د. أحمد رفيق عوض: عرفات لم يكن زعيم مرحلة فحسب بل شكّل بـ"جسده ورمزيته" أحد حدود تشكّل الدولة الفلسطينية
محمد هواش: كان حريصاً على وحدة المنظمة ضمن إطار وطني جامع يحمي تعددية المواقف لكنه يصون وحدة البوصلة
د. دلال عريقات: إحياء ذكراه يجب أن تؤكد الالتزامَين السياسي والوطني وتعيد الاعتبار لمرجعية الشعب ولمشروع الفعل الموحد
د. جمال حرفوش: في زمن تُغتال فيه الزيتونة ويُقتلع غصنها ندرك أن إرث ياسر عرفات لم يكن خطاباً بل معادلة وجود
د. رهام عودة: ذكراه تفرض مسؤولية ترميم مشروع وطني جامع قادر على مواجهة الاحتلال والتحديات التي تعصف بالقضية
داود كُتّاب: الانقسام غير مسبوق وبلغ ذروته والمرحلة تحتاج إلى قيادة تمتلك حضورًا وشرعية وطنية جامعة تشبه إرث الرئيس عرفات
د. قصي حامد: أبو عمار حالة وطنية جامعة استطاعت تحقيق التوازن وحماية القضية من الوقوع في فخ الانقسام وفقدان البوصلة
د. رائد الدبعي: استحضار عرفات اليوم ليس موجهاً للبكائيات أو الشعارات بل لإحياء مشروعه التحرري الذي بُني على أسس واضحة
تأتي الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد الرئيس ياسر عرفات "أبو عمار"، هذا العام بظروف استثنائية صعبة تواجهها القضية والشعب الفلسطيني، لتستعاد ذكرياته بما أسّسه من أدوات مواجهة لا تزال تشكّل العمود الفقري للصمود الفلسطيني، في وقتٍ تتصاعد فيه الحرب على غزة، ويتسارع فيه الاستيطان في الضفة، وتتعدد محاولات تفكيك المشروع الوطني.
ويرى كتاب ومحللون سياسيون ومختصون وأساتذة جامعات، في أحاديث منفصلة لـ"ے"، أن أبا عمار لم يكن قائد مرحلة عابرة، بل مهندس بنى مقومات الاشتباك السياسي والوطني، جامعاً بين البندقية والدبلوماسية، ومؤسساً لشرعية كفاحية حوّلت الفلسطيني من لاجئ بلا تمثيل، إلى شعب له كيانية سياسية معترف بها دولياً.
وبحسب الكتاب والمحللين والمختصين وأساتذة الجامعات، أرسى عرفات ثلاث ركائز للمواجهة: وحدة التمثيل الوطني عبر تثبيت منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، والحضور الدولي للقضية الذي بلغ ذروته في خطاب الأمم المتحدة عام 1974 عندما وضع فلسطين على طاولة العالم بندية سياسية لا إنسانية إغاثية، وهندسة الكفاح متعدد الأدوات الذي جمع المقاومة السياسية والميدانية والدبلوماسية في مسار واحد لا يلغي أحدها الآخر، وعلى هذه الأرضية أُعلن قيام دولة فلسطين عام 1988 تعبيراً عن انتقال النضال من الدفاع عن الهوية إلى صوغ مشروع دولة، فيما اليوم، تُستعاد ذكرى أبو عمار، ليبقى ما أسسه نموذجاً للتحرر القائم على الصمود، والتنظيم، والشرعية، والقدرة على مجابهة محاولات الطمس مهما تغيّرت أشكالها.
أبو عمار لم يكن زعيم مرحلة فحسب
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي د. أحمد رفيق عوض أن الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات لم يكن زعيم مرحلة فحسب، بل شكّل بـ"جسده ورمزيته" أحد حدود تشكّل الدولة الفلسطينية، مشيراً إلى أن استشهاده مثّل "منعطفاً يؤطّر مفهوم الدولة التي جرى التوافق عليها مطلع التسعينيات"، حتى وإن لم تتحقق فعلياً على الأرض.
ويوضح عوض أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، مدعومتين بقوى من الغرب الاستعماري، تراجعتا عن التفاهمات التاريخية، وتسعيان إلى "نزع الشرعية عن الفلسطينيين"، من خلال خطاب يُنكر نضجهم السياسي، ويشكك في أهليتهم لإقامة دولة، ويذهب أحياناً إلى حد التشكيك بوجودهم كشعب.
ورغم هذا التراجع، يشدد عوض على أن الحاجة لإقامة الدولة الفلسطينية بعد 21 عاماً من رحيل عرفات لم تضعف، بل "تحولت إلى حجر زاوية في التفكير الدولي والإقليمي والعربي، وفي صلب الوعي الجمعي الفلسطيني"، وأضحت شرطاً للاستقرار والأمن والسلام في المنطقة.
ويشير إلى أنه "لا يمكن لأي طرف القفز عن الدولة الفلسطينية"، حتى بعد السابع من أكتوبر، لافتاً إلى أن الفكرة رغم تغييبها على مستوى التطبيق، ما زالت حيّة وقيد السعي السياسي والدبلوماسي، لأنها "حقيقة تاريخية واستراتيجية لا يمكن طمسها".
دفع حياته من أجل الاستقلال والكرامة والوحدة
ويعتبر عوض أن عرفات دفع حياته ثمناً لهذه الرؤية، مقدّماً جسده من أجل الاستقلال والكرامة والوحدة، ومؤسّساً لرمزية الشهادة التي تلتصق اليوم باسمه كما تلتصق بكثير من شهداء الشعب الفلسطيني.
ويصف عوض عرفات بأنه "آخر رموز الجيل الثائر الذي صنع ثورة طويلة وعميقة الأثر"، موضحاً أنه قاد مشروعاً نضالياً تمكن من الاستمرار رغم محاولات التهميش والتفكيك والتوظيف السياسي.
ويرى عوض أن عرفات "أعاد بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية بأبعادها الجغرافية والثقافية"، وكان قادراً على النجاة بثورته وشعبه في أضيق الهوامش السياسية والجغرافية.
ويؤكد أن شخصية عرفات "لا تُختزل في التوافق أو الاختلاف حولها"، لأنها تجاوزت الجدل السياسي إلى مقام الرمز الوطني الجامع: زعيماً، مؤسِساً، مقاتلاً، وملهِماً، ترك بصمة لا تمحى في التاريخ الفلسطيني والعربي والإقليمي.
ويشدد عوض على أن ذكرى أبو عمار ستظل حاضرة في الوعي الجمعي الفلسطيني "ما دام هذا الشعب موجوداً"، بوصفه أيقونة الاستقلال، وأحد أكثر القادة حضوراً في الذاكرة الوطنية الجامعة.
مسار النضال الوطني مستمر
يوضح الكاتب والمحلل السياسي محمد هواش أن الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد الرئيس ياسر عرفات تؤكد أن مسار النضال الوطني الفلسطيني "مستمر ولن ينكسر مهما اشتدت المصاعب"، مشدداً على أن المشروع الذي أسسه عرفات ما زال حيّاً في وجدان الشعب الفلسطيني بشبابه ونسائه ورجاله، عبر التمسك الراسخ بحق تقرير المصير وبإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
ويؤكد أن فكرة التخلي عن الحقوق الوطنية، كما تطرحها إسرائيل وحلفاؤها، "سقطت أمام صمود الفلسطينيين وتمسكهم بالأرض"، مشيراً إلى أن إرث عرفات رسخ أن الفلسطينيين شعب يمتلك شرعية قانونية واعترافاً دولياً آمناً بحقوقه.
ويبيّن هواش أن السلطة الفلسطينية، "بغضّ النظر عن الأفراد"، لا تزال ملتزمة بأسس المشروع الوطني الذي وضعه عرفات، مؤكداً أن ما يجري اليوم "ليس معارك تفصيلية، بل صراع على فكرة وجود الشعب نفسه في مواجهة المشروع الصهيوني الذي قام على استبعاد الفلسطينيين من أرضهم".
ويشدد هواش على أن محاولات تهجير الفلسطينيين عنوة، خاصة من قطاع غزة، "انهارت أمام جدار الصمود"، وأن هناك اليوم إجماعًا دوليًا على رفض سياسات التهجير القسري وإعادة هندسة الواقع الديموغرافي.
ويشير هواش إلى أن أحد أهم عناصر نجاح عرفات تمثّل في "صناعة أدوات الاشتباك السياسي بشكل تراكمي"، حيث كان يؤسس لكل معركة -دبلوماسية أو اقتصادية أو اجتماعية- مسرحها الخاص، ويجمع لها اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين، منطلقًا دائمًا من تعبئة الشعب الفلسطيني ذاته وتهيئته لخوض المواجهة، وهو ما يميز أسلوبه عن آليات القيادة الحالية رغم الاشتراك في الثوابت الكبرى بينه وبين الرئيس محمود عباس "أبو مازن".
غيابه كشف ثغرة كبرى في المشهد الفلسطيني
ويشدد هواش على أن عرفات كان حريصاً على وحدة منظمة التحرير ضمن إطار وطني جامع، يحمي تعددية المواقف لكنه يصون وحدة البوصلة، كما أنه "كان يمتلك القدرة على احتواء الفصائل حتى تلك التي خارج منظمة التحرير كحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وتوجيه مساراتها المختلفة لتصب في مجرى الفعل الوطني"، مشيراً إلى أن عرفات كان قادراً على إدارة التباين معهما دون الانزلاق نحو الانقسام.
ويرى هواش أن غياب عرفات كشف ثغرة كبرى في المشهد الفلسطيني، قائلاً: "ربما لو كان حياً، لما وصلت الأمور إلى انقلاب 2007 في غزة، ولوجد صيغة وطنية تحول دون الانقسام".
ويؤكد هواش أن الشعب اليوم لا يستذكر عرفات لمجرد الحنين، "بل لاستعادة منهج الوحدة، وإعادة بناء أدوات الاشتباك، والتأكيد أن فلسطين باقية، لأن شعبها باقٍ".
ذكرى استشهاده استعادة للبوصلة الوطنية
تشدد أستاذة الدبلوماسية وحل الصراعات في الجامعة العربية الأمريكية د.دلال عريقات على أن ذكرى استشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات "أبو عمار" تأتي هذا العام في لحظة هي "الأقسى والأوضح" في تاريخ الصراع، مؤكدة أن ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم يكشف عمق المشروع المستمر القائم على الإبادة والاقتلاع والاستيطان، وهو المشروع ذاته الذي حذّر منه أبو عمار مراراً.
وتصف عريقات ذكرى استشهاد أبو عمار بأنها "ليست محطة رمزية، بل استعادة للبوصلة الوطنية"، في وقتٍ تتصاعد فيه محاولات طمس الرواية الفلسطينية، وتقويض المؤسسات الوطنية، وتفكيك الهوية الجمعية، ومحاصرة حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
وتشدد عريقات على أن أبو عمار لم يكن يخوض خطاباً سياسياً بقدر ما كان يُقرأ مبكراً مسار مخطط ممتد على الأرض، مشيرة إلى أنه دفع حياته ثمناً لتمسكه بالقناعات الجوهرية، وفي مقدمتها أن "فلسطين ليست ملفاً للتفاوض ولا قضية إغاثية إنسانية، بل قضية شعب صاحب سيادة وحق على أرضه".
وتشدد عريقات على أن إحياء ذكرى أبو عمار يجب أن يتجاوز الطقوس الاحتفالية إلى حالة من الالتزام السياسي والوطني، تعيد الاعتبار إلى مرجعية الشعب ولمشروع الفعل الفلسطيني الموحد، لا إدارة الصراع كرد فعل.
وتؤكد عريقات أن "الوحدة الوطنية ليست خياراً أخلاقياً بل ضرورة وجودية" في مواجهة مشاريع تصفية القضية وإعادة فرض أنماط السيطرة على القرار الفلسطيني.
وتشدد عريقات على أن النهج الذي أراده عرفات يقوم على فكرة مركزية مفادها أن فلسطين أكبر من أي خلاف أو فصيل، وأن "وحدة القرار الوطني هي الشرط الأول لأي انتصار".
وتلفت إلى ضرورة استعادة "روح البيت الواحد" التي أسّسها أبو عمار، وبناء المشروع الوطني على أسس الشراكة، والمساءلة، وتجديد الشرعية عبر الوسائل الديمقراطية، وبمرجعية الشعب الفلسطيني.
وتؤكد عريقات أهمية إعادة تموضع منظمة التحرير كإطار جامع للكل الفلسطيني، يجسّد الغطاء الوطني الموحد للنضال السياسي، ويحافظ على الثوابت والحقوق، في وقت يتطلب أعلى درجات الصمود، والالتفاف حول مشروع وطني مقاوم للتصفية، وقادر على فرض حضوره سياسياً ودولياً.
جرح مفتوح على اتساع الأرض والسماء
يوضح أستاذ مناهج البحث العلمي والدراسات السياسية في جامعة المركز الأكاديمي للأبحاث في البرازيل د.جمال حرفوش أن ذكرى استشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات "أبو عمار" تأتي هذا العام و"الجرح الفلسطيني مفتوح على اتساع الأرض والسماء، في ظل فصلٍ من أحلك فصول القضية"، حيث تتقاطع الذكرى مع حرب الإبادة والاستيطان وتآكل المشروع الوطني، ما يجعل استحضار أبو عمار استحضاراً لزمنٍ "لم يعرف المساومة على الثوابت".
ويشير إلى أن رمزية أبو عمار اليوم لا تكمن في الحنين إلى شخصية تاريخية، بل في استعادة "منهج البقاء السياسي والوطني والحقوقي"، الذي تجسّد في مواقفه أمام العالم، وفي عبارته الخالدة أمام الأمم المتحدة: "جئتكم أحمل غصن الزيتون بيد، وبندقية الثائر باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".
ويقول حرفوش:"في زمن تُغتال فيه الزيتونة ويُقتلع غصنها، ندرك أن إرث عرفات لم يكن خطابًا، بل معادلة وجود".
رسّخ مفهوم "الشرعية الثورية"
ويؤكد أن الرئيس الراحل ياسر عرفات رسّخ مفهوم "الشرعية الثورية" التي تسبق الشرعية الدولية، وجعل من الهوية الفلسطينية كيانًا قانونيًا وسياسيًا قائمًا قبل الاعتراف به، مؤسسًا لمعنى الشعب الذي يسبق الدولة والاعتراف معًا.
ويشدد على أن رمزية أبو عمار تتجاوز حدود القيادة السياسية إلى كونه "مُعلّم هوية، ومؤسس ضمير، وقائد وحدة قبل أن يكون رئيس دولة"، مشدداً على أن أبو عمار لم يتعامل مع الكوفية كشعار، بل كراية نضال، ومع الكلمة كسلاح قانوني يوازي البندقية.
ويتوقف حرفوش عند خطاب الرئيس الشهيد ياسر عرفات في سياق الانقسام الداخلي، قائلاً: "كان يرى أن الاختلاف لا يجوز أن يمسّ قدسية الدم الفلسطيني، وأن الانقسام إن لم يُدار بالحكمة سيُدار بالضياع".
ويشدد حرفوش على أن إرث أبو عمار يُلزم الفلسطينيين اليوم بالعودة إلى "وحدة تُبنى بالقانون لا بالقوة، وبالتوافق لا بالغلبة، وتجمع بين البندقية التي تحمي والقلم الذي يبني".
ويشير حرفوش إلى أن استذكار أبو عمار ليس فعلاً عاطفيًا، بل "واجب وطني وتربوي وقانوني"، ودعوة لتجديد ميثاق الوفاء بمنهجه القائم على وحدة العلم، وعدالة القضية، ووحدة المصير، وصولاً إلى رفع العلم الفلسطيني فوق أسوار القدس كما وعد قمر الشهداء القائد الراحل أبو عمار.
أصعب المراحل السياسية فلسطينيّاً
تؤكد الكاتبة والمحللة السياسية د. رهام عودة، أن الظروف التي يمر بها الشعب الفلسطيني حالياً تمثل أصعب المراحل السياسية في تاريخه المعاصر، مشيرة إلى أن الحرب على غزة وما ترتب عليها من استشهاد أكثر من 60 ألف فلسطيني وفلسطينية، إلى جانب توسع الاعتداءات الاستيطانية في الضفة الغربية والحصار المالي المفروض على السلطة، قد عمّق أزمات المجتمع والمؤسسات الوطنية.
وتشير إلى أن موازين القوة داخل المشهد الفلسطيني تدهورت منذ استشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات "أبو عمار"، ما أضعف القدرة على التنسيق الوطني وفسح المجال أمام تفكك مؤسسات الحكم والاقتصاد.
وتشدد عودة على أن ذلك يستدعي "قيادة وطنية جامعة" تستلهم تجربة وعبر أبو عمار لتوحيد الجهود الفلسطينية نحو إنهاء الاحتلال وبناء مؤسسات دولة مستقلة على حدود 1967.
وتستعرض إسهامات أبو عمار في توحيد الصف الفلسطيني على المستوى الداخلي وإبراز القضية الفلسطينية دولياً، مشددة على أنه كان رمزاً وطنياً وشخصية حظيت بقبول واسع في الأوساط الفلسطينية والعربية والدولية.
وتشير عودة إلى أن رفع الكوفية أصبح علامة مميزة للنضال الفلسطيني بفضل دور أبو عمار، مؤكدة أن ذكراه تفرض على الفاعلين السياسيين مسؤولية ترميم مشروع وطني جامع قادر على مواجهة الاحتلال، والتحديات التي تعيشها القضية الفلسطينية برمتها.
وتلفت إلى أن تعميق الانقسام، واستمرار الحصار المالي على السلطة، والهجمات الاستيطانية المتصاعدة، كلها عوامل تقوّض قدرة المؤسسات على الأداء، وتزيد من هشاشة المجتمع، داعية إلى برنامج عملي لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتعزيز الوحدة الوطنية كشرط أساسي لأي مسار سياسي يهدف إلى تحقيق الاستقلال.
وتشدد عودة على أن الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد أبو عمار ليست مناسبة للحنين فحسب، بل تنبيهٌ واضح إلى أن التحديات الراهنة تتطلب موقفاً قيادياً متسقاً، ورؤية تاريخية جامعة قادرة على استعادة اللحظة الوطنية وتحويلها إلى مشروع سياسي فعّال.
استمرار الانقسام يعمّق الأزمة الوطنية
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي داود كُتّاب أن مرور ذكرى استشهاد الرئيس ياسر عرفات "أبو عمار" هذا العام يأتي في ظل "انقسام فلسطيني حاد وغير مسبوق منذ أوائل القرن الماضي"، محذرًا من أن استمرار الانقسام يعمّق الأزمة الوطنية ويمنع بناء استراتيجية موحّدة، حتى في ظل حرب الإبادة المتواصلة على الشعب الفلسطيني.
ويوضح كُتّاب أن أخطر ما يعاني منه المشهد الراهن هو فشل الفصائل الكبرى في تحويل اللحظة الوطنية الجامعة إلى نقطة التقاء، بسبب "التعنّت والتمسك بالرأي الواحد، وتغييب المصلحة الوطنية العليا عن حسابات القرار السياسي"، ما أثّر على إمكانية صياغة مشروع جامع لمواجهة التحديات المصيرية.
ويشدد على أن الشعب الفلسطيني اليوم بحاجة إلى قيادة تمتلك حضورًا وشرعية وطنية جامعة تشبه إرث الرئيس عرفات.
ويلفت كُتَّاب إلى أن الأنظار تتجه نحو القادة أصحاب الثقل الوطني أمثال الأسير مروان البرغوثي، القادر على توحيد الطاقات السياسية والشعبية، وتمهيد الطريق نحو حق تقرير المصير وإنجاز مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.
جرس إنذار بضرورة إعادة بناء المشروع الوطني
يؤكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس المفتوحة د. قصي حامد أن ذكرى استشهاد الرئيس ياسر عرفات "أبو عمار" تأتي هذا العام في لحظة مفصلية، تتزامن مع "غياب الرمز وتجذّر الانقسام الوطني"، وفي ظل أخطر التحولات التي تعصف بالقضية الفلسطينية، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، حيث تتقاطع الذكرى مع حرب الإبادة، وتفكك البنية الوطنية، والتغوّل غير المسبوق للاستيطان.
ويوضح حامد أن استحضار هذه الذكرى لا يحمل بعداً تاريخياً فقط، بل يمثل "جرس إنذار" بضرورة إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة تشكيل قيادة وطنية جامعة قادرة على مواجهة الضربات المتلاحقة التي تستهدف القضية الفلسطينية وتماسكها السياسي.
ويؤكد حامد أن أبو عمار لم يكن مجرد قائد ورئيس فقط، بل "حالة وطنية جامعة" استطاعت الموازنة بين السياسة والكفاح، وبين الحلم والواقع، وبين الوحدة والتنوع السياسي، ما مكّنه من حماية القضية من الوقوع في فخ الانقسام وفقدان البوصلة.
ويبيّن أن غياب عرفات كشف حجم الفراغ في بنية القيادة، ليس على مستوى القرار، بل في مستوى الرمز السياسي القادر على مخاطبة الداخل والخارج بلغة فلسطينية موحدة.
ويشير حامد إلى أن السؤال الأكبر الذي تعيد الذكرى طرحه يتمحور حول "ماهية المشروع الوطني وبوصلته"، وإعادة الاعتبار للوطن كقضية جامعة لا كسلطة متنازع عليها.
ويلفت حامد إلى أن الشهيد ياسر عرفات لم يكن معصوماً عن الخطأ، وظل رمزاً وطنياً لم تُفلح أي شخصية لاحقة في ملء غيابه، بما يفرض ضرورة "إنتاج قيادة وطنية جديدة" قادرة على توحيد الشعب ومؤسساته، وإدارة مشروع التحرر بدبلوماسية وحكمة ومرونة، دون التفريط بالثوابت.
ويؤكد أن الوفاء لأبو عمار لا يكون باستذكاره الوجداني فقط، بل بالفعل السياسي وإحياء خطابه الذي لم يختزل الوطن بالجغرافيا، ولم يحصره في فصيل، بل جعله جامعاً لفلسطين بكل ثوابتها من القدس إلى الأسرى والجرحى والشهداء.
ويرى حامد أن استعادة بوصلة عرفات تعني اليوم "إعادة توجيه النضال نحو هدفه الأصلي: الحرية والتحرر من الاحتلال وبناء وحدة وطنية حقيقية.
تجاوز حدود الاستعادة الرمزية
يؤكد الناطق الرسمي باسم جامعة النجاح الوطنية وأستاذ العلوم السياسية د.رائد الدبعي، أن إحياء الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد الرئيس ياسر عرفات "أبو عمار" يتجاوز حدود الاستعادة الرمزية، ليشكّل فعلاً سياسياً ووطنياً ملحّاً في ظل ما وصفه بـ"إعادة إنتاج المشهد ذاته الذي فجّر من أجله عرفات الثورة الفلسطينية"، والمتمثل اليوم في حرب الإبادة على قطاع غزة، وتصاعد الاستيطان في الضفة الغربية، والتهويد في القدس، ومحاولات ترسيخ معادلة "أرض أكثر وعرب أقل".
ويشير الدبعي إلى أن محاولات الاحتلال الراهنة تهدف إلى "نفي وجود الشعب الفلسطيني واستبداله بكيانات مبعثرة من اللاجئين"، إلى جانب "شطب الهوية الوطنية الفلسطينية وتحويل القضية إلى حزمة من التسهيلات الاقتصادية والحقوق المعيشية، مقابل التنازل عن جوهر الحقوق السياسية والسيادية".
ويشدد على أن هذا المسار يعيد إنتاج الجوهر الذي قاومه عرفات طوال حياته، حين رفض معادلة "السلام مقابل التسهيلات"، وتمسك بأن "السيادة الوطنية أهم من أي منافع اقتصادية أو حلول أمنية مؤقتة".
ويوضح الدبعي أن استحضار عرفات اليوم ليس موجهاً للبكائيات أو الشعارات، بل لإحياء مشروعه التحرري الذي بُني على أسس واضحة، أبرزها التمسك بالثوابت الوطنية، والدفاع عن الهوية، ورفض المشاريع التي تسعى لتفكيك المجتمع الفلسطيني أو تحويل قضيته إلى ملف إنساني منزوع السياسة.
ويؤكد الدبعي أن عرفات لم يكن رمزية عابرة، بل "كان قائداً استُشهد لأنه كان سوراً منيعاً أمام التفريط بالثوابت، وحامياً للوحدة الوطنية، ومؤسساً للمؤسسات الفلسطينية خلال الثورة وبعدها".
ويرى الدبعي أن من أهم ما يجب استعادته اليوم من إرث عرفات هو مفهوم الوحدة الوطنية بوصفها "شرطاً وجودياً" لا خياراً تكتيكياً، مشدداً على أن عرفات لم ينظر إليها بعين العاطفة السياسية، بل كضرورة استراتيجية في مواجهة "النظام الاستعماري الإحلالي".
ويستشهد الدبعي بمقولة عرفات "دع ألف زهرة تتفتح في بستان الوطن" ليؤكد أن عرفات آمن بتعددية المكونات الفلسطينية، واشتغل على نسج العلاقات بينها، في إطار تناقض رئيسي واحد يتمثل بالاحتلال، لا بالانقسامات الداخلية.
ويشير إلى أن عرفات أسّس لمبدأ "الشراكة لا الغلبة"، وأنه حسم مبكراً بأن "لا شرعية للسلاح خارج إطار المقاومة ضد الاحتلال، ولا شرعية لرواية تهاجم الفلسطيني"، وبنى نموذجاً تمثيلياً موحداً للشعب الفلسطيني عبر منظمة التحرير، باعتبارها الإطار الشرعي الجامع.
ويدعو الدبعي إلى ترجمة ذكرى عرفات إلى فعل سياسي عملي، مقترحاً عقد مؤتمر وطني شامل لتقييم المرحلة السابقة، واستخلاص العبر، وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أساس الإرث الذي دفع عرفات حياته ثمناً له، مؤكداً أن إحياء ذكراه يجب أن يتحول من طقس سنوي إلى "أداة تحرر واستنهاض وطني تعيد للقضية مسارها التحرري".
المصدر:
القدس