مارست الحضارات القديمة أشكالاً عديدة من الصوم، تهدف كلها إلى السمو بالإنسان عن "العالم المادي الرخيص في الدنيا"، إلى الدرجات الرفيعة في "عالم الرؤى والأرواح المقدسة".
فقد اعتقد اليونانيون القدامى أن الصوم يساعدهم على تلقي "الوحي" من الآلهة. وفي أمريكا الجنوبية كانت الشعوب القديمة تصوم تكفيراً للذنوب، أو طلباً للحاجات. أما السكان الأصليون في سيبيريا فكانوا يعتقدون أن الصوم يمكّنهم من التواصل مع الأرواح والاطلاع على الغيب.
وارتبط الصوم عند الفلاسفة بالانضباط والتحكم في النفس وكبح الشهوات والنزوات. فهو عندهم دليل على قدرة الإنسان على الارتقاء بمثله وقيمه عن باقي الكائنات. فهو الكائن الوحيد على وجه الأرض، الذي بمقدوره الامتناع طوعاً عن الاستجابة لغرائزه.
فالإنسان عندما يتوقف عن الأكل والشرب وعن تلبية باقي شهوات النفس والبدن ينفصل عن الماديات، وينشغل بالعقل والروح، فيرتقي إلى العوالم الروحانية المثالية. ويتمكن بذلك من السيطرة على نفسه وكبح جماحها بدل أن تسيطر هي عليه.
ويُروى عن العالم الرياضي والفيلسوف فيثاغورس (580 ق.م- 500 ق.م) أنه كان يصوم 40 يوماً من أجل التركيز وتصفية ذهنه، وشحذ همته. وكان يوصي تلاميذه أيضاً بالصوم، قبل الالتحاق بمدرسته، للتأكد من جاهزيتهم الروحانية والفكرية، لتلقي العلوم.
وكان مؤسس الفلسفة الغربية سقراط (470 ق.م- 399 ق.م) من الذين أشادوا بالصوم، وعددوا منافعه النفسية والبدنية. وذكر أن الصوم يساعد على الانضباط والتحكم في النفس، وهما صفتان أساسيتان في طريق البحث عن الحكمة وتحصيل المعرفة.
ويعرف عن تلميذه أفلاطون (428 ق.م- 348 ق.م) مؤسس الأكاديمية، أول مدرسة للتعليم العالي في الغرب، بنزعة الاعتدال في كل أمور الدنيا، بما في ذلك المأكل والمشرب. فكان يذم الإسراف في كل شيء. والصوم عنده، يعلم الإنسان كيف يستغني عن جميع الملذات المادية.
واشتهر الزعيم الهندي، ماهاتما غاندي، بالنضال السلمي ونبذ العنف. وخاض معاركه ضد التمييز في جنوب أفريقيا، ومن أجل الحقوق في الهند تحت الاحتلال البريطاني، دون استعمال القوة المادية. وكان يصوم كلما انتهكت مبادىء فلسفة ساتياغراها، المنافية للعنف.
وأعلن غاندي الصيام يوم 13 يناير كانون الثاني 1948 بعد أعمال العنف الدامية، التي حدثت بين المسلمين والهندوس، "من أجل إحلال السلام الدائم في قلوب أبناء الطائفتين". وصام في 1947 بعد الاقتتال الذي أعقب انفصال باكستان عن الهند.
الصوم لغةً هو الإمساك عن الشيء. وفي سياق الحديث عن شهر رمضان، ففي الإسلام، الصوم يعني ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقد أشار القرآن إلى هذه الشعيرة بكلمة "الصيام"، في سورة البقرة بقوله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
ولم ترد كلمة "الصوم" إلا مرة واحدة في القرآن، للدلالة على الإمساك عن الكلام، وليس عن الأكل والشرب. وجاء ذلك في سورة مريم، بقوله: "فكلي واشربي وقري عينا، فإما ترين من البشر أحدا، فقولي إني نذرت للرحمن صوما، فلن أكلم اليوم إنسيا".
وبناء على هذا، هناك من فهم أن لفظ الصيام يشير إلى الشعيرة، التي نص عليها القرآن، بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، في شهر رمضان أو غيره. أما لفظ الصوم فهو خاص بالإمساك عن الكلام فقط، كما ورد في الآية.
والحقيقة أن لفظ "الصوم" ورد في الحديث النبوي، في روايات عديدة، للدلالة على صيام رمضان وغيره، كما ورد لفظ الصيام أيضا بالدلالة نفسها. فقد جاء في حديث النبي: "لا تَقدَّموا صومَ رمضانَ بيومٍ ولا يومينِ إلَّا أن يكونَ صومٌ يصومُهُ رجلٌ فليصُمْ ذلك الصَّومَ".
فالصوم هو الصيام ذاته، ولا فرق بين اللفظين، سواء في المعنى اللغوي أوفي الدلالة على شعيرة الإمساك عن الطعام والشراب وجميع المفطرات، في شهر رمضان، أو في غيره من شهور السنة. وربما كان لفظ "الصوم" في القرآن هو المعنى العام، وورد لفظ "الصيام" للتخصيص.
ما الحكمة من الصيام؟
جاء في القرآن "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". ومعناه أن الصيام يكون من أجل حصول التقوى. فهو ينزه الإنسان عن الذنوب ويرفعه عن المعاصي. والصائم يمسك نفسه عن شهوات الدنيا وملذاتها، ويربط قلبه بعالم الروحانيات.
ومن فوائد الصيام، التي تتردد على ألسنة الدعاة في الخطب ودروس الوعظ أن الصائم عندما تكون معدته خاوية يشعر بجوع الفقير، فيرأف به ويجود عليه. ولكن، إذا كانت هذه هي الحكمة من الصيام، فلماذا يصوم الفقير، وهو جائع لا يجد لقمة يسد بها رمقه؟
يجيب على هذا السؤال المفكر والعالم اللغوي، محمود شاكر، في مقال نشره في الخمسينات من القرن الماضي، بعنوان "عبادة الأحرار". وينفي فيه الكاتب أن تكون الحكمة من الصيام مجرد الاعتبار من الجوع، وخواء المعدة، بالعطف على الفقراء والجود عليهم.
ويقول "إن الصيام هو عتق الإنسانية من كل رق، من رق الحياة ومطالبها، ومن رق الأبدان وحاجاتها، في مآكلها ومشاربها، من رق النفس وشهواتها، ومن رق العقول ونوازعها، ومن رق المخاوف حاضرها وغائبها، حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود وحرية الإرادة".
فالحكمة من الصيام، في تقديره، هي تحرير الإنسان من العبودية. ويستدل على ذلك بأن الحكم في القرآن على من قتل نفسا خطأ هو كما جاء في سورة النساء، "تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله". وإذا لم يجد رقبة يعتقها من الرق "فصيام شهرين متتابعين توبة من الله".
فقد عادل القرآن بين الصيام وعتق الإنسان من الرق، في القيمة والوظيفة. فإذا لم يجد المخطئ نفسا بشرية يحررها من الاستعباد، كان عليه أن يحرر نفسه من عبودية الحياة المادية، بما فيها من ضرورات البدن، ومن شهوات النفس.
فلا يمكن أن تكون الحكمة من الصيام في الأمعاء الخاوية وحدها، وفي مجرد الشعور بألم الجوع للتعاطف مع الفقراء. وهو ما يعبر عنه غاندي أيضا في قوله "إن الصيام الجسدي، ما لم يصاحبه صيام عقلي، فهو نفاق وستكون عاقبته كارثة".
وإلى جانب تصفية الذهن والتركيز من أجل تحصيل الحكمة والعلوم، وجد اليونانيون القدامى في الصوم وسيلة لتحضير الأبدان والاعتناء بها وإعدادها. فكان أبطال الألعاب الأولمبية يصومون في تدريباتهم استعدادا للمنافسات، من أجل تحسين أدائهم، وتطوير مهاراتهم، في مختلف الرياضات.
وكان الطبيب الأكبر أبقراط (460 ق م- 375 ق م) مؤسس أول مدرسة طبية في الغرب، وصاحب العهد المعروف باسمه، يصف الصوم للمرضى، الذين يشتكون من أعراض معينة. وذلك لاعتقاده بأن الصوم وسيلة طبيعية تساعد في تحسن صحتهم وشفائهم.
وأصل هذا الاعتقاد أن الأطباء لاحظوا أن أغلب مرضاهم يفقدون الشهية أثناء المرض. ولذلك ارتأوا أن إعطاءهم الطعام في تلك الظروف قد يفاقم علتهم، أو يعطل شفاءهم. وهم ما جعلهم يوصون بالصوم لتخليص الجسم من أسباب السقم.
ويرى الأطباء والباحثون أن "الصوم" يفيد الحيوانات في الشفاء والتعافي أيضاً. فقد لاحظوا أن الحيوانات تعاف طعامها عندما تكون مريضة أو جريحة، فلا تأكل منه، مثلما اعتادت وهي سليمة. فكانما أجسامها تصوم بالغريزة.
وفي الإسلام، يجمل حديث النبي معنى "الحمية الغذائية" كما تعرف في المصطلحات الحديثة، بقوله: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه. بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت على الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس".
فالإفراط في الأكل مذموم عند الأطباء والحكماء في مختلف الحضارات والعصور. وارتبطت التخمة قديما وحديثا بالكثير من العلل والأسقام. ولذلك وصف الحكيم أبقراط الصوم لشفاء مرضاه وتعافيهم. ويقول نبي الإسلام أيضا في حديثه "صوموا تصحوا".
وكان الحارث بن كلدة يعرف بأنه طبيب العرب الأعظم. فقد تعلم الطب وأجاده، ومارسه في الجاهلية والإسلام. وكان ذا علم غزير ومعرفة واسعة في شتى المجالات. ومن مقولاته الذهبية في الطب: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء".
وسأله الملك كسرى أنو شيروان (531 م- 579م) ما الداء الدوي؟، فأجاب الحارث: "إدخال الطعام على الطعام هو الذي يفني البرية، ويهلك السباع في جوف البرية". وسأله، ما الجمرة التي تصطلم منها الأدواء؟ فقال: "التخمة، إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت".
وتجاوز الصوم مجال العقائد والتقاليد والحكمة الإنسانية عبر العصور. وتناولته المختبرات والبحوث العلمية الحديثة بالدراسة والتصنيف. فتبناه الأطباء الممارسون وسيلة لعلاج عدد من الأمراض والوقاية منها، منذ القرن الثامن عشر.
وكتب فريديريك هوفمان، الطبيب المقرب من ملك بروسيا، في رسائله العلمية، مؤكداً أن "تخفيف الأكل، والصوم قد يكون لهما مفعول قوي في علاج بعض الأمراض الخطيرة"، من بينها السكتة الدماغية، والدوخة، والنقرس، وقرحة المعدة، وتضخم الغدة الدرقية، وحتى الزهري.
وفي عام 1830 عالج الطبيب الأمريكي، إسحاق جينيغز، طفلة صغيرة مصابة بالحمى النمشية "بالامتناع عن الطعام"، والراحة. وروج للعلاج "بالصوم" بعده الطبيب، جون تيلدون، ونشره في كليات الطب الأمريكية، في القرن العشرين.
وتوسع الاهتمام بالصوم وبمنافعه العلاجية والوقائية، فأصبح خبراء التغذية والباحثون في الصحة يوصون به لتحسين نوعية الحياة، وتحقيق التوازن النفسي والبدني. فهو يريح المعدة، ويساعد في إزالة السموم وفي تجديد نشاط الجسم.
وأنشأ خبير علم الأحياء الكندي، جون روكان، في 1977 أول مركز للعلاج بالصوم. وكان يمارس الصوم العلاجي طوال حياته. وكان يعتقد، على الرغم من أنه ليس طبيبا، أن "جسم الإنسان يعرف نفسه، وهو قادر على علاج نفسه".
وفي الولايات المتحدة، يقدم معهد أبقراط للرعاية الصحية برامج علاجية ووقائية، وأخرى لتحسين نوعية الحياة تتضمن "الصوم المتقطع". وهو أسلوب طبيعي، يوصي به خبراء التغذية ويؤكدون على فعاليته. ولكن استشارة الطبيب أو الخبير الصحي ضرورية.
ويشرح الطبيب، يومي إيشيارا، مؤسس مركز الصوم في اليابان، أهمية أن تستريح المعدة، فيقول: "الإنسان العصري يأكل أكثر مما يستطيع الجسم هضمه وامتصاصه، والتخلص منه. وهو ما يؤدي إلى عسر في دوران الدم، ويتسبب في العديد من الأمراض".
ويأكل الواحد منا 500 كيلوغرام من الطعام في العام. وإذا بلغت 40 سنة من العمر فإنك تكون قد استهلكت 20 طناً في بطنك. ويرى الدكتور إيشيارا، الذي يتناول وجبة صلبة واحدة في اليوم، أن "الصيام يساعد في التخلص من الفضلات والسموم، ومن الوزن الزائد".
والوجبة الصلبة هي الطعام الذي تضطر المعدة إلى تكسيره لهضمه. وهي أي طعام ما عدا الحساء، أو المرطبات، أو المشروبات، وغيرها مما يمتصه الجسم دون الحاجة إلى تكسير في المعدة.
ويمارس 4 ملايين شخص في ألمانيا الصوم في مراكز متخصصة أو عيادات طبية. ولكن الصوم ليس علاجا طبيا، وليس هناك أي دليل علمي على أنه يشفي من أي مرض. بل هو أسلوب حياة ونظام تغذية، يساعد في العناية بالجسم، وفي تحسين الصحة العامة، النفسية والبدنية.
بما أن صيام المسلمين يشمل الامتناع عن الطعام وحتى الماء، فهل له من مخاطر؟ جاء في القرآن من سورة البقرة: "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر". وفي ذلك إعفاء مؤقت لمن يواجه مشقة عارضة. والإعفاء دائم لمن لا يتحمل جسمه الصيام مطلقا، لعلة من العلل.
وينبّه الأطباء إلى مخاطر الصوم على المصابين ببعض الأمراض المزمنة. ويقول البروفيسور، أزهر فاروقي، من هيئة الصحة العامة في بريطانيا: "على المصابين بالسكري أن ينتقوا بعناية طعامهم وشرابهم، خلال رمضان، وأن يراقبوا مستويات السكر لديهم".
ويضيف: "هناك مخاطر بانخفاض كبير في مستوى السكر خلال أو بعد الصيام، لدى المصابين بالسكري، وهو ما يجعل حياتهم في خطر. وإذا حدث ذلك الهبوط لديك، فعليك أن تفطر، وتتناول دواء هبوط السكر المعتاد".
وينصح بيتر شوريك، المدير الفرعي في جمعية مرض السكري في بريطانيا، المصابين باستشارة الطبيب قبل اتخاذ قرارهم بالصيام. ويقول، على موقع هيئة الصحة العامة: "الصيام أو عدم الصيام اختيار شخصي. أما استشارة المختصين فأمر ضروري لتصوم في أمان".