آخر الأخبار

"أسود الأطلس" .. حين تتحول كرة القدم إلى امتداد لذاكرة مغربية عميقة

شارك

لم يكن اعتماد لقب “أسود الأطلس” للمنتخب الوطني المغربي لكرة القدم سنة 1976 مجرد تسمية رياضية أو حماس إعلامي ظرفي؛ بل كان فعلًا رمزيًا واعيًا أعاد إلى الواجهة أحد أعمق الرموز في التاريخ الطبيعي والثقافي والسياسي للمغرب. فالأسد، الذي عاش قرونًا طويلة في جبال الأطلس وسهوله، لم يكن مجرد حيوان مفترس ضمن التنوع البيولوجي؛ بل تحوّل في الوعي الجماعي إلى علامة على القوة المقرونة بالهيبة، وعلى السيادة المرتبطة بحماية المجال وضبط توازنه.

لقد شكّل التعايش التاريخي بين الإنسان المغربي وبين أسد الأطلس أساسًا لمخيال خاص يرى في القوة قيمة أخلاقية قبل أن تكون قدرة جسدية. فحضور الأسد في الحكايات الشعبية والأمثال لم يكن تعبيرًا عن الخوف وحده؛ بل عن الإعجاب بقوة منضبطة تحكم ولا تعيث فسادًا. هذا المعنى المحلي تداخل مع الإرث العربي الإسلامي، حيث ارتبط الأسد بالبطولة والشجاعة ونصرة الحق، وتكاثرت أسماؤه في اللغة بوصفه رمزًا للفارس والقائد والحامي.

وفي التجربة الصوفية المغربية، اكتسب الأسد دلالة أعمق وأكثر تركيبًا. فقصص الكرامات التي تحكي عن ترويض الأسود أو مصاحبتها دون أذى لا تتحدث عن انتصار مادي؛ بل عن سلطة روحية تجعل القوة تخضع للأخلاق. هنا، يتحول الأسد إلى مرآة للولاية، ويصبح معيارًا يختبر صدق القوة: هل هي قوة قهر أم قوة تزكية وصفاء داخلي.

وقد انتقل هذا الرمز من المجال الروحي والثقافي إلى المجال السياسي، حيث ارتبط الأسد بالسلطة والسيادة. كان السلطان يُشبَّه بالأسد من باب الحماية وضمان الاستقرار. وتجسّد هذا المعنى في التمثلات السيادية، حيث ظهرت صورة الأسد في بعض النقود المغربية، كما ترسخت في المخيال صورة تاج يحيط به أسدان، في دلالة على توازن دقيق بين الشرعية والقوة، وعلى أن القوة تحرس الأمة.

وفي السياق ذاته، استُخدم الأسد أداة دبلوماسية رمزية في علاقات المغرب مع أوروبا. فقد أهدى السلاطين المغاربة الأسود واللبؤات إلى ملوك وأباطرة أوروبيين، في رسائل غير مكتوبة تؤكد هيبة الدولة المغربية واستقلال قرارها. لم تكن هذه الهدايا مجرد غرائب حيوانية، بل شكلت تعبيرًا عن قوة المجال المغربي، وعن دولة لا تزال الأسود جزءًا من صورتها الرمزية.

وقد سجّل الحسن الوزان، المعروف بليون الإفريقي، هذا الحضور القوي للأسد في وصفه للمغرب، رابطًا بين كثافة وجوده وقوة الأرض وشخصيتها. فالمجال الذي تسكنه الأسود، في المخيال التاريخي، هو مجال صلب، وذي هيبة طبيعية تنتقل إلى ساكنيه وسلطته.

ومع انقراض أسد الأطلس في البرية، لم تختف رمزيته؛ بل أعيد إنتاجها في سياقات جديدة. ففي المغرب الحديث، انتقل الأسد من الجبل والقصر إلى المجال الوطني الشعبي. وعندما تم اعتماد لقب “أسود الأطلس” للمنتخب الوطني، كان ذلك تتويجًا لمسار طويل من التحولات الرمزية، حيث تحولت القوة من فردية وسلطوية إلى جماعية وتمثيلية.

في هذا التحول، صار الأسد رمزا للأمة كلها. صار اللاعبون “أُسودًا” لأنهم يجسدون الانضباط والعمل الجماعي والدفاع عن الراية الوطنية. ومع النجاحات الرياضية الحديثة، ترسخ هذا الرمز أكثر، فأصبح تعبيرًا عن الثقة في الذات وعن قدرة المغرب على الحضور الندي في الساحة الدولية.

إن “أسود الأطلس”، اليوم، ليسوا مجرد فريق كرة قدم؛ بل امتداد لذاكرة رمزية عميقة جعلت من الأسد صورة للقوة الأخلاقية والسيادة والكرامة. ومن جبال الأطلس إلى الملاعب العالمية، يواصل هذا الرمز أداء وظيفته التاريخية نفسها: توحيد المغاربة حول معنى مشترك للقوة، وتحويل الذاكرة إلى طاقة، والتاريخ إلى هوية حية متجددة.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا