شكل الإعلان الرسمي لحركة “الماك” عن قيام دولة القبايل في 14 دجنبر 2025، منعطفا مفصليا في مسار الصراع بين السلطات الجزائرية ودعاة تقرير المصير في المنطقة، متوجا عقودا من الاحتقان والسياسات القمعية التي انتهجها “قصر المرادية” تجاه المكون الأمازيغي، ومحولا مطلب “الحكم الذاتي” السابق إلى خيار جذري بـ”الاستقلال التام”.
وتكتسي هذه الخطوة، رغم افتقارها للآثار القانونية الفورية أو السيطرة الترابية الميدانية، حمولة رمزية ثقيلة تستدعي الشرعية التاريخية للقرار الأممي 1514، لتضع النظام الجزائري أمام مرآة تناقضاته الأخلاقية والسياسية، وتؤسس لسردية جديدة تتجاوز سقف المطالب الحقوقية إلى الطموح الكياني للدولة.
وتطرح هذه المستجدات المتسارعة تساؤلات عميقة حول موقع الدبلوماسية المغربية من هذا الحراك، خاصة في ظل تمسك الرباط بعقيدة راسخة تقوم على مبدأ “وحدة الدول” وسلامة أراضيها، وهو المبدأ نفسه الذي تستند إليه في الدفاع عن مغربية الصحراء.
ولا يخرج التلويح المغربي بورقة “تقرير مصير القبايل” في هذا السياق، عن منطق “المعاملة بالمثل” والرد الدفاعي التكتيكي الرامي إلى تعرية “ازدواجية المعايير” لدى النظام الجزائري، الذي يدعم الانفصال جنوبا ويقمعه شمالا بالحديد والنار، حيث يوظف المغرب هذا الملف كأداة ضغط فعالة لكشف هشاشة الموقف الجزائري دوليا، دون أن يعني ذلك بالضرورة تبنيا استراتيجيا لمشروع تفتيت الدول، بقدر ما هو مناورة ذكية لكبح جماح العداء الجزائري المتواصل للوحدة الترابية للمملكة.
وفي هذا السياق، أوضح رئيس منظمة أفريكا ووتش، عبدالوهاب الكاين، أن إعلان حركة تقرير مصير منطقة القبايل الصادر في 14 دجنبر 2025، دخل حيز التنفيذ بعد عقود من اليأس والإحباط من “السياسات الحكومية الجزائرية القمعية” تجاه منطقة القبايل وساكنتها الأمازيغية وممثليهم المطالبين بضرورة الانخراط في حوار جاد للتوصل إلى صيغ لتدبير شؤونهم بأنفسهم، بعيدا عن السياسات التضييقية و”كتم الأنفاس” الذي طبقته الحكومات المتعاقبة وأجهزتها الأمنية.
واستدرك الكاين، في تصريح لجريدة “العمق”، أنه على الرغم من عدم استناد هذه الخطوة على أي اعتراف دولي لحدود الساعة، إلا أن هذا الإعلان حمل رمزية ذات أبعاد جوهرية، عبر اختيار تاريخ اعتماد القرار الأممي رقم 1514 للعام 1960 الذي أقر حق الشعوب المستعمرة في الاستقلال، مقابل تصنيف الدولة الجزائرية لحركة “الماك” كمنظمة “إرهابية” سنة 2021.
واعتبر المتحدث هذه الانعطافة القوية نحو إعلان قيام “جمهورية القبايل الفيدرالية”، عوض المطالب السابقة بضرورة اعتماد نظام حكم ذاتي، بمثابة تصعيد غير مسبوق مقابل ما واجهته الحركة من “قمع وتضييق” على قادتها وضد سكان منطقة القبايل بشكل عام، بالرغم من أن تلك المطالبة الصريحة بالاستقلال لا تزال إجراء إعلانيا لا يرتب التزامات أو سيطرة فعلية على الأرض، لأن الحركة الانفصالية عملت بشكل أساسي من المنفى وافتقرت إلى التحكم في المجال الترابي لمنطقة القبايل وواجهت “قمعا شديدا” داخل الجزائر، بموجب المادة 87 مكرر من قانون العقوبات، التي أقبرت أي إمكانية للجهر بمطالبات سياسية أو مجرد التعبير عنها بالتنصيص على تنزيل أحكام ثقيلة وصلت حد الإعدام.
وأشار المصدر ذاته، في هذا الصدد، إلى أنه وعلى الرغم من التباين الشديد في مواقف المملكة المغربية والجمهورية الجزائرية دبلوماسيا وسياسيا، ومحاولات هذه الأخيرة الإضرار بأمن واستقرار المغرب وفصل أقاليمه الجنوبية عبر توجيه غطاء دبلوماسي وسياسي ومنح دعم مالي وإعلامي سخي لحركة انفصالية تدعى “البوليساريو”، إلا أن المغرب لا زال حافظ على عقيدة ثابتة بشأن قضية الوحدة الترابية، منذ أن أعرب للوهلة الأولى عن دفاعه العلني عن مغربية صحرائه في الأمم المتحدة وتقديم ملف إنهاء استعمارها من طرف الإسبان سنة 1963، بالرغم من إثارة قضية القبايل كأداة استراتيجية، لتبيين سياسة “الكيل بمكيالين” التي نهجتها الجزائر إزاء ملف الصحراء المغربية في المنتديات.
أبرز الكاين تغافل الجزائر على مطالب حركة “الماك”، مع بروز فروق شاسعة بين القضيتين من حيث الشواهد التاريخية والقانونية والتكوين الإثني والعرقي لساكنة المنطقتين وأسبقية شعب القبايل على الدولة في السياق الجزائري بخلاف السياق الصحراوي ومكوناته التي عرفت بولائها وبيعتها منذ قرون للعرش العلوي، حيث لم يتعد تقديم ملف القبايل في اجتماع بالأمم المتحدة كونه خطوة دبلوماسية مغربية لفضح “المنطق الدبلوماسي الجزائري” في اللجوء إلى ازدواجية المعايير، حيث ادعت الجزائر منذ فترة طويلة مناصرة حق تقرير المصير في الخارج ضمن أجندتها لزعزعة استقرار المغرب، بينما ردت على سكان منطقة القبايل لديها بـ”القمع الشديد، والاختطافات والتعذيب الممنهج والاعتقالات التعسفية، والاضطهاد”.
وشدد المتحدث على أنه لا يمكن فهم الخطوة المغربية بالتعريج على مسألة القبايل، إلا في إطار الرد على “الاستفزازات الجزائرية” المتواصلة منذ عقود ومناورات الإضرار بالوحدة الترابية المغربية، دون تلقي رد مباشر، يلجم تطلعات الجارة الجنوبية في قضم جزء من التراب الجنوبي المغربي، حيث أظهر القلق الجزائري الشديد من هذا التصريح في غشت 2021، مدى تخوف السلطات الجزائرية من أي إغارة دبلوماسية مغربية جديدة في هذا الإطار أو تغير في التوجهات الدبلوماسية المغربية الهادئة والمتصفة بالرزانة إلى ديبلوماسية هجومية عكرت صفو مسؤولي المرادية في فرض هدوء سابق لعاصفة “التغيير الجزائري الشامل” الذي فرضته سياقات الإغلاق والقمع والتضييق على الحقوق والحريات في منطقة القبايل وبكامل التراب الجزائري وكذا بمخيمات تندوف.
واستنتج نائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية أن لجوء السلطات الجزائرية إلى اتهام المغرب بالتورط في حرائق الغابات في شمال الجزائر، وقطع علاقاتها معه، ساق إلى استخلاص مدى هشاشة الموقف الجزائري، وتهوره ومدى فعالية وسائل الضغط التي استعملها المغرب لقياس حرارة السلطات الجزائرية في علاقة بملف القبايل، في إشارة واضحة إلى امتلاك المغرب نفوذ دبلوماسي كبير بأقل التكاليف ودونما حاجة للاعتراف رسميا باستقلال منطقة القبايل، حيث ركزت المملكة المغربية على تسليط الضوء على التباينات الصارخة في مواقف السياسة الخارجية الجزائرية، لا سيما بعد حيازة اعتراف دولي قوي بمغربية الصحراء وعدالة وجدية مقترح الحكم الذاتي.
وخلص عبدالوهاب الكاين في ختام تصريحه لـ”العمق”، إلى أنه وبناء على ما سبق، لم يعتبر المغرب الاعتراف باستقلال القبايل كخطوة استراتيجية لدعم موقفه إزاء جهود البحث عن حل نهائي لنزاع الصحراء، بقدر ما أطر موقفه في العام 2021 في إطار مبدأ المعاملة بالمثل التي اكتست طابعا دفاعيا، لأن المملكة المغربية لم يحدث أن تناقضت مع عقيدتها الراسخة في دعم المطالبات بالوحدة الترابية والسلامة الإقليمية للبلدان، في استدعاء صريح للمبادئ العالمية.بينما طبقتها الجزائر بشكل انتقائي، وهو ما سبب لها “إحراجا دبلوماسيا” كبيرا وضغف حجة بمناسبة تقديمها لقضية الصحراء المغربية كحالة إنهاء استعمار، ولم تسمح حتى بالحديث عن تطلعات سكان منطقة القبايل، مما أبرز هذا التوجه تناقضا صريحا حيال مناصرة الانفصال في الصحراء، بينما تم قمعه في الداخل الجزائري.
المصدر:
العمق