أشارت منظمة العفو الدولية يوم الخميس إلى أن الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة لم تنتهِ، رغم مرور أكثر من شهر على إعلان وقف إطلاق النار الذي تدعمه الولايات المتحدة. وجاء تقرير المنظمة ليؤكد أن الهدوء النسبي لا يعكس تحولاً في السياسات الإسرائيلية، بل يغطي استمرارًا ممنهجًا لانتهاكات واسعة النطاق تُبقي السكان الفلسطينيين تحت ظروف معيشية قسرية تهدد وجودهم المادي.
ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار أدى إلى خفض نسبي في حدة الهجمات المباشرة وسمح بدخول قدر طفيف من المساعدات، إلا أن ذلك لم يوقف استمرار القتل؛ فقد وثّقت وزارة الصحة في غزة مقتل ما لا يقل عن 347 فلسطينيًا منذ بدء الهدنة، إلى جانب إصابة 889 آخرين، في مؤشر واضح على أن "وقف النار" لم يتحول إلى وقف للعمليات العسكرية. ووفق التقرير، ما تزال إسرائيل تفرض قيودًا مشددة على إدخال المواد الغذائية والأدوية والوقود والكهرباء، فضلاً عن استمرار منع عمليات الإصلاح وإعادة الإعمار، وهو ما تعتبره المنظمة استمرارًا مباشرًا لـ"ظروف قابلة للتدمير المادي المتعمد".
وتؤكد منظمة العفو الدولية أن هذه السياسات لا تُعد مجرد انتهاكات متفرقة، بل تشكل نموذجًا منسقًا يتسق مع تعريف الإبادة الجماعية في القانون الدولي، خاصة عندما تُفرض على جماعة بشرية ظروف معيشية مقصودة تهدف إلى تدميرها جزئيًا أو كليًا. وتشير إلى أن حرمان المدنيين الفلسطينيين من الخدمات الأساسية – من الغذاء إلى العلاج مرورًا بالمياه والكهرباء – يخلق دائرة كارثية من الجوع والمرض وانهيار البنية الصحية، وهو ما يجعل وقف إطلاق النار بلا قيمة إنسانية ما دامت أدوات الفتك غير المباشر ما تزال فاعلة.
أما على الأرض، فيستمر نزوح آلاف العائلات الفلسطينية داخل غزة، حيث يبقى القسم الذي تحتله إسرائيل – ويشكل 58% من مساحة القطاع – منطقة مغلقة بالكامل بوجه السكان. وتصف المنظمة "الخط الأصفر" الفاصل بين شطري القطاع بأنه خط موت؛ إذ تُطلق القوات الإسرائيلية النار على الفلسطينيين الذين يحاولون العودة إلى منازلهم أو أراضيهم الزراعية الواقعة خلفه. وقد وثّقت المنظمة مقتل نحو 93 مدنيًا منذ إعلان الهدنة لمجرد محاولتهم اجتياز هذا الخط، ما يعكس سياسة تهدف إلى تغيير ديمغرافي ثابت تحت غطاء "الإجراءات الأمنية".
كما يبرز التقرير استمرار الحظر المفروض على إدخال المعدات اللازمة لإصلاح شبكات المياه والصرف الصحي والاتصالات والطاقة، إلى جانب منع دخول معدات إزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة. هذا الحظر – وفق المنظمة – يُبقي غزة في حالة شلل بنيوي تعيق أي إمكانية لعودة الحياة الطبيعية أو بدء عملية تعافٍ طويل الأمد، وتحوّل الهدنة إلى مجرد حالة انتظار للموت وليس مرحلة انتقالية نحو الاستقرار.
وتعيد منظمة العفو الدولية التأكيد على أن إسرائيل لن تسمح بتدفق كميات كافية من المساعدات أو عودة الخدمات الأساسية ما لم يمارس عليها المجتمع الدولي ضغوطًا حقيقية وملزمة. وتلفت إلى أن التصريحات الدولية لا تزال بعيدة عن ترجمة فعلية، في ظل غياب أي آليات رقابية أو عقابية. وتدعو المنظمة إلى تدخل دولي فاعل يفرض التزامات قانونية على إسرائيل تنهي سياسات التجويع، وتعيد فتح المجال أمام حركة السكان داخل القطاع، وتطلق مسارًا جادًا لإعادة البناء.
"الهدنة" كأداة سياسية
تكشف المعطيات الميدانية أن الهدنة لا تعكس تحولًا في الإستراتيجية الإسرائيلية بقدر ما تمثل إعادة ضبط لإيقاع العمليات بما يسمح باستمرار السيطرة وإدارة الأزمة دون ضغوط كبيرة. فبدلاً من القصف الواسع، يجري استخدام أدوات أقل ضجيجًا وأكثر فتكًا على المدى البعيد: التجويع، المرض، العزل، وانهيار البنية التحتية. هذه الطبيعة تجعل من وقف إطلاق النار واجهة سياسية، بينما يظل الواقع الإنساني على الأرض أسير أدوات الموت البطيء التي لا تقل تأثيرًا عن العمليات العسكرية المباشرة.
التحول نحو "الإدارة الأمنية الدائمة"
يعتبر توسيع المنطقة المحظورة عبر "الخط الأصفر" وتحويل أكثر من نصف مساحة القطاع إلى منطقة مغلقة ، انتقالًا في العقيدة الإسرائيلية من فكرة الردع إلى فكرة العزل الديمغرافي الدائم. فمنع العودة إلى المنازل والأراضي الزراعية هو في جوهره سياسة تهجير مقنّع تُنفذ من دون إعلان رسمي، وتستخدم لغة أمنية كسياج قانوني. هذه الهندسة الجديدة للمكان تزرع واقعًا يصعب تفكيكه لاحقًا، وتخلق حالة دائمة من اللجوء الداخلي لا تُحل إلا بقرار سياسي كبير.
مسؤولية المجتمع الدولي بين الغياب والتواطؤ
ورغم كثافة التقارير الحقوقية، يبقى المجتمع الدولي عند حدود التعبير اللفظي، بينما تستفيد إسرائيل من الفجوة بين الخطاب والقانون. فغياب إجراءات ملزمة – مثل آليات مراقبة ميدانية، أو شروط واضحة لإدخال المساعدات، أو قرارات عقابية – يجعل القوة القائمة بالاحتلال عمليًا خارج نطاق المحاسبة. إن استمرار هذا الفراغ القانوني والسياسي لا يعني فقط تطبيع الانتهاكات، بل يكرّس نمطًا جديدًا في القانون الدولي يسمح لدول تمتلك دعمًا سياسيًا قويًا بالعمل خارج قواعد الحرب والاحتلال، وهو ما يجعل الحالة الفلسطينية اختبارًا خطيرًا لمصداقية النظام الحقوقي العالمي.
المصدر:
القدس