شهدت السنوات الأخيرة تزايدا لافتا في النقاش حول ظاهرة الفتور الاجتماعي، بعدما بدأت العديد من المؤشرات تكشف تراجع قوة الروابط بين الأفراد في مختلف المجتمعات؛ وهو تراجع ارتبط بالتحولات السريعة التي مست أنماط الحياة اليومية وتوازن العلاقات الإنسانية داخل الأسرة والعمل.
ولم يقتصر هذا النقاش على الأبعاد الاجتماعية المباشرة، بل امتد ليشمل التحولات الرقمية وارتفاع وتيرة العزلة والشعور بالوحدة؛ وهو ما أثار انتباه باحثين في الجوانب النفسية أيضا، إذ أصبحت هذه الظواهر محط اهتمام متزايد في دراسات وتقارير دولية رصدت بروز أنماط جديدة من التواصل وما يرافقها من تحديات على مستوى التماسك الاجتماعي.
ومن بين الدراسات التي تناولت موضوع الفتور الاجتماعي في السنوات الأخيرة التقرير الموسوم بـ”Our Epidemic of Loneliness and Isolation” الذي أظهر أن “العلاقات الاجتماعية شهدت تراجعا واضحا في السنوات الأخيرة”.
وبعدما أكد التقرير ذاته أن “العزلة أصبحت قضية صحية عامة ترتبط بارتفاع مخاطر الاكتئاب وأمراض القلب”، دعا إلى ضرورة “تعزيز الروابط بين أفراد الأسرة وفي المجتمع بشكل عام، باعتبار تلك الروابط عاملا أساسيا لاستقرار الصحة النفسية”.
أما تقرير “Loneliness in America” لمجموعة سيغنا في نسخته الأخيرة، فقد أكد ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون شعورا متزايدا بالوحدة، خصوصا لدى الفئات الشابة. كما تناول التأثير والتأثر بين العلاقات الرقمية والتفاعل الإنساني المباشر، مشيرا إلى أن “وتيرة الحياة الحديثة ساهمت بدورها في فتور الروابط الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة”.
ندى الفضل، اختصاصية نفسية ومعالجة نفسية إكلينيكية، قالت إن “العلاقات الاجتماعية شهدت خلال السنوات الأخيرة تراجعا ملحوظا؛ وهو تراجع يمكن تفسيره من منظور الصحة النفسية عبر مجموعة من العوامل المتداخلة”.
وأشارت الفضل، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن “الإيقاع المتسارع للحياة يفرض على الفرد حالة من الاستنزاف الذهني المستمر؛ مما يقلل من قدرته على الانخراط في علاقات اجتماعية مستقرة، إذ يوجه معظم طاقته نحو التكيف مع متطلبات الحياة اليومية”.
وأضافت المتحدثة عينها أن “انتشار وسائل التواصل الرقمي أدى إلى إحلال التفاعل الافتراضي محل اللقاءات المباشرة؛ وهو ما يضعف جودة التبادل الانفعالي ويقلل الإشباع العاطفي، نظرا لغياب عناصر التواصل الوجداني مثل لغة الجسد والتزامن العاطفي”.
وأكدت الفضل أن “الضغوط الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة ساهمت في زيادة مستويات القلق المزمن؛ ما جعل الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية أولوية ثانوية أمام متطلبات البقاء”، مبرزة في الآن ذاته أن “تغير نمط السكن الحضري لعب دورا في تفكيك البنيات الاجتماعية التقليدية، حيث تراجعت العلاقات بين الجيران وضعفت الدوائر الاجتماعية الداعمة”.
وسجلت الاختصاصية النفسية والمعالجة النفسية الإكلينيكية أن “آثار الجائحة السابقة ما زالت حاضرة في البنية النفسية للأفراد، حيث عانى الكثيرون من تعزيز سلوكيات الانسحاب والعزلة نتيجة التباعد الاجتماعي الطويل؛ مما كرس لدى البعض أنماطا جديدة من التجنب الاجتماعي والاعتماد المتزايد على العزلة كآلية لتنظيم القلق”.
وخلصت ندى الفضل إلى أن “كل العوامل المذكورة تتفاعل لتُنتج حالة فتور اجتماعي تتميز بضعف الروابط العميقة، وارتفاع الشعور بالوحدة، وتزايد القابلية للاضطرابات الانفعالية؛ مما يجعل معالجة الظاهرة تتطلب مقاربة متعددة المستويات تشمل الوعي النفسي، وتطوير مهارات التواصل، وتعزيز مساحات التفاعل الإنساني المباشر”.
المصدر:
هسبريس