عوني المشني: المؤسسة الإسرائيلية تعمد في كثير من الأحيان إلى تضخيم ما تزعمه بالاحتياجات الأمنية من أجل تبرير تحركات ذات طابع سياسي
محمد أبو علان دراغمة: عملية طوباس والأغوار هدفها تدريب لاختبار الجاهزية للعمل داخل المناطق المأهولة بالسكان وتمهيد فعلي للضم حال حدوثه
عدنان الصباح: ما يجري في طوباس والأغوار يجب أن يُفهم في سياق محاولة تنفيذ خريطة سموتريتش للسيطرة على 82% من مساحة الضفة
فايز عباس: الاحتلال يعدّ الأغوار الشمالية منطقة مهمة أمنياً واستيطانياً واقتصادياً وزراعياً في آن واحد وهو ما يفسر الحديث عن إمكانية ضمّها
لبيب طه: جوهر ما يحدث في طوباس والأغوار هو إخضاع السكان نفسياً واقتصادياً عبر تدمير الآفاق أمام الفلسطينيين والسيطرة على مواردهم
نزار نزال: استخدام هذه العمليات كرسائل داخلية لإرضاء التيار اليميني الإسرائيلي المتطرف وتقديم "الرشى السياسية" لسموتريتش وبن غفير
سليمان بشارات: المناطق المستهدفة تقع على الشريط الذي تعتبره إسرائيل حدوداً مستقبلية لها ما يعكس نية توسيع نطاق السيطرة وحصر الوجود الفلسطيني
تشهد محافظة طوباس والأغوار الشمالية منذ فجر الأربعاء اجتياحاً غير مسبوق، تتجاوز الأبعاد الأمنية المعلنة لتغطي على أهداف سياسية واستيطانية أوسع، قد تصبح أمراً تمهيدياً لفرض السيطرة على سلة غذاء فلسطين.
ويرى كتاب ومحللون سياسيون ومختصون، في أحاديث منفصلة لـ"ے"، أن الهدف من اجتياح محافظة طوباس والأغوار الشمالية ليس مجرد مواجهة تهديدات أمنية، بل تشكيل واقع ميداني يُجبر السكان على التراجع أو الهجرة، ويُهيئ الأرض لضم أجزاء واسعة من الضفة تحت سيطرة الاحتلال، مشيرين إلى أن هذه العمليات تمثل جزءاً من خطة طويلة الأمد لإعادة رسم جغرافيا الضفة الغربية، حيث تتكامل الإجراءات العسكرية مع الاستيطان الممنهج والتوسع في البنى التحتية الإسرائيلية، وتتحول الذرائع الأمنية إلى ستار لفرض سياسة استراتيجية تهدف إلى تقويض الصمود الفلسطيني ومنع قيام دولة مستقلة.
التضييق على الفلسطينيين للوصول إلى التهجير
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي عوني المشني أن السياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، التي كان آخرها اجتياح محافظة طوباس، تجري ضمن منظومة واحدة لا يمكن الفصل فيها بين الأمن والسياسة، مشيراً إلى أن الاحتياجات الأمنية التي تطرحها الحكومة الإسرائيلية تُستخدم كغطاء لخطوات سياسية توسعية تهدف إلى التضييق على الفلسطينيين وصولاً إلى التهجير.
ويوضح المشني أن هذه المنهجية باتت سمة عامة لسياسات الاحتلال في مختلف مناطق الضفة، إذ يجري استخدام أدوات متعددة -اقتصادية واجتماعية وميدانية- للضغط على السكان.
ويبيّن المشني أن منع العمالة الفلسطينية داخل إسرائيل، والتضييق المالي على السلطة الفلسطينية، وتشديد الحواجز والبوابات العسكرية، ليست مجرد إجراءات أمنية، بل جزء من عملية ممنهجة لـ"جعل حياة الفلسطينيين صعبة وربما مستحيلة".
ويشير إلى أن المؤسسة الإسرائيلية تعمد في كثير من الأحيان إلى تضخيم ما تزعمه بالاحتياجات الأمنية من أجل تبرير تحركات ذات طابع سياسي، كما يحدث في طوباس أو كما حدث في طولكرم وجنين خلال الأشهر الماضية.
إضعاف القطاع الزراعي وتهيئة الأرض للاستيلاء عليها
ويؤكد المشني أن تدمير مقومات الزراعة الفلسطينية يشكل نموذجاً واضحاً لهذه السياسة المزدوجة، إذ يستخدم الاحتلال التضييق على المزارعين وعمليات منع قطف الزيتون والاعتداءات المتكررة كأدوات ضغط تهدف من جهة إلى إضعاف القطاع الزراعي الفلسطيني، ومن جهة أخرى إلى تهيئة الأرض للاستيلاء عليها.
ويعتبر المشني أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى دفع الفلسطينيين للابتعاد عن أراضيهم، ما يسهّل على المستوطنات والجيش فرض السيطرة الفعلية عليها.
ويشير إلى أن إسرائيل تسعى لفرض ضم فعلي لمناطق واسعة في الضفة الغربية دون الإعلان رسمياً عن ذلك، وذلك في محاولة لـ"الاستباق السياسي" قبيل أي تحولات دولية متوقعة.
ويلفت المشني إلى أن بعض القوى الدولية باتت ترى في إقامة الدولة الفلسطينية ضرورة للاستقرار الإقليمي، الأمر الذي يدفع إسرائيل إلى تسريع إجراءاتها على الأرض بهدف خلق وقائع تجعل من إقامة تلك الدولة "عملية معقدة أو شبه مستحيلة".
أهداف بعيدة تماماً عن أي مخاوف أمنية
يرى الكاتب والمختص بالشأن الإسرائيلي محمد أبو علان دراغمة أن العملية العسكرية الإسرائيلية الجارية في محافظة طوباس والأغوار الشمالية لا تمت بصلة للدواعي الأمنية التي تروّج لها إسرائيل، مؤكداً أن معظم أهدافها بعيدة تماماً عن أي مخاوف أمنية، وأنها تأتي في سياق مشروع أوسع يتعلق بالتدريب العسكري والتهيئة الميدانية لخطوات سياسية واستيطانية مستقبلية، وعلى رأسها ضم الأغوار الشمالية.
ويوضح أن العملية العسكرية الإسرائيلية التي أطلق عليها الاحتلال اسم "الحجارة الخمسة"، وربما التسمية نسبة إلى خمس مناطق تتركز فيها العملية، وتشمل: مدينة طوباس، وبلدة طمون، وبلدة عقّابا، وبلدة تياسير، ومخيم الفارعة ومحيطه.
ورغم أن إسرائيل تقدّم خطاباً يفيد بأن العملية مخصّصة لمنع "تموضع المقاومة" في هذه المناطق، فإن الواقع -وفق دراغمة- يناقض هذه الادعاءات بشكل واضح.
ويبيّن دراغمة أن محافظة طوباس تُعد من المحافظات الهادئة نسبياً، ولا تشهد توتراً أمنياً وفق المعايير الإسرائيلية ذاتها، كما أن جيش الاحتلال يتمركز في هذه المناطق على مدار الساعة من خلال الاقتحامات المستمرة والطوق العسكري الدائم، الأمر الذي يُسقط الذرائع الإسرائيلية المتعلقة بوجود "فراغ أمني" يستدعي عملية بهذا الحجم.
تدريبات وتمهيد فعلي للضم
ويعتقد دراغمة أن الهدف الرئيسي للعملية العسكرية الإسرائيلية في طوباس والأغوار الشمالية ليس أمنياً بل تدريبي، إذ يسعى جيش الاحتلال من خلالها إلى اختبار جاهزية قواته للعمل داخل المناطق المأهولة بالسكان، بما يشمل القرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية، وكذلك تمهيد فعلي للضم حال حدوثه.
وبحسب دراغمة، فإن التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن الضفة الغربية قد تكون ساحة المواجهة المقبلة، وبالتالي يعمل الجيش الإسرائيلي على مستوى واسع على تدريب قواته للتعامل مع هذا السيناريو.
ويشير دراغمة إلى أن العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية تأتي استكمالاً لتدريبات مشابهة جرت قبل أسابيع في منطقة الأغوار، حيث نفذ الجيش الإسرائيلي تدريبات ميدانية واسعة تحت ذريعة "منع تكرار 7 أكتوبر جديد" ومنع دخول مقاومين عبر الحدود الأردنية.
وترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية -وفق دراغمة- أن مثل هذه الأنشطة العسكرية ترسّخ "نظرية الردع"، وتبعث رسالة مفادها أن الجيش قادر على الدخول إلى أي منطقة في أي وقت، وأنه لن يكون هناك "ملجأ" للمقاومين الفلسطينيين في أي بقعة من الضفة.
ويعتقد دراغمة أن ما يجري في محافظة طوباس والأغوار الشمالية يدخل في إطار ترتيبات استراتيجية للمستقبل، حيث يتحرك الجيش والمستوطنون ضمن خطة متكاملة تهدف إلى إعادة رسم واقع جديد في المنطقة.
فالمستوطنون -وفق دراغمة- يمارسون عمليات تهجير واسعة بحق الأهالي في الأغوار الشمالية، في حين يتولى جيش الاحتلال مهمة مصادرة الأراضي وتوفير البنى التحتية التي تخدم مشروعهم الاستيطاني.
ويشير إلى أن إسرائيل تُهيّئ الأرض فعلياً لعملية ضم الأغوار، وهو ما سبق أن تحدّث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤكداً إمكانية البدء بضم الأغوار أولاً ثم توسيع الضم ليشمل أجزاء واسعة من الضفة الغربية.
شق طريق سيُشكّل حزاماً عازلاً جديداً
ويلفت دراغمة إلى أن الإجراءات الجارية تشمل مصادرة مساحات كبيرة من الأراضي، من بينها 1042 دونماً صودرت مؤخراً بهدف شق طريق يربط بين حاجز الاحتلال المنوي نقله إلى منطقة عين شبلي وحتى حاجز تياسير.
وبحسب دراغمة، فإن هذا الطريق سيُشكّل "حزاماً جديداً" يعزل خلفه ما يقارب 180 ألف دونم من الأراضي التي ستصبح فعلياً خارج متناول الفلسطينيين، ما يعني عملياً رسم حدود جديدة داخل الضفة قبل تنفيذ الضم الرسمي.
ويرى أن العملية العسكرية الإسرائيلية في طوباس والأغوار الشمالية التي تبدو في ظاهرها نشاطاً أمنياً ليست سوى خطوة ضمن مسار طويل يجمع بين التدريب العسكري، وتوسيع السيطرة الميدانية، وتمهيد الأرض سياسياً وقانونياً لفرض واقع جديد في الأغوار الشمالية، وصولاً إلى ضمّها الفعلي وتقويض الوجود الفلسطيني فيها.
لا فصل بين الأمن والسياسة داخل منظومة الاحتلال
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي عدنان الصباح أن ما يجري في طوباس والأغوار الشمالية لا يمكن عزله عن المشروع الصهيوني الأشمل الذي يستهدف السيطرة على معظم مساحة الضفة الغربية.
ويشدد على أن الفصل بين الأمن والسياسة داخل منظومة الاحتلال غير موجود إطلاقاً، إذ يعمل الطرفان بشكل مترابط لخدمة الهدف نفسه: تهويد الأرض الفلسطينية وتفكيك وجود سكانها.
ويشير الصباح إلى أن العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة في طوباس والأغوار الشمالية يجب أن تُفهم في سياق محاولة تنفيذ الخريطة التي طرحها الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، والتي يسعى من خلالها للسيطرة على 82% من مساحة الضفة الغربية.
ويوضح الصباح أن الخريطة استثنت بشكل متعمد أربع محافظات رئيسية: قلقيلية الملاصقة لفلسطين المحتلة عام 48، وبيت لحم ذات الأهمية الدينية والسياسية القريبة من القدس، وسلفيت المحاطة بالمستوطنات، ثم محافظة طوباس التي تمثل "العاصمة الغذائية لفلسطين" والبوابة التي يزعم الاحتلال أنها مدخل للتسليح نحو شمال الضفة.
ويحذر من أن ضم الأغوار وإزالة محافظة طوباس فعلياً من الخارطة الفلسطينية سيقود إلى إضعاف شديد للوجود الفلسطيني، عبر سياسة ضغط اقتصادي قاسية تستهدف خنق المواطنين ودفعهم نحو التفكير بالهجرة أو الانتقال إلى مناطق أخرى أكثر اكتظاظاً.
جزر معزولة أو "غيتوهات" للحكم الذاتي
ويؤكد الصباح أن الاحتلال يسعى لتحويل التجمعات الفلسطينية إلى جزر معزولة أو "غيتوهات" للحكم الذاتي بلا تواصل جغرافي، تمهيداً للاستيلاء على ما تبقى من الأرض.
ويشدد على أن الهدف الاستراتيجي للاحتلال يتمثل في جعل الفلسطينيين يشعرون بأن الأمل مفقود، وأن البقاء على أرضهم بات عبئاً لا يُحتمل، مؤكداً أن "من يصل إلى مرحلة فقدان الأمل يفقد القدرة على مواصلة الحياة، وهذا ما يريده الاحتلال تماماً".
ويشير إلى أن المشروع الصهيوني لم يتوقف يوماً عن السعي للتخلص من الشعب الفلسطيني والسيطرة الكاملة على أرضه منذ بداية الاحتلال.
ويلفت الصباح إلى أن الحديث عن فصل الأمن عن السياسة داخل إسرائيل مجرد وهم، فـ"العقيدة والأمن والسياسة تشكل مثلثاً مترابطاً في الفكر الصهيوني"، يعمل دون توقف لترسيخ السيطرة الإسرائيلية على فلسطين، مهما طال الزمن أو تغيّرت الظروف السياسية.
المؤسسة الإسرائيلية تروّج لـ"الكذبة الكبرى"
يرى الكاتب والمختص بالشأن الإسرائيلي فايز عباس أن المؤسسة الإسرائيلية تروّج لما وصفه بـ"الكذبة الكبرى"، المتمثلة في الادعاء بأن العمليات العسكرية في شمال الضفة الغربية تهدف إلى منع تكرار أحداث السابع من أكتوبر، وأن ما يقوم به الجيش هناك يستهدف "القضاء على البنية التحتية للإرهاب".
ويتساءل عباس عمّا يقصده جيش الاحتلال بهذه "البنية"، وهل يُعد موسم قطف الزيتون -الذي يتعرض لاعتراضات واعتداءات مستمرة- جزءاً مما تعتبره إسرائيل "عملاً إرهابياً".
ويوضح أن العملية العسكرية في منطقة طوباس تعبّر عن تلاقٍ واضح بين مصالح ما يسمى قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي ومصالح المستوطنين الساعين للسيطرة على الأراضي وتوسيع البؤر الاستيطانية الاستعراضية.
تفكيك البنية التحتية الزراعية الفلسطينية
ويشير عباس إلى أن المنطقة المستهدفة تُعد واحدة من أهم المساحات الزراعية الفلسطينية، إذ تُعتبر "سلة غذاء رئيسية"، ما يجعل تدميرها عملاً يهدف إلى تفكيك البنية التحتية الزراعية الفلسطينية وليس القضاء على أي بنية "إرهابية" كما يدّعي الجانب الإسرائيلي.
ويبيّن أن إسرائيل تنظر إلى الأغوار الشمالية باعتبارها منطقة ذات أهمية أمنية واستيطانية واقتصادية وزراعية في آن واحد، وهو ما يفسر تصاعد الحديث داخل الدوائر الإسرائيلية في الآونة الأخيرة حول إعادة طرح أهمية هذه المنطقة من منظور "الأمن القومي"، والبحث في إمكانية ضمّها رسمياً إلى السيطرة الإسرائيلية.
ويرى عباس أن هذه التطورات تُظهر أن ما يجري في شمال الضفة لا ينفصل عن مشروع سياسي أكبر يستهدف فرض وقائع جديدة على الأرض عبر تعزيز الاستيطان وتضييق الخناق على الوجود الفلسطيني في المناطق الزراعية الحيوية.
طابع سياسي بامتياز
يرى الباحث والمحلل السياسي لبيب طه أن العملية العسكرية الإسرائيلية الجارية في طوباس والأغوار الشمالية تحمل طابعاً سياسياً بامتياز، رغم محاولات الجيش الإسرائيلي إخفاء ذلك خلف "أهداف أمنية مزعومة".
ويؤكد طه أن موقع طوباس الاستراتيجي والظروف الداخلية الإسرائيلية وترتيبات إقليمية ودولية متشابكة كلها تسهم في دفع الاحتلال نحو تنفيذ هذه الحملة الواسعة.
ويؤكد أن الأهمية الجغرافية لطوباس تجعلها هدفاً دائماً لإسرائيل، إذ يقترب هذا الامتداد الجغرافي من الحدود الأردنية، وهو ما ينسجم مع الرؤية الإسرائيلية التاريخية التي تعتبر أن "الخطر يأتي من الجبهة الشرقية".
ويشير طه إلى أن الإصرار الإسرائيلي القديم على أن يكون نهر الأردن حدودها الشرقية يجعل من السيطرة على أراضي طوباس والأغوار جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد تشمل المصادرة والتهجير التدريجي للسكان، تماماً كما يحدث في بقية مناطق الضفة الغربية.
ويلفت طه إلى أن الظروف الداخلية الإسرائيلية تلعب دوراً مركزياً في توقيت العملية، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات.
وبحسب طه، فإن الأحزاب الإسرائيلية، وعلى رأسها الليكود والائتلاف الحاكم من الأحزاب المتطرفة، تعتمد على "إظهار مزيد من القوة والغطرسة تجاه الفلسطينيين" لتعزيز حضورها السياسي.
ووفق طه، فإن المشهد السياسي داخل إسرائيل "لا يسمح إلا بالانشغال بعدو خارجي"، وفي حال خمود جبهة ما، تبادر الحكومة الإسرائيلية إلى فتح جبهة أخرى، كما حدث بعد حرب لبنان العام الماضي، وما تبعها من عمليات في سوريا ثم جنين وطولكرم وحاليا طوباس.
إعادة تشكيل الإقليم وفق الرؤية الإسرائيلية
أما على الصعيد الإقليمي والدولي، فيرى طه أن إسرائيل تسعى إلى إعادة تشكيل الإقليم وفق رؤيتها الخاصة، مستشهداً بتصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال فيها إنه "يغير وجه الشرق الأوسط".
ويعتبر طه أن إسرائيل تعمل على إزاحة أي طرف يقف أمام مشاريعها، مستخدمة القوة العسكرية كأداة ضغط استراتيجية.
ويربط طه بين تصعيد طوباس وواقع الضفة الغربية، التي تشهد هدوءاً نسبياً باستثناء العنف الممنهج للمستوطنين، ما يعزز قناعته بأن العملية الجارية "تتجاوز تماماً مزاعم الأمن".
ويوضح أن جوهر ما يحدث في طوباس والأغوار هو إخضاع السكان نفسياً واقتصادياً، عبر تدمير الآفاق السياسية للفلسطينيين، ومصادرة الأراضي والمياه، ومنعهم من العمل والسيطرة على مواردهم.
ويشدد طه على أن أغوار طوباس، بوصفها سلة غذاء مركزية للفلسطينيين، تُستهدف لإفقار السكان ودفعهم إلى الرحيل، عبر تجفيف مصادر رزقهم وتحويل أراضيهم الخصبة إلى مناطق يسيطر عليها المستوطنون.
ويؤكد طه أن الهدف النهائي للاحتلال هو "السيطرة على الأرض خالية من شعب سكنها آلاف السنين"، ضمن استراتيجية ممنهجة تتقدم بخطوات ثابتة تحت غطاء العمليات العسكرية.
خطوة مركزية في مسار سياسي وأيديولوجي
يؤكد الباحث المختص بالشأن الإسرائيلي وقضايا الصراع نزار نزال أن العملية العسكرية التي تنفذها قوات الاحتلال في طوباس حالياً، وفي شمال الضفة الغربية، تمثل خطوة مركزية في مسار سياسي وأيديولوجي إسرائيلي قديم يتجدد اليوم، يقوم على إعادة تشكيل الضفة الغربية تمهيداً لإنهاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
ويعتبر أن إسرائيل تعمل من خلال هذه العملية على تنفيذ جوهر "خطة إيغال آلون" التي طرحت عام 1967، القائمة على تمزيق الضفة الغربية جغرافياً وتفتيت التواصل بين مناطقها، بما يؤدي فعلياً إلى القضاء على فكرة الحل السياسي.
ويوضح أن ما يجري في طوباس والمناطق المحيطة بها هو بداية "عصر جديد" في طريقة تعامل إسرائيل مع الضفة الغربية، يهدف إلى خلق واقع ميداني مختلف كلياً عن العقود السابقة، مشيراً إلى أن الحكومة الإسرائيلية تستخدم هذه العمليات كرسائل سياسية داخلية لـ"إرضاء" التيار اليميني المتطرف، وتقديم "الرشى السياسية" لسموتريتش وبن غفير.
ويرى نزال أن التناغم الأمريكي مع هذه السياسة يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتوسيع نفوذها، خاصة مع ما يُثار عن دخول الجيش الإسرائيلي إلى "المرحلة الثانية" في قطاع غزة، ما يعكس توافقاً على دفن حلّ الدولتين وإلغاء المسار السياسي بشكل كامل.
فرض السيادة الإسرائيلية على جغرافيا الضفة
ويؤكد نزال أن العملية العسكرية الإسرائيلية في طوباس لا تحمل طابعاً أمنياً بحتاً، بل تأتي ضمن مشروع استراتيجي لفرض السيادة الإسرائيلية على كامل جغرافيا الضفة الغربية.
ويرى أن هذه الرؤية تتضمن مسارين متوازيين: الأول تقليل عدد السكان الفلسطينيين عبر بثّ الخوف ومحاصرتهم والتضييق عليهم، والثاني تنفيذ مشروع ضمّ الأغوار الذي لا يمكن تحقيقه دون السيطرة الفعلية على طوباس وتياسير والفرعة وطمون، كونها مناطق حيوية ومتاخمة للشريط الشرقي.
ويشير نزال إلى أن إسرائيل تسعى كذلك لإعادة رسم الواقعين الديموغرافي والجغرافي في الضفة بما يخدم أهدافها الاستراتيجية، مع تعزيز ثقة الشارع الإسرائيلي بالمستوى السياسي والعسكري بعد تراجعها خلال الفترة الماضية.
ووفق نزال، فإن إسرائيل، في المقابل، تحاول إرسال رسائل للفلسطينيين بأن السلطة فقدت قدرتها على حماية أي شيء، في محاولة لضرب الثقة بها، وإبراز إسرائيل كأنها "المتحكم الوحيد" في الأرض.
ويحذّر من توسع العمليات العسكرية باتجاه التجمعات السكانية على طول الحدود بين الضفة والأراضي المحتلة عام 1948، إضافة إلى المخيمات التي اعتبرها "في عين العاصفة"، متوقعاً أن تحاول إسرائيل تكرار نموذج مخيمات: جنين وطولكرم ونور شمس، في مخيمات أخرى.
ويرى نزال أن هذه التطورات تمثل "مرحلة جديدة ومقدمة لمشروع أيديولوجي شامل" يعيد صياغة الضفة الغربية كمركز الصراع والعمق الاستراتيجي الأهم لإسرائيل.
ثلاثة سياقات متداخلة تعكس رؤية إسرائيلية أوسع
يرى الكاتب والمحلل السياسي سليمان بشارات أن العملية العسكرية التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي في محافظة طوباس والأغوار الشمالية لا يمكن قراءتها من زاوية واحدة، بل تأتي ضمن ثلاثة سياقات متداخلة تعكس رؤية إسرائيلية أوسع تتجاوز الادعاءات الأمنية المعلنة.
ويوضح أن السياق الأول يرتبط بالذريعة الأمنية التي يروج لها الاحتلال، والمتمثلة في منع تشكّل بنية تحتية لمجموعات مقاومة.
ويشير بشارات إلى أنه رغم أن الأمن يُعدّ أولوية ثابتة في العقلية الإسرائيلية، إلا أن حجم القوة المستخدمة وانتشار جيش الاحتلال والآليات والتحليق المكثف يتجاوز الحاجة الحقيقية لمواجهة أي نشاط مسلح محدود.
ويلفت بشارات إلى أن الاحتلال قادر على تنفيذ الاقتحامات والاعتقالات والاغتيالات يومياً دون هذا الاستعراض المبالغ فيه للقوة، ما يجعل الادعاء الأمني مدخلاً لا يفسّر حجم العملية وطبيعتها.
أما السياق الثاني، فهو سياسي بامتياز، إذ يرى بشارات أن إسرائيل تمهد عبر هذه العمليات لمرحلة جديدة في الضفة الغربية، بدأت ملامحها منذ اقتحامات مخيمات جنين وطولكرم مطلع العام الجاري.
ويهدف هذا النهج، وفق تقدير بشارات، إلى فرض معادلة جديدة على الأرض تشمل تعزيز فكرة السيطرة والضم، حتى إن لم تُعلن رسمياً، من خلال خلق واقع ميداني يرسّخ الوجود الإسرائيلي ويفكك أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقبلية.
ويؤكد أن المناطق المستهدفة تقع على الشريط الجغرافي الذي تعتبره إسرائيل حدوداً مستقبلية لدولتها اليهودية، خاصة الأغوار باعتبارها "البوابة الشرقية"، وجنين وطولكرم كامتداد للشريط الحدودي، ما يعكس نية إسرائيل توسيع نطاق سيطرتها مقابل حصر الوجود الفلسطيني في مساحات أضيق وأضعف.
ويأتي السياق الثالث، بحسب بشارات، في إطار استراتيجية الاستنزاف الهادفة لضرب مقومات الصمود الفلسطيني، فالمناطق التي تتعرض للاقتحامات والعمليات المكثفة هي ذات كثافة سكانية عالية أو ذات أهمية اقتصادية وبيئية كبيرة، مثل الأغوار التي تُعد سلة الغذاء الفلسطينية وأكبر حوض مائي جوفي.
ويرى أن الضغط على هذه المناطق يفتح الباب أمام مسارين: إما دفع الفلسطينيين للهجرة الخارجية، أو فرض هجرة داخلية قسرية عبر تجميعهم في مراكز المدن ومنع توسعهم العمراني والجغرافي.
ويؤكد بشارات أن الاحتلال يستفيد من الظروف السياسية والميدانية الحالية ليختبر فرضياته ويعيد صياغة مستقبله وفق رؤيته، في سباق مع الزمن قبل أي تغيّرات إقليمية أو دولية قد تطرأ على مسار القضية الفلسطينية.
المصدر:
القدس