعبير، وهم أنفسهم من يضغطون على الحكومة لتطبيق القوانين القديمة بقوة السلاح إن لزم الأمر".
ليست يوميات عادل المعيزي عن الكورونا مثلها مثل "يوميات الكورونا" لحسونة المصباحي، ويوميات "في قبضة الكابوس" لجان دوست، ويوميات "عدو غير مرئي" لبومدين بلكبير سوى يوميات سياسية، فتتقاطع معها كلها كما تتقاطع بتفلسفها الداخلي وزهدها مع "يوميات نزيل الوباء" لإبراهيم الكوني، لكنها ترسم خطها الخاص حسب أسلوبها الخاص الذي يراوح بين الواقعي والتخييلي من جهة، والجد والسخرية من جهة ثانية، فيتسحب الكاتب متقمصا خصائص الفيروس واحتياله من كتابة تقريرية إلى كتابة فلسفية وشعرية، ومن تسجيل واقعة إلى اجتراح كابوس يقظة. فلا حدود عند عادل المعيزي بين العالمين.
لكننا في هذا الكتاب لسنا أمام يوميات متخيلة كيوميات "فيدلينغ" أو يوميات "خادمة أوكتاف ميربو" أو يوميات "تشاك بولانيك"، بل مع يوميات تذهب بالواقعي نحو عالم مواز للاستيهامي، مرجعها أن الذات الكاتبة قبل الوباء كانت تعيش مترنحة بين هذين العالمين، وعبر هذه النافذة النقدية يمكننا فهم العلامة الأجناسية التي وصف بها الكاتب كتابه على الغلاف، "يوميات روائية"، أي أن عمله ينتمي إلى عالم اليوميات وليس للرواية، وكل علاقتها بالرواية أنها أنتجت بذهنية روائية ومنطق روائي يوهم أنها رواية، بينما الأمثلة السابقة توهم أنها يوميات وهي روايات، وعلى هذا النحو كتبت يومياتي بالجزائر "واحد صفر للقتيل"، ولعل في وضع الكاتب الجزائري بومدين بلكبير عنوانا فرعيا ليومياته "يوميات روائي في الحجر" يصب في ذات الهدف، الإشارة إلى روائية اليوميات، روائية أسلوبها وليس متنها.
وهنا يمكننا أن نستعين بتقسيم الناقد الفرنسي جورج ماي في كتابه "السيرة الذاتية" كشكل من أشكال "القياس" الذي يعتبر الفرق بين السيرة الذاتية الروائية أنها تنتمي للسير الذاتية مهما علق بها من روائية، على عكس رواية السيرة الذاتية التي تحافظ على روائيتها مهما علق بها سيرة مؤلفها.
ويصل التخييل إلى ذروته عبر الاستيهام في يوميات عادل المعيزي التي تستنطق مكتبة البيت ويتراءى له كما في كوابيس اليقظة أبطال الروايات وقد خرجوا إليه من الكتب يواسونه في عزلته ومنفاه الصغير، فمرة هو يتحدث إلى مايا بطلة "دفتر مايا" لإيزابيل الليندي، ومرة ليافيموف بطل "نيتوتشكا نيرفانوفا" لدوستويفسكي، ومرة يجد دون ريغوبرتو بطل "امتداح الخالة" لماريو فارغاس يوسا يسأله عن سر حزنه، غير أن كل تلك المشاهد والأفكار مشدودة للحظة الكتابة وللواقع وللعالم الموازي الذي يعيشه الكاتب والذي اخترعه لمقاومة بؤس الواقع قبل الكورونا وقبل النكسة السياسية.
قبل أن يتوغل في يومية 4 أبريل/نيسان في الاستشراف، يقول الكاتب الخوف بطريقة صامتة ومرحة أحيانا عندما يتوقع أنه سيموت هو وزوجته، وسيواصل من سيبقى من الناس حياتهم، بمن فيهم طفليه، ليحتفل العالم بعد سنوات بوصول أول جيل إلى سن العشرية، هنا تحملنا اليوميات إلى ديستوبيا متخيلة ليس الغرض منها تأكيدها أو الإيهام بوقوعها بقدر ما تشتغل كمقترح وافتراض كوني لحالة الإبادة التي بدأ ينتجها كوفيد-19.
وهذا التخييل هو مجرد "خيالات رعبة" كما وصفها الكاتب، تجتاحه كل مرة لترسم له مستقبل البشرية من ناحية، ومستقبل عائلته وعالمه الحميم من ناحية ثانية، فأما عجز الحكومات والأنظمة والعلماء عن توقيف هذا الوباء، فيكتب الكاتب ممهدا ليومية الخراب الإنساني:
"سرت على غير هدى لا أدري ماذا أفعل في هذه الحياة الجديدة مذعورا كأنني في ليلة حرب!
لقد مرت أيام طويلة على وجود الجيش في الشوارع ولكنه لم يظفر بقتل أي فيروس أو بدحر أية مجموعة منه ودفعها للاستسلام، واستغربت من موقف نساء الحكومة ورجالها والقائد الأعلى للقوات المسلحة: كيف يمكنهم أن يلقوا بجنودنا في ساحة المعركة لمقاتلة عدو غير مرئي أربك أعظم الجيوش في العالم؟
اجتاحتني خيالات مرعبة: إذا لم يتمكن العلم من اكتشاف لقاح ضد هذا الشبح، سيتم القضاء على كل شيوخ العالم وكهوله نساء ورجالا، ولن يبقى سوى الأطفال الذين لا يتجاوز عمر أكبرهم 15 سنة.
تناقلت الألسن خبرا مفاده أن الفيروس سيدرك جميع سكان الأرض الذين تجاوز سنهم 15 عاما".
كثيرا ما قرأنا في أدب السجون وخبرنا ذلك الجسد المعتقل في الزنازين، لكننا مع عادل المعيزي نحن مع جسد سياسي معاقب في وظيفته خارج المعتقل الرسمي.
إن جسد كاتب اليوميات في زمن الكورونا هو جسد سياسي ومضطر ليخوض في السياسة الدولية وسياسة التعاطي مع الفيروس، ولكنه أيضا جسد سياسي بالمعنى الحرفي لأن اليوميات دفعت معظم كتابها إلى كشف سيرهم السياسية وتقاطعها مع الأنظمة السياسية عبر إقحام المذكرات في اليوميات، فعادت اليوميات بجان دوست إلى الحرب، وعادت بحسونة المصباحي إلى أسباب عزلته ورفضه لثورة 2011 وتوجسه منها، ونقد بومدين بلكبير السياسة الجزائرية في تورطها في سياسة التسلح.
غير أن جسد الكاتب في يوميات عادل المعيزي يختلف عن أجساد الكتاب السابق ذكرهم، فهو جسد تحت التعذيب، وما حجزه في بيته بسبب الكورونا إلا القشرة التي تغطي سجنا آخر وتعذيبا أشد.
فكاتب اليوميات أو "اليومياتي" هنا هو واحد من أعضاء "هيئة الحقيقة والكرامة" والتي تحولت إلى هيئة متهمة من السلطة الجديدة وبدأت في التنكيل بأعضائها، وانتهت باعتقال رئيستها سهام بن سدرين قبل أن يفرج عنها سنة 2025.
هنا الكاتب يسجل يومياته في فترة حالكة يمثلها وباء الكورونا ووباء سياسي وأيديولوجي وإرهاصات انقلاب قادم، ولذا نحن في هذه اليوميات أمام محنة صحية عامة ومحنة ذاتية سياسية اتسمت بالتنكيل بالخارجين عن توجهات السلطة التي تريد أن تتغول وتعدم مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية وتنفرد بالسلطة خارج أي رقابة.
يسجل يوم الأربعاء 25 مارس/آذار:
"كان جسدي منهكا وروحي في حالة من التوتر الزائد، وعندما استيقظت سيطرت علي بعد برهة ذكرى حلم رأيته قبل شهرين تقريبا.
كنت أقلب ملفا بلا أوراق في مكتب بارد وضعوني فيه بلا مهمة واضحة رغم أني كنت رئيس إدارة المعلومات والوثائق بديوان وزارة المالية قبل التحاقي بهيئة الحقيقة والكرامة، إذ تم التنكيل بي منذ أن عدت إلى الوزارة بعد 4 سنوات و7 أشهر ويومين.
فكان الوزير الذي سبق وأن طرد من مكتبه بعيد 14 يناير/كانون الثاني سنة 2011 عندما سقط النظام القديم وعاد إلى الوزارة بنفس خطته بطريقة سريالية، يرسلني إلى الكاتب العام الأصلع بهيئة ملاكم والذي لا يحمل أي موسيقى في صوته، وهو بدوره يرسلني إلى مديرة الشؤون الإدارية صاحبة العينين الميالة إلى الكيد والتي تعيد إرسالي بدورها إلى الكاتب العام الذي لا يستقبلني إلا بعد أن أتصل بدستة من مستشاري رئيس الحكومة الذي كان يستعد لمغادرة الحكم ولقب الفشل الذي التصق بمؤخرته جعله يمشي بتثاقل، ويرسلني بدوره إلى الإدارة العامة للمحاسبة العمومية والاستخلاص التي تتبادلني لعشرات المرات مع الأمانة العامة للمصاريف للبلاد التونسية، لأجد نفسي في هذا المكتب الأصفر..".
لقد استنجد هذا الجسد الحقوقي المنكل به وظيفيا بعد انهيار الفكرة/المعنى من اليوميات فضاء لمرافعته الشخصية وللتعبير عن المظلمة التي يتعرض لها باعتباره مواطنا قام بوظيفته بشكل محايد في ظل واقع الاقتتال السياسي والأيديولوجي.
هنا تصبح اليوميات ذلك الدفتر الحميم الذي يدون فيه الكاتب تجربته في هذه المهمة بهيئة الحقيقة والكرامة وما شهدته من تجاذبات وانعكاس سياستها على أعضائها بعد إنهاء مهامها، حيث تحولوا إلى متهمين من الجميع وملاحقين إما بالعين أو بالقيود.
يسجل الكاتب في ذات اليومية متحدثا عن تلك الأزمة:
"قد بحث البعض عن أصل العدالة الانتقالية في حقل التسويات التي تقترحها وتعمد إلى فرضها عند الاقتضاء، وبحث عنها البعض الآخر في الحق المشروع في الحصول على تعويض مناسب، في حين بحث عنها آخرون في حقل الحقد الذي تفتحت زهرته بين المتعطشين للانتقام.
وفي الخضم يجابه كل اتزان بمقاومة رهيبة! فأن يظل العادل عادلا حتى تجاه من أضر به ويتسلح بالبرود والاتزان والرفعة واللامبالاة، وأن يحتفظ تجاه سيل المغالطات والإهانات والشتائم والتشهير الشخصي، بالموضوعية المترفعة والعميقة ويحافظ تجاه كل ذلك بأعظم مقدرة على ضبط النفس وبنظرة صائبة تقرر وتحكم، فمن المؤكد أن ذلك يشبه المسيح المتجسد.. لست من ذلك النوع إلا في مستوى الدور الوظيفي، أما كتابتي فقد جرت العادة على أنها حيوية وقوية وتلقائية وعدائية تكرس جزءا من قواها ضد الطغيان وضد الاستبداد وضد كل نوع من أنواع التماهي".
اجترح النقاد والمنظرون كلمة خاصة مستغنين قدر الإمكان عن الحميمية "الأنتيم"، وكأن الحديث عن العام والإدلاء بالمواقف والأفكار ليس شأنا حميميا، يبدو أن هذه اليوميات، بما هي متمسكة بعلاقتها بالشأن العام باعتبارها يوميات الوباء من ناحية ويوميات سياسية، تربك تلك التقسيمات في فن اليوميات، فتفتح نوافذ العام على الخاص والخاص على الحميم.
فتبدو يومية من يوميات عادل المعيزي خالصة العمومية كيومياته عن مهمته الحقوقية، سرعان ما تتحول إلى يومية حميمة عندما يتحدث عما يتعرض له جسدا ونفسا من تنكيل، وتبدو يومية الشطرنج يومية استعراض معرفي قبل أن تلتف على الحميمي فيها ليكون الشطرنج جزءا من ذاكرة الكاتب شابا وراهنه كهلا مع ابنه.
إن طابع السخرية الذي تتوشح به اليوميات في تناولها لشخصيات حميمة أو عامة، يجعل من اليوميات تراوح بين الخاص والحميم كجزء من إستراتيجية الكتابة، كما أن مراجعة الفكرة التي تتبناها الذات الكاتبة طوال سنوات هو تعامل مع الحميمي، فليس ألصق بالذوات من الأفكار والمعتقدات التي تتحول بالعمر إلى جزء من هوية الذات، ومنها تصدر ردات أفعالها ونظرتها إلى العالم.
وتستحوذ أخبار طفلي الكاتب: مجد ومايا، وزوجته سلمى وعائلتها على قسم مهم من اليوميات، مذكرة طوال الوقت بأسلحة محاربة الأوبئة التي تتهدد الكاتب، فذلك العالم الحميمي هو الذي يحول دون انهيار الكاتب ومواصلة حياته في ذلك المكتب الأصفر، مكتب العقاب الكافكاوي وعيون البصاصين من زملائه التي تردد طوال الوقت في ما يشبه الوصم الاجتماعي والسياسي "هذا الذي كان يعمل مع سهام بن سدرين".
تظل هذه اليوميات تنتج خطابها وتجدده كما يجدد الثعبان ثوبه مع كل فصل، لترسم افتراضا جديدا أو تلتف على ذكرى قديمة أو تتوغل في تفصيل أو خبر لتستنطقه كل مرة بشكل جديد عبر إعادة النظر فيه روائيا، لتكشف كل مرة أن ما نعيشه جميعا لا نعيشه أبدا بالطريقة ذاتها، وأن الفن والأدب قادران على إرباك حتى الحروب والخراب والإبادة والأوبئة ودحرها عندما تتحول إلى مجرد غنائم للتخييل، وهي تعلن في الآن ذاته أن التخييل أسلوب حياة مثله مثل اليوميات نحتاجه جميعا لنقاوم بؤس العالم.