لم تتوقف الديمقراطية في مساراتها ومُنعرجاتها وأنماطها المتنوعة من تعرُّضها للنقد ولأشكال الهجوم كافة من طرف مناوئيها، ومنها ما واجهته من تحديات من طرف القوى التي اعتمدت النيوليبرالية التي انتقلت بالاقتصاد إلى نمط تراكم جديد تهيمن عليه المحددات المالية بشكل أساسي وجعلت من “الرأسمال المالي” محرك الاقتصاد والتبادل وإنتاج الثروة والغنى.
ويرى العديد من المفكرين والاقتصاديين أن النيوليبرالية اتخذت تمظهرات جديدة مع اليمين الأوروبي والأمريكي ابتداء من ولاية مارغريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة الأمريكية. نتج عن سياساتهما توسيع الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وتعميقها، وإضعاف مقومات التماسك الاجتماعي وتعريضه للتفكك، والتخلي التدريجي عن قيم حقوق الإنسان. كما تمكنت الإيديولوجية النيوليبرالية من التغلغل في مختلف الوسائط وفي المؤسسات، وتحولت المنظمات المالية الدولية إلى أدوات للتبشير بمنطق السوق وحريته، والحد من وظائف الدولة، والانسحاب من تقديم خدمات عمومية للمواطنين الذين يدفعون الضرائب من أجلها.
نجَم عن هذه الاختيارات السياسية بروز فوارق اقتصادية واجتماعية كبيرة، طيلة الأربعين سنة الأخيرة، ولَّدت احتجاجات متعددة الأشكال لفئات اجتماعية واسعة، سواء تنتمي للأوساط الشعبية أو لشرائح الطبقات الوسطى التي تعرَّض مستواها المعيشي للضرر والتقهقر. غير أن هذا التحول الكبير بدل استثماره من طرف القوى اليسارية في صراعها مع الرأسمال المالي، شهدت العديد من البلدان صعود تيارات شعبوية ذات توجُّهات يمينية متطرفة، ومنها تنظيمات اليمين الجذري في أوروبا الغربية، ودونالد ثرامب في الولايات المتحدة الأمريكية، وبولسونارو في البرازيل، ومودي في الهند، وخافيير مايلي في الأرجنتين، وغيرهم ممن يجسد مظاهر الشعبوية اليمينية. ووجدت هذه الزعامات من يُنظِّر لها؛ بل ومن أتى من حقل الفلسفة واليسار لتبرير دعوات استبعاد الاختيارات الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان في تدبير شؤون الدولة والمجتمع والدعوة إلى تشكيل نظام سياسي بديل.
يدَّعي المنظرون الجُدد أن الديمقراطية فشلت لأنها لم تعُد ناجعة؛ وما تحتاجه السياسة، اليوم، لا يتمثل في إعادة النظر في المرجعيات المعيارية للديمقراطية، أو في تنشيط آليات الممارسة لتطويرها لضمان نِسب مشاركة أعْلى، وإنما يتعين تجريب إقامة دولة قوية لا تخضع لاشتراطات فصل السلط، تمتلك مقومات الهيمنة كافة، على أساس أن تشتغل بمنطق المُقاولة بناء على “شبكة خوارزمية” تديرها نخبة خارقة الذكاء، مُتحررة من أغلال الإدارة، ووسائط الاتصال الكلاسيكية.
هذه هي الدعوة التي يناضل من أجلها كورتيس يارفين Curtis Yarvin؛ الذي يعتبر أحد مُلهمي نُخب “السليكون فالي” Silicon Valley، والعديد من مستشاري دونالد ثرامب. يقترح يارفين “تصفية الديمقراطية، والدستور، والنظام الاجتماعي” مادامت الديمقراطية تستند إلى مبدأ باطل يتمثل في “المساواتية”؛ حيث إن هذا المبدأ بمقدار ما هو غير قابل للتحقق فإنه لا يحتمل أي إمكانية للتصريف والتوظيف والتعبئة. فالجماهير الواسعة غير قادرة على فهم المشاكل التكنولوجية، والاجتماعية أو الاقتصادية التي يواجهها العالم من حيث إنها مشاكل لا تتوقف عن إغراقها في تقلباته، فضلا عن أن الاطمئنان إلى قدرة الشعب على اختيار حُكامه يؤدي إلى اللاستقرار والفوضى. وما يسميه كورتيس يارفين ب”النظام” (السيستام) لا يمنح سوى استقرار موْهُوم لأنه يعتمد على نخب غير مُنتخَبة، ويعتمد فيها على وسائط التواصل، والجامعات، والجهاز البيروقراطي القوي، ويستهدف الحفاظ على نموذج مُكرس لتدمير القيم التقليدية، والوطنية، والعائلة، والذكورة، والدين، وغيرها من القواعد التي أسست لتماسك المجتمعات عبر القرون. لذلك لم يقم فكر الأنوار، تاريخيا، وما سمحت به مبادئ الديمقراطية الليبرالية سوى بتخريب “القيم التقليدية”، وتفكيك الروابط المُؤسِّسة للمجتمعات.
يتعلق الأمر بنزعة لا تخفي منطلقاتها المُحافظة وميولاتها الرجعية؛ وتبنَّى “كورتيس يارفين” دعوة جديدة أُطلق عليها “الأنوار المُظلمة” أو المُعتَمة Dark Enlightement، وهي الدعوة التي عمل للفيلسوف البريطاني “نيك لاند” Nick Land على صياغة عناصرها، كما وضع بعض مرتكزات ما أسماه “النزعة التسارعية” L’accélérationisme، حتى تواطأ المتتبعون على نعت كتاباته تندرج ضمن “النظرية-التخيُّل” « Théorie-fiction ». يلتقي “نيك لاند” مع “كورتيس يارفين” في كونهما أتوا من اليسار والطليعة الأمريكية؛ كان أبوا كوريس مناضلين شيوعيين في نيويورك وأما نيك فقد تشبع، منذ شبابه، بالأدبيات اليسارية. ويعتبران أن ثمة حاجة حيوية للتحرر من أطروحات اليسار وموقفه من الرأسمالية، وتبني نمط جديد مُضاد لتسريع ديناميتها وسرعتها. هكذا أصبحا معا من منظري اليمين المتطرف وما يسمى “التحررية” في أمريكا (“الليبرتاريانيزم”Libertariarisme)، التي تدعو إلى تقليص دور الدولة إلى أبعد حد ممكن. وقد عملا في كتاباتهما على تطوير أفكار لامساواتية ومضادة للديمقراطية، واهتداء بها انطلقت حركة “الرجعية الجديدة” (NRx). ذلك أن المشروع المضاد للأنوار يعتبر أن التقدم يشكل عائقا، وأن ثمة حاجة تاريخية إلى “تدمير” الديمقراطية باعتبارها تَحدُّ من الحرية ومن المسؤولية الفردية، ومن تطور الرأسمال.
اشتغل “نيك لاند” أستاذا للفلسفة، واستلهم بعض أفكار إيمانويل كانط، وجورج باطاي، وجيل دولوز وفيليكس غواتاري لتقديم نقد جذري للحداثة؛ اعتبر نفسه على هامش الفلسفة الجامعية التقليدية، وسعى إلى تأسيس ما أسماه فكر “ما بعد-إنساني” Post-humain؛ ولم يكتف بتبني خطاب مضاد للديمقراطية؛ بل وضع تفكيره في إطار قراءة عامة لتاريخ الحداثة.
وقد سبق ل”كوتيس يارفين” أن نشر مقالة شهيرة تحت اسم مستعار (مونسيوس مولدبورغ) دعا فيها إلى تأسيس ما أسماه “نزعة مضادة للإنسية” Antihumanisme باستثمار كل الوسائل الممكنة لتسريع الاكتشافات التكنولوجية، وإلغاء شروط ضبطها كافة، وابتكار كل ما من شأنه خلق مقومات الاندماج بين ما هو إنساني وما هو تكنولوجي من أجل إنتاج نوع بشري جديد. ويتطلب هذا المسار، في نظره، تخصيص مناطق مستقلة تتيح للنخب إمكانيات التحرر من أي شكل من أشكال الرقابة على الابتكار، ومن الإكراهات التي تتطلبها الديمقراطية بهدف خلق رأسمالية تقنية من دون عوائق أو محاسبة، واستبعاد اعتماد أو سنّ أي مرجعية أخلاقية.
وجدت أفكار “نيك لاند” و”كورتيس يارفين” أصداء واسعة في أوساط نخب “السليكون فالي” Silicon Valley، ومن بينهم “بيتر ثييل” Peter Thiel، أحد أقوى الماسكين بالتكنولوجيات الرقمية، والمؤثرين البارزين في الأفكار الرائجة بين مهندسي العالم الرقمي ومشاريع الذكاء الاصطناعي، وأحد كبار الناشطين في حركة “الماغا” MAGA (لنجعل من أمريكا عظيمة مُجددا) التي أوصلت دونالد ثرامب إلى البيت الأبيض. وقد سبق لثييل أن أعلن منذ 2009 أنه “لا يرى أي تلاؤم بين الحرية والديمقراطية إطلاقا”. هكذا تبنىَّ إيديولوجية “الأنوار المظلمة”، وأطلق شبكة “ثييلفيرس” Thielverse) ( لدعم حركتها، نظريا وعمليا وماليا. وأما بالنسبة ل”جيمس ديفيد فانس”، نائب ثرامب، فإن ثييل يمارس عليه تأثيرا واضحا سواء على المستوى الإيديولوجي والتبشيري، أو على صعيد الدعم المالي، حيث ساعد على انتخابه في مجلس الشيوخ سنة 2022، ولم يكن صدفة أبدا أن يصير نائبا للرئيس سنة 2024. كما نجد شخصيات أخرى ك”مارك أندريسون Marc Andressen، الذي يعتبر مستشارا غير معين رسميا للرئيس ثرامب، إضافة إلى ناشطين آخرين وفي طليعتهم “ستيف بانون” Steve Bannon، الذي يُعتَبر من صقور الحركة الرجعية الجديدة، ومن أكثر العاملين على نشرها عالميا في أوساط اليمين الأوروبي والأمريكو-لاتيني المتطرف.
يرى منظرو هذا التيار أن التحكُّم، بل الديكتاتورية ليست هدفا في ذاته، وإنما وسيلة لتأمين الانتقال إلى نوع من “القيصرية الجديدة”، وبروز “شخصية مُستبدة” تعمل على تفكيك الدولة-الأمة، وتقطيع البيروقراطية، وطرد المهاجرين حتى ولو تم ذلك في ظروف لاإنسانية، ودفع الموظفين العموميين للخروج إلى التقاعد، وخفض الميزانية الفدرالية العمومية.
وهو ما وجدوه في شخصية دونالد ثرامب حيث انخرط المتحكمون في منصات التواصل الاجتماعي، وأغنياء “السليكون فالي” في حملته الانتخابية، وكان “إلون ماسك” Elon Musk أكثرهم حماسة ودعما ماليا. ولعل مشهد تنصيب ثرامب في البيت الأبيض، ودعوته لأقطاب المنصات الرقمية وشركات الشرائح الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، علامة على الانخراط في التوجهات الاستبدادية والرجعية، ومظاهر الجشع الرأسمالي التي يعبر عنها هذا الرئيس. وكان من نتائج هذا التحالف المعلن تعيين “إلون ماسك” وزير “الكفاءة الحكومية” الذي أطلق، منذ أيامه الأولى، مسلسل تسريحات الموظفين، ودفعهم إلى التقاعد أو الاستقالة، وذلك قبل أن يختلف مع الرئيس ويجد نفسه يغادر مهمته. أما سياسات الحد من الإنفاق العمومي فإن ج. د فانس نائب الرئيس، فما يزال يُصر على تنزيلها، على الرغم من مختلف مظاهر المقاومة التي تواجهها هذه السياسات. وهو ما يسميه “كوتيس يارفين” “ثورة الفراشات” وإنجاز انقلاب على النظام البيروقراطي المُهيمن ومراقبة الجامعات ووسائط الاتصال، وتركيز السلط كافة في يد شخص واحد يمتلك ما يلزم من “الجرأة” لخلخلة المنظومة السائدة، واستعمال جميع الوسائل، بما فيها العنف كما يفعل ثرامب بقرارات إنزال الحرس الفيدرالي ونشره في الولايات التي يرأسها حكام ديمقراطيون. وهو الأمر الذي دفع نائب الرئيس ج.د فانس إلى تجديد القول إن اليمين الجديد يرى في أمريكا “روما التي تنتظر قيْصرها”.
في هذا المناخ الإيديولوجي الذي يحرك منظريه العديد من الأبعاد الدينية والأغراض الاستثمارية، وفي غمرة مسلسل الإبادة التي تقترفها الصهيونية العالمية في فلسطين، وفي غزة بشكل فاضح وصادم، اقترح “كورتيس يارفين” تحويل غزة إلى “مدينة-مُقاوَلة” حيث سارع دونالد ثرامب إلى تبنّي فكرتها، مطالبا بإفراغ سكانها، والقضاء على حماس وكل الجماعات المسلحة، وبناء مُنتجعات في شكل “ريفيرا” الشرق الأوسط تُدار اعتمادا على أحدث المستجدات التكنولوجية، وتستعمل في مداولاتها العملة الرقمية.
يدور فكر “كورتيس يارفين” حول ما يسميه دولة-مُقاولة ذات شبكات تشتغل بواسطة آليات “السيادة الخوارزمية”، وهي الآليات التي تدخل ضمن ما تعتبره التونسية “أسماء محلا” “تكنولوجيات شمولية” تسيرها نخبة خارقة الذكاء، متحررة من قيود الإدارة وأغلالها، ومُتبرمة من وسائل الاتصال الكلاسيكية، ومناهِضة للديمقراطية والنزعة المساواتية. ولعل قادة ومهندسي شركات “ميتا”، “وأمازون”، و”غوغل”، “وإيكس”، و”بلانتير تكنولوجي”، “مايكروسوفت” وغيرها من الشركات الرائدة في الذكاء الاصطناعي يعملون، بحماس استثنائي في هذا الاتجاه، مسترشدين ببشائر إيديولوجية الرجعية الجديدة، ولا يخفون تضايقهم ذرعا من الخطابات الداعية إلى محاربة الفوارق والظلم وأشكال التمييز العرقي والديني والجنسي والمتحولين جنسيا، وغيرها مما يدخل ضمن “قيم حقوق الإنسان”. لهذا نجدهم إلى جانب تنظيمات اليمين المتطرف والصهيونية العالمية، وقدموا كل أشكال الدعم اللوجستيكي والمالي والاستخباراتي لإسرائيل في حربها الإبادية ضد الشعب الفلسطيني، وباقي الشعوب العربية.
لا يعدم الملاحظون معاينة الاندفاع الكبير للإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ثرامب لتطبيق ما يدعو إليه منظِّرو “الأنوار المُظلمة”، وتنفيذ ما طالبوا به لتغيير القواعد التي تقوم عليها الدولة، والعلم، والمجتمع، والصحافة، والثقافة، والهجرة، والعلاقة بالعالم. وقد شهدت الشهور الماضية ترجمة عملية لمطالبهم منها، كما أشرنا إلى ذلك، تسريح آلاف الموظفين، وطرد عدد كبير من المهاجرين أو سجنهم، وإلغاء ميزانيات الإدارات العمومية، وتقليص مقدرات التغطية الصحية، ومهاجمة الصحف والمواقع المستقلة ومحاكمتها، وممارسة الرقابة على التعبير والرأي، ومحاصرة الجامعات التي تحسبها الإدارة غير طيِّعة، وإيقاف دعم البحث العلمي، وانتهاك القانون الدولي، ومعاقبة كل من يجرأ على نقد إسرائيل أو محاكمة مجرمي الحرب الذين يقودونها؛ ومنهم أعضاء محكمة العدل الدولية، وغيرها، فضلا عن انسحاب أمريكا، منذ الأسابيع الأولى لتولي ثرامب الحكم، من مجموعة من المنظمات الأممية. وما يزال هذا الفريق ينفذ ما وعد به مع تلوينات طفيفة نظرا لصلابة التقاليد السياسية والقانونية المرعية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاعتبارات التوازنات الجيواستراتيجية لحماية المصالح التي تقود سياستها على الصعيد الدولي.
ويبدو أن هذه الطوبى تواجه مقاومات شتى، ومن مصادر متنوعة، تُشوش على تفكير أصحابها وتهدد تطلعات النخبة السياسية التي تسعى إلى تنزيلها.
المصدر:
هسبريس