د. صادق الخضور: مستقبل التعليم في فلسطين صعب لكنه مرتبط بقدرة الوزارة والمجتمع على التكيف مع التحديات الحالية
خالد الشحاتيت: عدد أيام الدوام الفعلية وصل إلى ربع الأيام المطلوبة لإنجاز المناهج والفاقد السلوكي والتعليمي فاق حدود المقدرة
سهى خفش: تعويض الفاقد التعليمي مشروط بخطوات تبدأ بصرف الرواتب وجدولة المستحقات ثم عودة الدوام ووضع خطة تربوية متكاملة
د. سائدة عفونة: الفاقد التعلمي تراكمي ومتعاقب والتعليم في فلسطين بخطر لكن الفلسطينيين قادرون على الصمود
ثروت زيد: التعافي التربوي يبدأ بتمويل وطني ثابت ودعم خارجي يرفع الاستدامة دون المساس بالأولويات وبناء منظومة تعليم مقاومة للصدمات
جودت صيصان: الأثر الأخطر يتمثل في تشكّل تهديد طبقي حقيقي وتعميق الفوارق بين من يستطيع توفير بدائل تعليمية لأبنائه ومن لا يملك ذلك
تشهد المنظومة التعليمية في فلسطين واحدة من أكثر مراحلها تعقيدًا، في ظل الدوام المدرسي المتقطع وما يرافقه من اضطراب في الإيقاع التعليمي وتراجع في التحصيل والدافعية لدى الطلبة، على وقع تعميق الفاقد التعليمي.
ويرى مسؤولون وخبراء تربويون، في أحاديث منفصلة لـ"ے"، أن هذا الواقع المتأزم، الممتد منذ سنوات بفعل الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية، ترك آثارًا واضحة على انتظام الدوام وجودة التعليم، وأدى إلى اتساع الفجوة السلوكية والمعرفية بين الطلبة، خاصة في المراحل الأساسية.
ويشيرون إلى أن ملامح الأزمة تفاقمت مع استمرار الانقطاع وعدم انتظام الرواتب وتراجع دور المدرسة كحاضنة تربوية، ما خلق فاقدًا تعليميًا تراكميًا يصعب تعويضه بالطرق التقليدية، كما ساهم تغيّر الروتين اليومي للطلبة، وغياب الاستقرار النفسي والاجتماعي، في زيادة مظاهر التشتت وضعف التركيز وارتفاع مؤشرات السلوك غير المنضبط، في ظل عجز الخطط الحالية عن احتواء حجم التدهور الحاصل.
أمام هذا المشهد، تتقاطع التحذيرات حول مستقبل التعليم في فلسطين مع الدعوات لمقاربات متعددة تشمل إعادة بناء الإيقاع التعليمي، ووضع خطط تعويض واقعية، وتوفير حماية ودعم للمدارس والمعلمين، إضافة إلى شراكة فاعلة بين الأسرة والمجتمع.
آثار مباشرة على التحصيل الدراسي لدى الطلبة
يؤكد الناطق باسم وزارة التربية والتعليم العالي والوكيل المساعد للشؤون الطلابية د.صادق الخضور أن الدوام المدرسي المتقطع في الأراضي الفلسطينية، في ظل الظروف الصعبة الحالية، يترك آثاراً مباشرة على التحصيل الدراسي لدى الطلبة، وعلى شعورهم بالانضباط والدافعية للتعلم، مشيراً إلى أن التوقف المتكرر للدوام يضعف الالتزام ويؤثر على مستويات التحصيل الأكاديمي بشكل عام.
ويشير الخضور إلى أن الدوام كما في بعض المدارس، بتطبيقها الدوام ثلاثة أيام وأربعة أيام انقطاع، يؤدي إلى تراجع الدافعية بشكل ملموس، ما ينعكس على نتائج الطلبة في الاختبارات وعلى استعدادهم لمواصلة التعلم.
ويوضح أن معالجة الفاقد التعليمي أمر معقد، ويحتاج إلى تدخلات غير نمطية تشمل إعادة جدولة أجندة العام الدراسي، وزيادة عدد أيام الدوام، وتعزيز عدد الحصص، وتركيز المناهج على المهارات والكفايات الأساسية لكل مبحث، مؤكداً أن الفاقد التعليمي تراكم على مدى ست سنوات متواصلة، ما يتطلب جهوداً مركّزة واستراتيجيات دقيقة لضمان التعويض النوعي للطلبة.
ويلفت الخضور إلى أن مستقبل التعليم في فلسطين صعب، لكنه مرتبط بقدرة الوزارة والمجتمع على التكيف مع التحديات الحالية.
ويؤكد الخضور أن التجربة في قطاع غزة، رغم تهدّم الأبنية، شهدت استئناف التعليم افتراضياً، إضافة إلى عقد امتحانات الثانوية العامة (التوجيهي)، بينما أصرّت الضفة الغربية على استمرار التعليم قدر الإمكان، في رسالة وطنية تؤكد أهمية التعليم كركيزة للصمود الوطني.
الحلول يجب أن تكون شاملة
ويشدد الخضور على أن الحلول يجب أن تكون شاملة، وتشمل منح قطاع التعليم خصوصية خاصة، وتعزيز صمود المدارس في المناطق المستهدفة، وتحمّل القطاع الخاص مسؤولياته بشكل أكبر، فضلاً عن مبادرة المؤسسات الدولية لتحمل مسؤولياتها في حماية التعليم الفلسطيني وضمان حق الأطفال في التعليم وفق المواثيق الدولية.
ويوضح أن الحق في التعليم مكفول بكل الشرائع والمواثيق الدولية، ويجب أن يتوافر الحماية للطلبة من الاعتداءات لضمان استمرارية العملية التعليمية.
ويؤكد الخضور أن الواقع التعليمي صعب، لكن هذا لا يعني التسليم بالأزمة، بل يستدعي البحث عن حلول إبداعية وجدية لتعويض الفاقد التعليمي، وحماية المدارس والمعلمين والطلبة، مع الحفاظ على الاستمرارية التعليمية كأساس لإنتاج جيل قادر على مواجهة التحديات وصون الهوية الوطنية.
تداعيات خطيرة وغير مسبوقة
يحذّر الخبير التربوي خالد الشحاتيت من تداعيات خطيرة وغير مسبوقة يمر بها التعليم في فلسطين، نتيجة الدوام المدرسي المتقطع، وغياب الخطط الحكومية لمعالجة الفاقد التعليمي والسلوكي، مؤكدًا أن العملية التعليمية أصبحت "مهددة إلى حدّ يصعب ترميمه في السنوات المقبلة"، خاصة لدى الصفوف الأساسية.
ويؤكد أن العملية التعليمية بطبيعتها تراكمية، وأن التباعد الزمني بين أيام الدراسة يؤدي إلى النسيان، ويجبر المعلّمين على إعادة المادة أكثر من مرة، ما يمنع إيصال جميع الأهداف التربوية لمنهاج مخصّص لـ200 يوم دراسي.
ويشير الشحاتيت إلى أن الدوام المتقطع تسبب بارتفاع حالات التسرب والانشغال عن التعليم، وزيادة ساعات جلوس الطلبة أمام الأجهزة الإلكترونية على حساب الدراسة، وهو ما خلق مظاهر عنف لفظي وسلوكي، وتشتت، وضعف في التركيز، وخط سيئ، وفاقد تعليمي "غير محدود".
ويوضح الشحاتيت أن استمرار الوضع الحالي سيقود إلى "مستقبل تعليمي يصعب إصلاحه"، خاصة أن الفاقد في اللغويات والرياضيات لدى الصفوف الأولى لا يمكن تعويضه بسهولة مع تقدّم عمر الطلبة.
ويعتبر أن غياب رؤية حكومية واضحة للتعليم يزيد من تعقيد الأزمة، مشيرًا إلى أن التعليم يجب أن يكون "مشروعًا وطنيًا لا استثماريًا"، وأن على الحكومة توفير طواقم تعليمية مؤهلة وكليات لإعداد المعلمين، إضافة إلى دعم مقومات معيشية تحفظ مكانة المعلم وتمكّنه من أداء دوره.
ويشدّد الشحاتيت على أهمية تطوير خطط خاصة بالتعليم في زمن الحرب، تشمل توفير بيئات تواصل بديلة مثل التعليم الإلكتروني، والمحتوى المبسّط، والكتب الإلكترونية، إلى جانب تفعيل التعليم المجتمعي كما جرى في الانتفاضة الأولى، حين شارك المعلمون في تدريس الطلبة داخل بيوتهم ومناطق سكنهم.
ويشير الشحاتيت إلى وجود فاقد آخر "لا يقل خطورة عن الفاقد التعليمي"، وهو الفاقد السلوكي، الذي يشمل مهارات الحوار، وفن الاستماع، والالتزام بالزي المدرسي، والانضباط بحضور المدرسة ومغادرتها، واحترام قوانين الطريق، والدور الاجتماعي للمدرسة.
ويشدد الشحاتيت على أن غياب النشاطات الطلابية، مثل الخطابة والرسم والمبادرات والمشاريع الوطنية، أدى إلى فقدان الطلبة الإثراء السلوكي غير المكتوب الذي يشكّل جزءًا أساسيًا من التربية.
ويشير إلى حالات لطلبة توجيهي "لا يعرفون كتابة أسمائهم"، رغم ذكائهم، مؤكدًا وجود فجوات سلوكية وتعليمية جعلت بعض الطلبة في صفوف ومراحل أعلى يتصرفون بمستوى أدنى.
ويرى الشحاتيت أن طلبة اليوم يفتقدون لمفاهيم الانتماء، والعمل التطوعي، والالتزام بالقانون، وصولًا إلى أبسط السلوكيات مثل النظافة داخل الصف.
ويشير الشحاتيت إلى أن عدد أيام الدوام الفعلية "وصل إلى ربع الأيام المطلوبة لإنجاز المناهج"، مؤكدًا أن غياب خطة إنقاذ عاجلة يعني أننا "أمام مرحلة خطيرة جدًا"، وأن الفاقد السلوكي والتعليمي "فاق حدود المقدرة" في ظل غياب مشروع وطني للتعليم يواجه ما تمر به فلسطين من أزمات.
فجوات كبيرة في المهارات الأساسية والمعرفة
تؤكد الخبيرة التربوية سهى خفش وجود اتساع للفاقد التعليمي في فلسطين خلال الأعوام الأخيرة، حيث إن العملية التعليمية بطبيعتها تراكمية، وإن الأزمات المتلاحقة -من إغلاقات وإضرابات ودوام متقطع- أدت إلى فجوات كبيرة في المهارات الأساسية والمعرفة لدى الطلبة.
وتوضح أن انخفاض المعدل التحصيلي الذي تشهده المدارس اليوم هو نتيجة مباشرة لهذا الاضطراب، إذ إن ذهاب الطالب إلى المدرسة ثلاثة أيام غير متتالية يقابله بقاء أربعة أيام من دون روتين مدرسي أو إدارة صحيحة للوقت، ما أفقد الطلبة دافعيتهم للتعلم وعمّق تراجعهم في مهارات القراءة والكتابة، خصوصاً لدى طلبة المرحلة الابتدائية التأسيسية.
وبحسب خفش، فإن الانعكاسات لم تتوقف عند الجانب الأكاديمي، بل شملت جوانب نفسية وسلوكية أيضاً، حيث يعاني الطلبة من فقدان الانتماء للمدرسة والنظام، واضطرابات في النوم، وتغيّر في العادات الغذائية، إضافة إلى تراجع واضح في المهارات الاجتماعية وضعف العلاقات داخل المدرسة بين الطلبة ومعلميهم. وتشدد على أن هذا التراجع لا يصيب الطلبة وحدهم، فالمدرس نفسه يعيش ضغوطاً معيشية مضاعفة في ظل عدم انتظام الرواتب، ما ينعكس مباشرة على أدائه ودافعيته وقدرته على تقديم أفضل ما لديه داخل الصف.
وترى خفش أن تعويض الفاقد التعليمي ممكن، لكنه مشروط بجملة خطوات أساسية تبدأ بصرف رواتب المعلمين كاملة وجدولة مستحقاتهم، ثم عودة الدوام المدرسي إلى انتظامه الطبيعي، ووضع خطة تربوية متكاملة تتعاون فيها المدرسة مع أولياء الأمور والطلبة. وتؤكد خفش ضرورة إعادة ترتيب الأولويات وتركيز كل مرحلة على المهارات الأساسية "الجوهر لا الكم"، إلى جانب توظيف منصات التعليم الإلكتروني والبرامج التفاعلية لجعل عملية التعويض أكثر جاذبية وفاعلية.
معركة وجود وليست قضية تربوية فحسب
وتشدّد خفش على أن مستقبل التعليم في فلسطين لم يعد قضية تربوية فحسب، بل معركة وجود، في ظل محاولات الطمس والتجهيل.
وتشير إلى أن ترميم المشهد التعليمي يحتاج إلى حماية دولية وإلى استثمار حقيقي في المعلم والطالب الفلسطيني الذي أثبت قدرته على الإبداع في مختلف المجالات رغم كل التحديات.
وتؤكد خفش أن إرادة الفلسطينيين في الحياة والتعلم والصمود كفيلة بمواجهة هذه التحديات، لكنها تتطلب قرارات جادة تحفظ كرامة المعلم وتعيد للمدرسة مكانتها ودورها في بناء مستقبل الأجيال.
نسبة الفاقد التعليمي تجاوزت 70% في بعض المناطق
تحذّر الخبيرة التربوية في جامعة النجاح الوطنية البروفيسورة سائدة عفونة من تفاقم الفاقد التعليمي في فلسطين، إذ إن نسبة الفاقد التعليمي تجاوزت 70% في بعض المناطق، حيث أن الفاقد التعليمي تراكمي، مشددة على أن التعليم في فلسطين بخطر، لكنه رغم ذلك فإن الفلسطينيين قادرين على الصمود.
وتؤكد أن المشكلة ليست وليدة جائحة كورونا كما يُعتقد، بل نتاج تراكمات ممتدة منذ سنوات طويلة، تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي واستهدافه المباشر للعملية التعليمية.
وتشير عفونة إلى أن الفاقد التعليمي بدأ قبل زمن طويل منذ الانتفاضة الأولى، وتعمّق بفعل ممارسات الاحتلال المستهدفة للمدارس والمعلمين وكذلك الإضرابات المتكررة، والأوضاع الاقتصادية الصعبة للمعلمين، والحواجز التي تعيق وصولهم إلى المدارس، إضافة إلى التوتر السياسي العام.
وتبيّن أنّ نتائج عدة دراسات لها ولآخرين أظهرت أن نسبة الفاقد التعليمي تجاوزت 70% في بعض المدارس المستهدفة، مع اختلاف حجم الفجوة بين منطقة وأخرى؛ فالأحداث الأخيرة في جنين، والحصار الذي شهدته نابلس، وتأثيرات الاحتلال في طولكرم والقدس، جميعها رفعت مستويات التراجع، أما في غزة، فأكدت أنّ ما يجري يتجاوز مفهوم الفاقد التعليمي إلى تعطل شبه كامل للعملية التعليمية على مدار ثلاث سنوات دراسية متتالية، عوّضت جزءًا منها مبادرات مجتمعية شعبية والمدارس الافتراضية الرسمية والتطبيقات الإلكترونية.
وتشير عفونة إلى أنّ استمرار العملية التعليمية في الضفة الغربية خلال العامين الماضيين، تم بشكل جزئي، إذ اقتصر الدوام على ثلاثة أيام أسبوعياً في بعض الأوقات وبعض المناطق، في وقت كان يُفترض فيه زيادة عدد الأيام إلى ستة أيام لسد الفجوة المتراكمة، ما يعني أن الفاقد ما يزال يتراكم، ورغم محاولات وزارة التربية والتعليم العالي تقديم "تعليم مساند"، إلا أن هذه الجهود تبقى غير كافية وغير شاملة لجميع الطلبة.
التعليم مسؤولية مجتمعية
وتؤكد عفونة أن التعليم مسؤولية مجتمعية، وأن مواجهة الفاقد لا يمكن أن تتحقق بالاعتماد على الوزارة وحدها، حيث إن التعليم مسؤولية مجتمعية وأن على أولياء الأمور ومؤسسات المجتمع المدني أخذ دورهم خصوصاً في ظل استمرار الاحتلال وشح الموارد المالية وعجز الحكومة عن إنهاء إضرابات المعلمين رغم مشروعية مطالبهم.
وتدعو عفونة الأسر إلى القيام بدور أكثر فاعلية عبر متابعة أبنائهم خلال الأيام التي لا يتوفر فيها تعليم نظامي، محذرة من كارثة تربوية إذا لم يتحمل المجتمع مسؤوليته.
وتشير إلى أن فجوة التعلم تظهر بشكل واضح في الفارق بين نتائج الاختبارات الدولية التشخيصية ونتائج امتحان الثانوية العامة، معتبرة أن عدداً كبيراً من الطلبة يحصلون على معدلات مرتفعة دون امتلاك المهارات الأساسية في الكتابة والتحليل، وهو ما تلاحظه الجامعات عند التحاق الطلبة بها.
وتلفت عفونة إلى أن الفاقد ليس مقتصراً على المدارس، بل يمتد إلى الجامعات التي عانت هي الأخرى من إغلاقات متكررة مثل جامعة الأزهر وجامعة النجاح وجامعة القدس وجامعة بيرزيت والإسلامية والأقصى والأزهر، مؤكدة ضرورة انفتاح المؤسسات الأكاديمية على المجتمع للمساهمة في تعويض الفاقد وتفعيل التعليم المستمر.
وترى عفونة أن المؤشرات الرسمية تشير إلى أن التعليم في فلسطين في خطر في ظل الحرب على غزة وتصاعد اعتداءات المستوطنين وشح الإمكانات، لكنها في الوقت نفسه عبّرت عن تفاؤلها بقدرة الفلسطينيين على الصمود، معتبرة أن المجتمع الفلسطيني يشكل "مدرسة" في القيم والهوية والإنسانية والكرامة والمحبة، وقادر على تجاوز الظروف الصعبة بإرادته.
آثار عميقة للدوام المدرسي المتقطع
يحذّر الخبير التربوي ثروت زيد من الآثار العميقة للدوام المدرسي المتقطع على الطلبة والمنظومة التعليمية في فلسطين، مؤكداً أنّ اختزال الإيقاع المدرسي أو تقطّعه يخلق ضعفاً في البنية الزمنية للتعلم، ويُفقد المنهاج تكامله الرأسي والأفقي.
وبحسب زيد، فإنّ تقديم المحتوى في وحدات مختصرة يفكّك المنهج الحلزوني، ويُحوّل تجربة التعلم إلى أجزاء غير مترابطة، ما يؤدي إلى تراجع التحصيل الأكاديمي، وإيجاد خلل في النمو الشمولي، واتساع الفجوات المعرفية. ويشير زيد إلى أن الطلبة يتأثرون نفسياً بشكل كبير، مع ظهور القلق والتوتر وارتفاع مخاطر التسرب وضعف الثقة بالمؤسسة التعليمية، بسبب ذلك التقطع.
ويوضح أنّ المعلمين يتحمّلون عبئاً مضاعفاً في ظل الدوام غير المنتظم، إذ يواجهون مهمة معقدة لإعادة ربط المفاهيم المتقطعة، في وقت تزيد فيه الضغوط المعيشية -خصوصاً اضطراب الرواتب- من تآكل استقرارهم المهني ودورهم الرمزي داخل المدرسة.
ويشير إلى أنّ أثر التقطّع يمتد ليضرب البيئة المدرسية بأكملها، فيضعف متابعة التقدم، ويشتت الإطار المنظّم للتعلم، ويهدد قدرة النظام التعليمي على تحويل التعليم إلى مسار متصل لبناء الوعي والصمود.
وفي ما يتعلق بتعويض الفاقد التعليمي، يشدد زيد على ضرورة ضمان استمرارية الوصول للتعليم عبر مسارات متكاملة تشمل التعليم الوجاهي والمدمج والرقمي، بالإضافة إلى الرزم الورقية والمجموعات الصفية الصغيرة، بما يحافظ على ترابط مصفوفة المفاهيم وحماية الهوية الوطنية.
ويؤكد زيد ضرورة توسيع الزمن التعلمي من خلال برامج تقوية ومدارس صيفية ودعم نفسي- اجتماعي منتظم، لتهيئة بيئة آمنة تُمكّن الطلبة من استيعاب المعرفة واستعادة توازنهم النفسي.
وفي سياق الحرب المتواصلة على غزة والضفة، يؤكد زيد أن التعليم الفلسطيني يواجه مرحلة تتجاوز الأزمة إلى صراع دائم يؤثر على المكان والإنسان والبنية التحتية، ما يجعل التعليم فعل صمود ووجود.
ويوضح زيد أن مستقبل التعليم يتحدد بقدرة النظام على حماية ثلاثة أعمدة: استمرارية الوصول، والسيادة الوطنية على المحتوى، وتمويل مستقر يضمن استقرار المعلمين.
ويرى أن التعافي التربوي يبدأ بتمويل وطني ثابت ودعم خارجي يرفع الاستدامة دون المساس بالأولويات الوطنية، وبناء منظومة تعليم مقاومة للصدمات عبر منصات وطنية مستقلة وبنوك موارد وبرامج تدريب.
ويؤكد زيد أن عملية إعادة الإعمار التربوي في غزة يجب أن تُبنى على رؤية طويلة المدى تشمل مدارس آمنة وبنية رقمية صامدة ودعماً نفسياً مستمراً، بحيث تتحول المدرسة إلى فضاء لإنتاج الأمل وبناء الوعي الوطني، وتظل قادرة على حماية الطالب ومعلمه في مواجهة الظروف القاسية.
التعليم الفلسطيني يعيش أخطر أزماته
يرى الخبير التربوي ومدير مركز "يوسمارت" للتدريب جودت صيصان أن التعليم الفلسطيني يعيش أخطر أزماته منذ عقود، مؤكداً أن ما يجري لم يعد مجرد تعثّر أكاديمي، بل تهديد مباشر لبنية المجتمع ومستقبله.
ويوضح صيصان أن الدوام المتقطع في الضفة الغربية، الناجم عن اعتداءات الاحتلال وأزمة رواتب المعلمين، خلق ثلاثة آثار مركزية كارثية: فقد معرفي ومهاري متراكم في مواد أساسية كالرياضيات واللغات، وضعف نفسي اجتماعي نتيجة غياب المدرسة كحاضنة آمنة، واتساع فجوة العدالة التعليمية التي تضرب الطبقات الأكثر فقراً غير القادرة على تعويض الفاقد بالدروس الخصوصية.
ويشير إلى أن هذا الانقطاع المتواصل أدّى إلى تآكل المهارات التراكمية وضعف التفكير النقدي، إضافة إلى ارتفاع القلق والإحباط والعدوانية لدى الأطفال، وفقدانهم للدافعية والقدرة على تنظيم الوقت.
ويرى صيصان أن الأثر الأشد خطورة للانقطاع التعليمي يتمثل في تشكّل تهديد طبقي حقيقي، إذ تتعمق الفوارق التعليمية بين من يستطيع توفير بدائل تعليمية لأبنائه ومن لا يملك ذلك، ما يهدد بمستقبل غير متكافئ يرسّخ عدم المساواة.
استراتيجية مزدوجة لإنقاذ العام الدراسي
ويطرح صيصان استراتيجية مزدوجة لإنقاذ العام الدراسي، تبدأ بـ"الركيزة الاقتصادية: إنقاذ المعلم".
ويؤكد صيصان أن الأزمة لم تعد محلية الموارد، بل تحتاج إلى صندوق طوارئ عالمي مستقل لدعم رواتب المعلمين، تشارك فيه الجاليات الفلسطينية والجهات المانحة والمؤسسات الدولية.
ويشدّد صيصان على أن استقرار المعلم النفسي والمعيشي هو المدخل الحقيقي لعودة التعليم إلى مساره الطبيعي.
أما الركيزة الثانية، بحسب صيصان، فهي تربوية تقوم على التعليم المرن وتكييف المناهج.
ويدعو صيصان إلى التحول من فلسفة "تغطية الكتاب كاملاً" إلى "إتقان الكفايات الأساسية"، عبر حذف الحشو والتركيز على المهارات التي لا يمكن للطالب التقدم من دونها.
ويقترح إدخال تدريجي لمهارات التعلم الذاتي عبر أدوات عملية مثل الخرائط الذهنية، والمقارنة بين مصادر المعلومات، وإيجاد حلول إبداعية لمشكلات من بيئة الطالب.
ويؤكد صيصان أهمية الدمج بين الوسائل التقنية البسيطة ـ مثل التسجيلات الصوتية والملخصات المصوّرة ـ وبين المواد المطبوعة لتجاوز ضعف الإنترنت.
وفي حديثه عن غزة، يصف صيصان الواقع بأنه "كارثي تماماً"، فالمدارس مدمرة والخيام لا تصلح لاحتضان أي نشاط تعليمي، في ظل استمرار القصف المتقطع ومنع إدخال الكرفانات.
ويطرح نموذج "خلايا التعلّم" الصغيرة (5–7 أفراد) داخل أي مكان آمن، بقيادة معلم أو فرد متعلم، والاعتماد على النهج الشفوي من قصص ونقاشات ومسائل ذهنية لإبقاء عقل الطفل في حالة نشاط.
ويؤكد أهمية تعميق الدعم النفسي والاجتماعي عبر تدريب المعلمين على مهارات "الإسعاف النفسي الأولي" لاحتواء الصدمات، ودعم المرونة الإدارية في الضفة من خلال تكليف المعلم القريب من أي تجمع بتدريسه عند منعه من الوصول إلى مدرسته.
ويشدد صيصان على أن مستقبل التعليم الفلسطيني مرتبط بقدرة المجتمع على تحويل النظام التعليمي إلى نظام مرن ومقاوم، يقوم على حماية المعلم، وتدريب الطالب على الصمود، وسد فجوة العدالة التعليمية، بحيث تبقى المدرسة بوصلة أمل لجميع الأطفال، لا امتيازاً لمن يملك القدرة فقط.
المصدر:
القدس