عباس زكي: عرفات استطاع أن يؤسس لثورة جعلت القضية الفلسطينية مركز الصراع العالمي وكان قائداً للوحدة الوطنية يحمل مشروع التحرير
د. صبري صيدم: إسرائيل حاولت مقاتلة عقارب الزمن لشطب فلسطين لكنها فشلت أمام أبي عمار الذي فرض حضورها على طاولة الأمم
نبيل عمرو: في ظل الصعوبات التي نعيشها اليوم يجب استلهام تجربة ياسر عرفات لمعرفة كيف تُدار المضائق الكبرى
دلال سلامة: أبو عمار قاد مشروعاً وطنياً جعل الثورة حاضرة في حياة الفلسطينيين أينما كانوا ونجح في تحويل فكرة المستحيل إلى واقع
د. أحمد مجدلاني: جسّد في شخصيته صورة الفلسطيني الذي يسعى خلف حقه في تقرير المصير.. وتجربته نموذج ومرجعية لكل الأجيال
د. حسن خريشة: أرسى الأسس التي مكّنت المؤسسات الفلسطينية من الصمود عبر احترام القانون الأساسي الذي ظل مرجعاً ملزماً للجميع
د. واصل أبو يوسف: عرفات تمسك بوحدة القرار الوطني وصياغته داخل مؤسسات المنظمة ورفض أي تدخل خارجي في الشأن الفلسطيني
د. المتوكل طه: كان قبطاناً يقود الشعب نحو بر الأمان متحدياً العوائق وموفراً نموذجاً للقائد المتمسك بثوابت شعبه وحلمه بالحرية والاستقلال ودفع حياته ثمناً لذلك
تحل اليوم الثلاثاء، الذكرى الحادية والعشرون لاستشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات "أبو عمار"، ليبقى إرثه حاضراً في الوعي الوطني، فعرفات لم يكن مجرد قائد سياسي، بل جسّد روح الصمود والتحدي، وحوّل "ثورة المستحيل" إلى واقع ملموس عبر مشروع وطني جمع فيه الفلسطينيين على هدف مشترك، محافظاً على ارتباطهم بالأرض والهوية.
ويؤكد قادة سياسيون وأعضاء مجلس تشريعي وشعراء ممن عايشوا "أبو عمار"، في أحاديث منفصلة مع "ے"، أن عرفات نجح في جعل القضية الفلسطينية محور الصراع العالمي، وكان رمزاً للوحدة الوطنية، قادرًا على جمع مختلف القوى والأجيال حتى في أصعب الظروف، بما يعكس قيادته الاستثنائية وحرصه على تماسك الشعب الفلسطيني والحفاظ على الحقوق الوطنية.
ويشددون على أن إرث عرفات يشكل اليوم مرجعية للفلسطينيين في مواجهة التحديات الراهنة، ويرسخ النضال من أجل الحرية والاستقلال، وأن الوحدة الوطنية هي صمام الأمان للفلسطنينيين.
"أبو عمار" لم يكن "قائداً عادياً"
يؤكد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عباس زكي، أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات "أبو عمار" لم يكن "قائداً عادياً"، بل مثّل رمزاً وطنياً فلسطينياً جامعاً وزعيم أمة، جسّد روح التحدي في مرحلة انهارت فيها الإرادات العربية عقب نكبة عام 1948، واختار طريق الثورة والكفاح المسلح رغم انغلاق الأفق، ليصنع "معجزة من العدم" حوّلت الثورة الفلسطينية إلى الرقم الأصعب في معادلة الصراع.
ويوضح زكي أن عرفات استطاع، عبر تراكم نضالاته، أن يؤسس لثورة جعلت القضية الفلسطينية مركز الصراع العالمي، مؤكداً أنه كان قائداً للوحدة الوطنية، يحمل مشروع التحرير، ويجمع الجميع كـ"المغناطيس الجاذب لا الطارد"، حتى بين المختلفين معه، إذ "كان يُختلَف معه ولا يُختَلَف عليه"، لافتاً إلى أن إيجابياته طغت على كل خلاف بما خاضه من تجربة استثنائية فريدة.
ويشير إلى أن عرفات كان بإمكانه أن يعيش مترفاً أو أن يساوم على المبادئ، لكنه فضل المواجهة والتمسك بالثوابت.
ويستحضر زكي مقولة "أبو عمار" الشهيرة: "يريدونني طريداً أو أسيراً أو قتيلاً، وأنا أقول لهم شهيداً شهيداً شهيداً… وع القدس رايحين شهداء بالملايين".
ويلفت زكي إلى أن"أبو عمار" كان يؤمن بأن الهزيمة في جولة لا تعني خسارة المعركة، وكان يكرر: "يمكن أن نخسر معركة ولكننا سنربح الحرب".
ويعتبر زكي أن البعض أن عرفات هُزم في صفحات التاريخ لكنه انتصر على الأرض والجغرافيا، فهو تمرّد على الواقع، وأصرّ على مقاومة المشروع الذي استهدف تصفية القضية، مشدداً على أنه كان صوتاً لفلسطين أمام العالم، تجسد في انصهار الرجل مع وطنه وشعبه، حتى بات اسماً مرادفاً للثورة ذاتها، بل ورمزاً لحلم الوحدة العربية.
ويؤكد زكي أن ما يحدث في غزة برغم صعوبته لكن الشعب الفلسطيني يشبه "طائر الفينيق ينهض من تحت الركام".
ويبيّن أن عرفات كان يرى في فلسطين بوابة الحرب حين تُفرض عليها، وبوابة السلام لأنها أرض المقدسات، معتبراً أن التمسك بإرثه اليوم يمثّل عودة إلى أبجديات الصمود، وأنه سيبقى "أثمن ما تملك فلسطين"، حتى تحقيق الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
إذا حضرت الكوفية فلن يضاهيها أي حضور
يؤكد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح د. صبري صيدم أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات "أبو عمار" "علّم العالم أن الكوفية إذا حضرت فلن يضاهيها أي حضور مهما امتلك من جبروت عسكري أو هندامٍ ثمين".
ويشير صيدم إلى أن إسرائيل حاولت "مقاتلة عقارب الزمن لشطب فلسطين"، لكنها فشلت أمام كاريزما أبي عمار التي نجحت في فرض حضور فلسطين على طاولة الأمم.
ويشدد صيدم على أن تجربة عرفات الثائر المتسلح بـ"غصن الزيتون في يد والبندقية في اليد الأخرى" بأن إسرائيل لم تستهدف اغتيال غصن الزيتون والبندقية فقط، بل عملت أيضاً على محاولة اغتيال شخصية عرفات وإرثه وتاريخه.
ظاهرة لا تزال تحكم الأسئلة اليومية للفلسطينيين
في الذكرى الحادية والعشرين لرحيل الرئيس ياسر عرفات "أبو عمار"، يستعيد وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق والقيادي في حركة فتح نبيل عمرو سنوات من القرب السياسي والإنساني من الرئيس الشهيد، مؤكداً أنه "ظاهرة لا تزال تحكم الأسئلة اليومية للفلسطينيين"، وقائداً تجمعت في شخصيته ندرة الإنسان والمقاتل ورجل السياسة.
يروي عمرو أن تجربته مع أبو عمار امتدت على سنوات طويلة، حيث أن ما يطغى في شخصية أبو عمار ليس فقط الزعيم والقائد، بل الإنسان والصديق والموجّه، وحتى المختلف معه، وكان يحرص أن يعمل الجميع معه مهما اختلفت الرؤى.
ويتطرق إلى أكثر المحطات عمقاً بأنها مرحلة لبنان، حين كانت الثورة تخوض أيامها الأكثر سخونة، بين المعارك والقرارات المصيرية.
ويقول عمرو، مستذكراً كيف كان عرفات، "لقد كان أبو عمار لا يرسل الآخرين إلى العمل الخطر، بل كان يتقدّم الصف ويدعونا لاتباعه، لقد كان هذا دليلاً على استعداده أن يفتدينا بروحه".
يرى عمرو أن عرفات جسّد أبوة سياسية وإنسانية، مبنية على ثقة عميقة بقائد قوي ومخلِص، واستثنائي في قدرته على الجمع بين العمل العسكري، والمناورة السياسية، والفهم الإنساني.
ويشدد عمرو على أن حضور عرفات لم ينتهِ برحيله، قائلا: "لا يزال أبو عمار حاضراً في البيوت والصالونات والتجارب اليومية، ومع كل أزمة كبرى نسأل: ماذا كان سيفعل لو كان هنا؟".
ويعيد عمرو إلى الذاكرة محطات حاسمة مثل الانقسام داخل فتح عام 1982، مؤكداً أن عرفات عالجه بالصبر والحكمة وأعاد لملمة الصف، كما كان قادراً على اتخاذ قرارات كبرى مثل خوض مسار التفاوض واتفاق أوسلو، وهي خيارات "لم يكن ليقدم عليها لولا موهبته السياسية وحضوره الطاغي".
وينفي تهمة التفرد السياسي التي أُلحقت بعرفات، مؤكداً أنه ظل تحت سقف العمل السياسي الجماعي عبر المجلس الوطني والتشاور مع القيادات الفلسطينية والعربية، موضحاً أن تفرده إن حدث، فكان في شؤون إدارية لا في القرار الوطني.
وعن اللحظة الراهنة وما تشهده من حرب إبادة وصعوبات مصيرية تحدق بالقضية الفلسطينية، يقول عمرو: "في ظل الصعوبات التي نعيشها استلهام تجربة عرفات فإنه من الضروري معرفة كيف تُدار المضائق الكبرى".
حقيقة نضالية تجذرت في الوعي الفلسطيني
تؤكد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح دلال سلامة أن الشهيد ياسر عرفات لم يكن إلا قائداً خالداً في أبناء شعبه ليس كعبارة إنشائية، بل كحقيقة نضالية تجذرت في الوعي الفلسطيني عبر الأجيال، كونه قائد الثورة الفلسطينية الذي حمل منذ انطلاقتها مفاهيم التحرر والصمود، وغرس روح الارتباط بالأرض والهوية الجامِعة للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده.
وتشدد على أن أبو عمار واجه منذ البدايات ما وصفته قيادات عالمية بـ "ثورة المستحيل"، لكنه كان يؤمن بأن المستحيل يمكن أن يتحول إلى إنجاز فعلي على الأرض، فقاد مع رفاقه في اللجنة المركزية لحركة فتح وقيادات فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مشروعاً وطنياً جعل الثورة حاضرة في حياة الفلسطينيين أينما كانوا، ونجح في تحويل فكرة المستحيل إلى واقع واستدامة لصمود الشعب والتصاقه بأرضه وهويته.
وتؤكد أن أبا عمار "كرّس في خطاباته ولقاءاته ورؤيته الممتدة بين الأجيال استمرار النضال الوطني حتى تحقيق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني".
كما تؤكد سلامة أهمية النضال الوطني في ظل ما يواجهه الشعب الفلسطيني اليوم إبادة جماعية في قطاع غزة، بالتزامن مع تكثيف مشاريع الاستيطان والتهويد في القدس، وجرائم الفصل العنصري، وبناء الكانتونات، ومحاولات اقتلاع الفلسطيني من أرضه وهويته ضمن "مرحلة أمريكية إسرائيلية تهدف لتفكيك القضية الفلسطينية من مرتكزاتها".
وتشدد على أن ما أنجزه الشعب الفلسطيني من صمود وثبات يحاول الاحتلال اليوم تفكيكه، إلا أن الواقع يؤكد أن الفلسطينيين "يبقون على أرضهم رغم الأنقاض والتهجير وحرب الإبادة"، ويعيدون انبعاثهم "كطائر الفينيق من تحت الركام"، في المخيمات والأزقة والحارات، وبين أشجار الزيتون التي تمثل جذوراً راسخة لا يمكن اقتلاعها.
وتتوقف سلامة عند نضال المرأة الفلسطينية، مستندة إلى ما قاله محمود درويش في وثيقة الاستقلال ورددها الرئيس عرفات: (المرأة.. حارسة نارنا المقدسة)، مؤكدة أن عشرات الآلاف من النساء استشهدن في العدوان على غزة، فيما تواجه مئات الآلاف منهن النزوح والقمع والاستيطان وتقطيع الأوصال، لكنهن رغم ذلك سيبقين حارسات نارنا المقدسة.
وتلفت سلامة إلى التجارب الحيّة لنساء غزة، ومخيمات شمال الضفة في جنين وطولكرم ونور شمس، والأغوار والمَسافر والقدس المحتلة، مؤكدة أن "الرهان على صمود الشعب والمرأة هو رهان لا يخسر".
مناسبة لاستحضار تاريخ طويل من النضال
يؤكد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والأمين العام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني د.أحمد مجدلاني أن الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد القائد والرئيس الراحل ياسر عرفات "أبو عمار" تشكل مناسبة لاستحضار تاريخ طويل من النضال الوطني ومسيرة سياسية استثنائية شكلت أساس الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
ويوضح مجدلاني أن عرفات لم يكن مجرد قائد سياسي، بل مؤسس الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، وقاد منظمة التحرير الفلسطينية منذ مراحلها الأولى، محولاً إياها إلى منظمة ذات موقف سياسي وبرنامج وطني واضح منذ عام 1964، ثم تطويرها عام 1968 ككيان سياسي ملموس، وصولاً إلى إعلان استقلال دولة فلسطين عام 1988، ومشاركته البارزة في تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994.
ويشير مجدلاني إلى أن ياسر عرفات كان يمثل القاسم المشترك الأعظم بين جميع القوى السياسية والفكرية في فلسطين، حيث لم يكن هناك خلاف حول شخصه، بل ربما اختلف البعض مع سياساته أو توجهاته، لكنه ظل نقطة الالتقاء الرئيسية لكل الاتجاهات.
ويذكر مجدلاني أن علاقته الطويلة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات امتدت من لبنان إلى تونس، وصولاً إلى الأراضي الفلسطينية مع تشكيل السلطة الوطنية، مؤكداً أن هذه التجربة أكدت له رؤية عرفات الوطنية وقدرته على صياغة السياسات الملائمة في كل لحظة تاريخية، بما يخدم أهداف الحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني.
وبحسب مجدلاني، فإن استذكار مسيرة عرفات يوفر دروساً هامة للفلسطينيين في الحاضر، أبرزها الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية في اللحظات التاريخية الحرجة، والقدرة على ابتكار السياسات والمواقف التي تساعد على تخطي الأزمات والحصار، فضلاً عن التأكيد على الاعتماد أولاً على الشعب الفلسطيني نفسه قبل الرهان على أي دعم خارجي أو إقليمي أو دولي.
ويؤكد مجدلاني أن عرفات جسّد في شخصيته صورة الفلسطيني الذي يسعى خلف حقه وحق شعبه في تقرير المصير، وأن هذه التجربة التاريخية تقدم نموذجاً ومرجعية لكل الأجيال الفلسطينية في مواصلة النضال لتحقيق الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بما يعزز الإرث السياسي والوحدة الوطنية التي جسدها القائد الراحل على مدار عقود من العمل الوطني.
قائد استثنائي جمع بين الحكمة والإنسانية والوفاء
يؤكد النائب الأول السابق لرئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، د. حسن خريشة، أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات "أبو عمار" كان قائداً استثنائياً جمع بين الحكمة والإنسانية والوفاء، وظل قريباً من الناس ومنحازاً لهم حتى في أصعب الظروف، لافتاً إلى أن أبرز صفاته تمثلت في وفائه لكل من ساهم بالثورة الفلسطينية، سواء كان مؤيداً أو معارضاً، دون أن يتخلى عن أحد.
ويوضح خريشة أن عرفات كان رحيماً بالشعب الفلسطيني، حتى بمن اختلفوا معه سياسياً، ولم يكن يتعامل وفق قاعدة الانتقام أو الإقصاء، بل وفق مبدأ الاحتواء والمصارحة، فكان يمنح الفرص للجميع، ويؤمن بأن الفلسطيني الحقيقي هو المنتمي الذي يناضل من أجل أرضه وعدالته، ويحمل بذرة الرحمة لا الكراهية.
ويشير خريشة إلى أن عرفات كان يولي القضايا اليومية للمواطنين أهمية توازي القضايا الوطنية الكبرى، وكان يمنح الصلاحيات للمسؤولين والمجتمع المحلي لحل الإشكالات بدل فرض الحلول من أعلى، مستذكراً تجربة شخصية في مدينة طولكرم، حين نشبت مشكلة داخلية وتدخل عرفات مباشرة، وأكد ضرورة تسليم الحل لأبناء المنطقة أنفسهم، حيث كلف خريشة بحل المشكلة، فيما يقول خريشة: "إن هذا النهج كان علامة فارقة في إدارة الأزمات الداخلية".
ويشدد خريشة على أن غياب عرفات اليوم يُشعر الفلسطينيين بحجم الفراغ الذي تركه، قائلاً: "لو كان بيننا لما وصلنا إلى هذا الانقسام الدموي الذي مزّق المجتمع، وأبعدنا عن بعضنا وعن فلسطين"، مشيراً إلى أن عرفات يمتلك قدرة فريدة على احتواء الانقسامات".
ويتطرق إلى جانب آخر في شخصية عرفات، تمثل في دفاعه القوي عن الديمقراطية، وحرصه على وجود مجلس تشريعي منتخب، واحترامه لآراء معارضيه حتى في لحظات الصدام، مستذكراً خلافهم الشهير خلال بيان "الـ20" المتعلق بالفساد، حين لم يمسس عرفات الحصانة البرلمانية لأي نائب، رغم حدة الانتقادات، بل واستوعب المشادات السياسية بروح أبوية، في مشهد عالق بذاكرة خريشة حين انتهى جدل حاد بينهما بعناق ومصافحة.
ويشير خريشة إلى أنه عاصر التحول المؤسسي بين عهد الرئيس ياسر عرفات وعهد الرئيس محمود عباس، وكان شاهداً على انتقال السلطة السلمي الذي فاجأ الأصدقاء والخصوم، موضحاً أن عرفات أرسى الأسس التي مكّنت المؤسسات الفلسطينية من الصمود، عبر احترام القانون الأساسي رغم تعثره ومخالفته لبعض الاتفاقيات، لكنه ظل مرجعاً ملزماً للجميع.
ويلفت إلى أن عرفات أدرك لاحقاً أن اتفاق أوسلو لم يكن في صالح الشعب الفلسطيني، فكان ضمن الداعمين لانتفاضة الأقصى، وهو موقف تأكد لدى كل من عايشوا تلك المرحلة.
وبحسب خريشة، فإن الفلسطينيين اليوم أحوج ما يكونون إلى روح عرفات، في الوئام الداخلي، وفي حماية المؤسسات المنتخبة، وإعادة بناء الثقة بين أبناء الوطن، مؤكداً أن رحيل عرفات لم يُنهِ حضوره، بل جعل قيمه السياسية والإنسانية معياراً وطنياً يصعب تكراره.
الاهتمام بأدق التفاصيل والتواصل الدائم مع القوى
يستعيد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والأمين العام لجبهة التحرير الفلسطينية د. واصل أبو يوسف، محطات إنسانية ووطنية مفصلية من حياة الرئيس ياسر عرفات في الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاده، مؤكداً أن عرفات لم يكن قائداً سياسياً فحسب، بل رمزاً للوحدة الوطنية، والوفاء، والتمسك بالثوابت الفلسطينية، حتى في أصعب لحظات الحصار والمواجهة.
وبحسب أبو يوسف، فإن الرئيس عرفات كان "يهتم بأدق التفاصيل"، ويحافظ على تواصل دائم مع مختلف القوى الوطنية، مع إصرار واضح على حماية منظمة التحرير باعتبارها "الإطار الجامع والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني".
ويستعيد أبو يوسف واقعة مؤثرة خلال حصار مقر المقاطعة في رام الله، حين تلقى اتصالاً من عرفات عقب استشهاد الأمين العام السابق لجبهة التحرير الفلسطينية محمد عباس (أبو العباس) داخل سجن أمريكي في العراق عام 2003. يومها، بادر عرفات إلى مواساة أبو يوسف ورفاقه، وطلب منه الحضور للمقاطعة لترتيب تفاصيل العزاء، رغم ظروف الحصار المشدد.
ويوضح أبو يوسف أن عرفات كان شديد التأثر بفقدان أبو العباس، الذي عدّه من "الرافعات الأساسية للوحدة الوطنية والثوابت الفلسطينية".
ويؤكد أن الرئيس ياسر عرفات أصر على إقامة بيت عزاء رسمي لأبو العباس داخل المقاطعة رغم الحصار، وأن يكون شخصياً على رأس مستقبلي المعزين، في لفتة حملت دلالات إنسانية وسياسية كبيرة، كما حاول أبو عمار جاهداً نقل جثمان أبو العباس لدفنه في الأراضي الفلسطينية، لكن حكومة الاحتلال رفضت، ما أدى حينها إلى مواراته الثرى في مقبرة الشهداء بمخيم اليرموك في سوريا.
ويشير أبو يوسف إلى أن جبهة التحرير الفلسطينية وقفت دائماً إلى جانب عرفات في المحطات الحرجة، من الخروج من بيروت إلى تونس، وصولاً إلى الصدام السياسي مع سوريا، وحتى المشاركة الحاسمة في إنجاح انعقاد المجلس الوطني عام 1984، حين ساهم حضور الجبهة بضمان النصاب في "دورة الشرعية"، التي كانت لحظة حاسمة لتحصين القرار الوطني المستقل.
ويشدد أبو يوسف على أن عرفات أسس لمسار تحوّل فيه الشعب الفلسطيني من قضية إنسانية تُختزل في اللجوء، إلى قضية سياسية وطنية قائمة على الحقوق والثوابت: العودة، وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
ويؤكد أبو يوسف أن عرفات تمسك بوحدة القرار، ورفض أي تدخل خارجي في الشأن الفلسطيني، معتبراً أن القرار الوطني الفلسطيني "يُصاغ فقط داخل مؤسسات منظمة التحرير".
ويستعيد أبو يوسف أيضاً مقولات عرفات التاريخية، من "للقدس رايحين شهداء بالملايين"، إلى تأكيده أن "شبلًا أو زهرة سيرفع علم فلسطين على مآذن وكنائس القدس"، لافتاً إلى ثقته الراسخة بأن التضحيات ستقود حتمًا إلى الحرية والاستقلال.
ويشير إلى أن جواب عرفات الشهير عند خروجه من بيروت إلى أين سيذهب فأجاب "إلى فلسطين"، فلم يكن ذلك شعاراً، بل حقيقة تجسدت بعودة القيادة الفلسطينية إلى أرض الوطن، وبقائها متجذرة في مشروع الحرية مهما اشتدت التحديات.
حالة استثنائية على كل المستويات
في الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد "أبو عمار"، يصف الكاتب والشاعر د. المتوكل طه القائد الراحل بأنه حالة استثنائية على كل المستويات، قائلاً: "إن أبا عمّار كان مثالاً للتواضع في تعاطيه مع الصغير والكبير، واحتضانه لكل من يجده أمامه، وهو كان يشعر وكأنه أب لكل الشعب الفلسطيني، ما جعل صورته موجودة في كل البيوت".
ويؤكد طه أن هذه البساطة والقدرة على الجمع بين الناس جعلت عرفات رمزاً وطنياً، إذ وضع الناس فيه تطلعاتهم وأحلامهم، وارتبطت شخصيته بالقيم الجامعة، ما جعل رحيله شعوراً شخصياً لكل فلسطيني، حيث خسر كل واحد شيئاً من أحلامه وانتمائه.
ويشير إلى أن أبا عمّار امتاز بقدرته البديهية على الرد السريع في المواقف الصعبة، حيث أنه رجل جسور لا يخشى في الحق لومة لائم، قادر على مواجهة من يحاول التشويش على الحقيقة أو التلاعب بالوقائع، معيداً الأمور إلى نصابها بدقة وجرأة.
ويؤكد طه أن البساطة العميقة التي تميز بها أبو عمار، كانت جزءاً من عبقريته، المتأتية من عوامل متعددة، أبرزها كونه قائداً للشعب الفلسطيني، ساعياً لتحقيق حلم العودة وإقامة الدولة بعاصمتها القدس، إضافة إلى فتح أبوابه للجميع، ما جعله نموذجاً حقيقياً للقيادة الديمقراطية، قادراً على الاستماع للانتقادات ومراعاتها كوسيلة لإصلاح الخلل، لا كمساس بشخصه.
ويتناول طه العلاقة الرمزية التي ربطت عرفات بكل فئات الشعب الفلسطيني، حيث شعر الكبير في السن بأنه أخوه، والشاب بأن أبو عمّار أب له، والطفل أنه جده، والمرأة كخال أو عم أو أب، مؤكداً أن عرفات كان نقطة تقاطع مضيئة التقى فيها جميع أبناء الشعب الفلسطيني، من البسطاء والشهداء والجرحى والأسرى والساعين إلى العودة إلى أرضهم.
ويوضح طه أن غياب ياسر عرفات أسس مرحلة جديدة من العتمة للقضية الفلسطينية، إذ كان أبو عمّار بمثابة قبطان يقود سفينة الشعب نحو بر الأمان، متحدياً كل العوائق، وموفراً نموذجاً للقائد الذي يظل متمسكاً بثوابت شعبه وحلمه بالحرية والاستقلال، حتى دفع حياته ثمناً لذلك.
ويؤكد طه أن تجربة عرفات تركت درساً عملياً للأجيال القادمة، وهو ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، والالتزام بحقوق الشعب الفلسطيني، والسعي وراء حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، مع القدرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بنفس الجرأة والإبداع الذي ميز القائد الراحل.
ويشدد طه على أن إرث عرفات القيادي يشكل نموذجاً لكل قائد فلسطيني مستقبلي، يجمع بين البساطة والقدرة على الجمع بين الناس، والجرأة في الحق، والاستماع والتواصل، مع التمسك الثابت بالأهداف الوطنية، مؤكداً أن فقدان عرفات مثل فقدان البدر في الليالي المظلمة، لكن إرثه يظل مشعاً ومرجعاً لكل من يسعى لتحقيق حلم فلسطين الحرة.
المصدر:
القدس