آخر الأخبار

اللعنة أم الكرامة؟.. دماغ محفوظ في جمجمة عاشت قبل اختراع الكتابة!

شارك

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1982، حولت أعمال بناء روتينية بركة في مستنقع ويندوفير بفلوريدا إلى واحد من أكثر الاكتشافات الأثرية إذهالا في التاريخ الأمريكي.

كان ستيف فانديرجاغت يقود حفارة لتطهير بركة تمهد لطريق في حي جديد يقع في منطقة تقع تقريبا في منتصف المسافة بين عالم ديزني السحري ومنصة إطلاق كيب كانافيرال. لم يكن شيء في ذلك اليوم العادي يشير إلى أن فانديرجاغت على وشك لمس سر في أعماق التاريخ.

بدأت الحكاية بحيرة طفيفة، إذ لاحظ مشغل الحفارة كثرة غير معتادة فيما بدا له كصخور تعترض طريق آلته. كانت الملاحظة غريبة، فمنطقة فلوريدا هذه ليست صخرية البتة. ما أن توقف وأمعن النظر حتى انقلبت دهشته إلى ذهول، تلك "الحجارة" كانت في الواقع كومة ضخمة من العظام البشرية. بفضولٍ حذر، أوقف العمل على الفور وأبلغ السلطات، ليكون هذا الفضول البسيط هو السبب في الحفاظ على موقع سيروي لنا قصةً ضائعةً عن إنسان أمريكا قبل آلاف السنين.

في البداية، وحتى بعد وصول الباحثين من جامعة ولاية فلوريدا، كان الظن أن هذه العظام البالغ عددها 177 رفات تعود لقبائل من الأمريكيين الأصليين دُفنت قبل بضعة قرون، ربما بين 500 إلى 600 عام، لكن العلم كان له رأي آخر.

عندما خضعت العظام لتقنية التأريخ بالكربون المشع، صدَمت النتائج العلماء. أشارت التحليلات إلى أن هذه البقايا البشرية تعود إلى فترة تتراوح بين 6990 و8120 عاما، لتدفع الاكتشاف فجأة إلى عمق الزمن، وتجعل من جماجم مستنقع ويندوفر كنزا أثريا لا يُقدّر بثمن.

مصدر الصورة

العمر لم يكن الشيء الوحيد المذهل. فقد كشفت عمليات التنقيب عن صورة حميمة ومؤثرة لحياة مجتمع منقرض. دُفن الجميع، من الرضّع إلى الشيوخ الذين تجاوزوا الستين، في وضعية جانبية منحنية تشبه وضع الجنين، وكأنهم عادوا إلى رحم الأرض. كان ما يقرب من نصف الرفات لأطفال، ما يلمح إلى ظروف عيش قاسية في عصور ما قبل التاريخ. عُثر بينهم على بقايا امرأة شابة كانت على بعد أيام من الولادة، لترحل هي وجنينها معا.

الأكثر إثارة للعاطفة أن كل طفل دفن كانت إلى جانبه ألعاب صغيرة، هدايا وداع صامتة عبر آلاف السنين تذكرنا بإنسانيتنا المشتركة. كما كشف أحد الهياكل العظمية عن قصة رعاية نادرة في ذلك العصر السحيق، امرأة مسنة، ربما في الخمسين من عمرها، عانت من كسور عديدة شُفيت منها قبل وفاتها بزمن. إعاقتها تلك كانت دليلا ملموسا على أنها عاشت سنوات عديدة بفضل رعاية الآخرين لها، في مجتمع لم يتخل عن أعضائه حتى عندما لم يعودوا قادرين على الإسهام في العمل اليومي الشاق.

لم تكن القرابين المرافقة أقل دلالة. دُفن العديد من الأفراد مع قطع مصنوعة بدقة من الحجر والخشب وقرون الحيوانات، ما يشير إلى طقوس دفن متقنة. التحليلات الجينية اللاحقة أضافت طبقة أخرى من العمق إلى هذه الصورة، إذ بيَّنت أن جميع هؤلاء الأفراد، رغم تباين أعمارهم، ينتمون إلى شجرة عائلية واحدة، نسب مشترك يجمعهم في سلالة مترابطة. هذا الاكتشاف حوّل الموقع من مجرد مقبرة جماعية إلى ما يشبه ضريحا عائليا مقدسا.

تاج هذا الاكتشاف كان مخبأً داخل الجماجم نفسها. المدهش، بل والمذهل حقا، أن قرابة نصف الجماجم المكتشفة، 91 جمجمة على وجه الدقة، احتوت على مادة دماغية متحجرة. كانت هذه المرة الأولى في سجلات العلم التي يُحفظ فيها دماغ بشري على هيكل عظمي بهذا القدم.

مصدر الصورة

حل العلماء هذا اللغز الجزئي بالإشارة إلى سرعة الدفن. ففي المناخ الحار الرطب لفلوريدا، تتحلل الأنسجة الرخوة، بما فيها الدماغ، بسرعة كبيرة إذا تركت في العراء. وجود بقايا الدماغ يشير إلى أن هذه الجثث دُفنت في غضون 48 ساعة من الوفاة، حيث وفرت التربة المشبعة بالمياه والطين الناعم للمستنقع بيئةً خالية من الأكسجين، حافظت على هذه الأنسجة الحساسة لأكثر من ثمانية آلاف عام.

كل هذه التفاصيل تدفع نحو السؤال، من كان هؤلاء؟ تشير الدلائل إلى أنهم كانوا جماعة بدوية، تتنقل عبر شبه جزيرة فلوريدا في العصر الحجري. لكن الغموض الحقيقي يكمن في أصلهم البيولوجي. فتحليل الحمض النووي للبقايا كشف مفاجأة أخرى، هؤلاء لا يشتركون في النسب المباشر مع مجموعات الأمريكيين الأصليين الأكثر حداثة التي سكنت المنطقة لاحقا. إنهم يمثلون سلالة بشرية مبكرة ومختلفة، ربما وصلت إلى القارة ثم اختفت أو اندمجت بطرق لا نعرفها بعد.

مصدر الصورة

هذا الغياب لإجابة قاطعة فتح الباب أمام عدة نظريات تحاول تفسير سبب اختيار هذا المكان بالتحديد. ترجح إحداها أن طين المستنقع الناعم والرطب جعله موقعا مثاليا للدفن السريع، كما اعتبره أهل ذلك الزمان ربما بوابةً مقدسة إلى العالم الآخر، وهو ما قد تفسره القرابين القيمة. بينما تقترح نظرية أخرى تفسيرا أكثر حميمية، وهو أن العشيرة المترابطة التي كشف عنها الحمض النووي قد دأبت، جيلا بعد جيل، على إعادة موتاها إلى هذه البقعة بالتحديد، متبعين تقليدا عائليا عميق الجذور. أما الفوضى الظاهرية واختلاط بعض العظام، فقد يكون تفسيرها بسيطا وهو التحولات الطبيعية في طبقات الخث بسبب تقلبات منسوب المياه والمناخ على مدى آلاف السنين.

حتى الوقت الراهن، لا يزال مستنقع ويندوفر يحمل أسئلة أكثر من الإجابات. هو ليس مجرد موقع عظام، بل هو أرشيف حي من الطين حفظ لنا لحظات من الحب والرعاية والطقوس والموت لمجتمع إنساني ضائع. كل جمجمة تحتوي على دماغ، كل لعبة صغيرة بجانب طفل، وكل كسر مُعافى في عظم مسن، هي حكاية تنتظر من يقرأها.

الاكتشاف الذي بدأ بحفار بسيط مرتبك أمام كومة من "الصخور" الغريبة، تحول إلى نافذة نادرة ومؤثرة نطل منها على أعماق زمنية سحيقة. هذا هو تاريخ الإنسان، عالم غامض يُقرأ على عظام واهنة حفظتها الأرض الأم.

المصدر: RT

شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار