تستعد منظمة الأمم المتحدة لدخول مرحلة حاسمة مع اقتراب نهاية ولاية الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش، المقررة في 31 دجنبر 2026، في ظل ترقب دولي واسع لمسار الاستحقاق المقبل وتداعياته على الملفات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها نزاع الصحراء المغربية.
ويأتي هذا الاستحقاق في ظل مراقبة دقيقة لمسار ولاية غوتيريش الأخيرة، التي شهدت تحولات جذرية في التعاطي الدولي مع قضية الصحراء المغربية داخل أروقة الأمم المتحدة، من خلال إصدار تقارير مؤقتة وطرح مبادرات وساطة متعددة، ما جعل النزاع محورا أساسيا في السياسة الخارجية للمغرب، وسط جهود أممية متواصلة لتيسير الحوار بين الأطراف المعنية.
وعلى صعيد السباق المقبل برزت عدة ترشيحات رسمية لقيادة المنظمة الأممية، أبرزها الرئيسة السابقة لتشيلي ميشيل باشليت، التي تمتلك سجلا سياسيا ودبلوماسيا حافلا، والكوستاريكية ريبيكا غرينسبان، الأمينة العامة لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، إضافة إلى الأرجنتيني رافاييل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ووفق معطيات رسمية فإن الحسم النهائي سيعتمد على توافق مجلس الأمن الدولي، ولا سيما الأعضاء الدائمين الخمسة، قبل رفع التوصية إلى الجمعية العامة للمصادقة، في عملية تبقى محفوفة بالسرية رغم خطوات حديثة لتعزيز الشفافية، بما في ذلك نشر بيانات الرؤية لكل مرشح وكشف مصادر التمويل وإتاحة عرض البرامج على المنصة الأممية الرسمية.
وتظل الإدارة المقبلة للأمم المتحدة في صلب اهتمامات الرباط، بالنظر إلى الدور الذي لعبه الأمين العام الحالي في إدارة النزاع المفتعل حول الصحراء، ومواصلة دعم مسار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية؛ بحيث شكلت مواقف البرتغالي غوتيريش حافزا للرباط على تعزيز دينامياتها الدبلوماسية، سواء على مستوى العلاقات الثنائية مع أعضاء مجلس الأمن أو ضمن سياق جهودها الإفريقية والدولية لتثبيت الحل السياسي للنزاع.
ويكتسي الاستحقاق القادم بعدا رمزيا خاصا بالنظر إلى الضغط الدولي الذي يسير في اتجاه اختيار أول امرأة تتولى قيادة المنظمة الأممية في تاريخها الممتد لأكثر من ثمانين سنة؛ إذ تعكس ترشيحات باشليت وغرينسبان هذا الزخم، في وقت يواصل المجتمع الدولي التأكيد على أهمية القيادة النسائية في تعزيز الأبعاد الإنسانية والتنموية للعمل الأممي.
تعقيبا على هذا الموضوع قال عبد الفتاح البلعمشي، رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، إن نهاية ولاية الأمين العام أنطونيو غوتيريش تُسدل الستار على مرحلة اتسمت بكثافة الاستحقاقات الدولية وتعدد الأزمات العابرة للحدود، من النزاعات المسلحة في عدد من المناطق إلى تداعيات جائحة “كوفيد-19″؛ وهي ملفات واجهها البرتغالي غوتيريش وفق مقاربة براغماتية استندت إلى توسيع نطاق الوساطة وتعزيز حضور الأمم المتحدة في مناطق التوتر.
وأضاف البلعمشي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الأمين العام حرص خلال ولايتيه المتتاليتين على منح الأبعاد التنموية مكانة مركزية في تدبير النزاعات الدولية، باعتبارها مدخلا أساسيا لتثبيت الاستقرار داخل الدول والمجتمعات؛ وهو توجّه بات يُميّز عمل المنظمة داخل محيط دولي يعرف تحولات عميقة وتباينات في موازين القوى.
وسجّل المحلل السياسي ذاته أن السنوات الأخيرة شهدت زخما واضحا في حضور قضية الصحراء المغربية داخل أجندة الأمم المتحدة، من خلال تقارير دورية ومبادرات هدفت إلى الحفاظ على خيوط الاتصال بين الأطراف، مؤكدا أن “الأمين العام تعامل مع الملف وفق مقاربة وقائية تعمل على منع أي انزلاق من شأنه تهديد الأمن والاستقرار في المنطقة”.
وتابع المتحدث نفسه: “حرص غوتيريش على مواكبة مختلف المحطات المرتبطة بالنزاع، بما فيها اللحظات التي كادت أن تمس السلم والأمن في المنطقة”، موردا أن “تطورات معبر الكركرات شكلت محطة مفصلية أنهت ممارسات كانت تعرقل حركة العبور بين المغرب وموريتانيا، وفتحت المجال لترسيخ الاستقرار وضمان حرية التنقل بشكل نهائي، في انسجام مع الجهود الأممية الرامية إلى تجنيب المنطقة أي توتر من شأنه المساس بالتوازنات الإقليمية”.
وأوضح الخبير في الشؤون الدبلوماسية أن المرحلة الراهنة تكشف محدودية القانون الدولي في سياق التعقيدات المتزايدة داخل منظومة الأمم المتحدة، ولا سيما في ظل اختلاف توازنات مجلس الأمن مقارنة بما كانت عليه بعد نهاية الحرب الباردة، مشيرا إلى “بروز مطالب متجددة بإعادة النظر في تمثيلية القوى الصاعدة، من قبيل اليابان وألمانيا ودول من القارة الإفريقية، وهو ما يترجم الواقع الدولي كما هو لا كما كان خلال أواسط أربعينيات القرن الماضي”.
شدد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض في مراكش على أن غوتيريش ظل مدافعا عن خيار التسوية السلمية عبر بوابة التنمية، وهو نهج يحسب له في تعامله مع مجموعة من الملفات، من بينها قضية الصحراء المغربية، التي حرص بشأنها على استحضار الشرعية والمشروعية المرتبطة بالمقاربة التنموية للمغرب، لافتا إلى أن “الأمين العام شارك في عدة مناسبات دولية احتضنتها المملكة، ما يعكس إدراكه خصوصية التجربة المغربية داخل محيطها الإقليمي”.
وبخصوص موقع المنظمة الأممية في ظل هذه التحولات أكد المتحدث أن القرارات لم تعد رهينة بالمسارات الإدارية التقليدية، بل باتت تتأثر أكثر باعتبارات الدول المؤثرة داخل مجلس الأمن، خاصة الأعضاء الدائمين، الذين أصبح حضورهم حاسما في توجيه المواقف تجاه التحديات المستجدة.
وفي رده على سؤال الاهتمام الدولي بالقيادة النسوية للأمم المتحدة، وما إذا كان المغرب يدعم هذا التوجه ومن تُعدّ الأقرب إلى المملكة من المرشحات المحتملات، أكد البلعمشي أن “السياسة الخارجية المغربية مسنودة بقرارات الدولة ومؤسساتها، وتحافظ على مسافة متوازنة مع المسؤولين الدوليين، في احترام تام للمبادئ المؤطرة للعلاقات متعددة الأطراف والقانون الدولي؛ وهي معطيات تجعل أي أمينة عامة مقبلة تتعامل مع المملكة وفق ما يفرضه الاحترام المتبادل والاعتراف بمكانتها الإقليمية والدولية”، مبرزا أن “عددا من المرشحين تربط دولهم علاقات متينة مع المغرب”.
وأكمل الخبير ذاته تصريحه بأن المرحلة المقبلة ستتطلب قيادة أممية قادرة على استيعاب التحولات الجيوسياسية وتسريع وتيرة الإصلاح داخل المنظمة، مع الحفاظ على دورها كآلية جماعية لضمان الأمن والاستقرار الدوليين، بما يستجيب لتطلعات الشعوب ويعيد الثقة في فعالية النظام متعدد الأطراف.
عبد الوهاب الكاين، رئيس منظمة “أفريكا ووتش” ونائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية، قال إن نهاية السنة الجارية تميزت بحدثين دوليين بارزين يؤشران على دخول الأمم المتحدة مرحلة تغييرات هيكلية عميقة، أولهما الانطلاق الرسمي لمسار اختيار خليفة للأمين العام أنطونيو غوتيريش، مع اقتراب انتهاء ولايته في 31 دجنبر 2026، وثانيهما التحول الملحوظ في الموقف الدولي تجاه إيجاد حل سياسي لنزاع الصحراء المغربية عقب اعتماد مجلس الأمن القرار 2797 الذي أيّد مبادرة الحكم الذاتي المغربية المقدمة سنة 2007 باعتبارها الإطار الأنسب للمسار التفاوضي المنتظر.
وأضاف الكاين، ضمن إفادته لهسبريس، أن التغيير المرتقب في قيادة المنظمة الأممية يشكّل “فرصة فريدة” لدفع مسار التسوية السياسية في الصحراء المغربية نحو أفق أكثر وضوحا، شريطة تبني القيادة الجديدة نهجا دبلوماسيا متسقا يقوم على التوازن بين المصالح الإقليمية وتوجهات القوى الكبرى، واحترام معايير حقوق الإنسان في المنطقة.
وشدد المتحدث ذاته على أن سنة 2025 ستكون “محطة مفصلية” في مسار إعادة تشكيل القيادة الأممية، وفي مسار النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، مذكرا بالرسالة المشتركة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة يوم 26 نونبر 2025، التي دشنت رسميا عملية اختيار الأمين العام الجديد للأمم المتحدة خلفا لغوتيريش.
وأشار نائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية إلى أن قرار مجلس الأمن 2797/2025 يشكل “منعطفا حقيقيا” في مسار النزاع، لأنه لأول مرة يعلن بشكل صريح دعم خطة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها “الحل الأكثر واقعية ومصداقية”؛ وهو ما يمثل بداية تحول دبلوماسي يعيد صياغة مشهد امتد لعقود طويلة من الجمود.
وبخصوص التحديات التي تنتظر الأمين العام الجديد أكد المصرح لهسبريس أن المنظمة الأممية تواجه وضعا معقدا بفعل الأزمات الجيو-سياسية العالمية، وتداعيات تغير المناخ والهجرة، وتنامي المطالبة بالإصلاح الهيكلي داخل الأمم المتحدة؛ ما يجعل منصب الأمين العام “في قلب اختبار صعب” يتطلب شخصية قادرة على إدارة الضغوط متعددة الأطراف دون التفريط في الدور المعياري والواسطي للمنظمة.
وسجل الخبير في نزاع الصحراء أن التزامات القرار 2797 تضع الجميع أمام مسار واضح يعيد تعريف الإطار القانوني والسياسي للنزاع من نموذج “التقرير التقليدي للمصير نحو الانفصال” إلى أفق “تقرير مصير داخلي” ضمن حكم ذاتي موسّع تحت سيادة المغرب؛ وهو تحول لطالما دافعت عنه فعاليات المجتمع المدني الصحراوي لما يوفره من ضمانات للحقوق والإدماج السياسي والثقافي.
وتابع الكاين بأن الانتقال في قيادة الأمانة العامة للأمم المتحدة “قد يمنح زخما إضافيا للعملية السياسية الجارية، بالنظر إلى إمكانية انخراط الأمين العام الجديد في دينامية متوازنة، وبروح جديدة تعيد الثقة بين الأطراف وتدفع نحو مفاوضات جادة وفق الإطار المحدد في مبادرة الحكم الذاتي”.
وأورد المتحدث ذاته أن وصول قيادة جديدة إلى رأس المنظمة يتيح أيضا “فرصة لتخفيف حدة التنافس بين القوى الكبرى حول ملف الصحراء، ويفتح المجال أمام التزام دولي متجدد، بعيدا عن المناورات السياسية السابقة التي ظلت الجزائر والبوليساريو تستند إليها لمحاولة عرقلة التوجه الدولي”.
وفي هذا السياق أبرز الخبير نفسه أن تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية يدعم بقوة الاستمرار في تعزيز الزخم الذي خلقه القرار 2797، باعتباره “تجسيدا واضحا لمبدأ تقرير المصير الداخلي”، والمبني على ضمانات الانخراط والحقوق والشفافية والمساءلة، داخل الدولة المغربية ذات السيادة، بما يتيح مقاربة حديثة لتقرير المصير تتسق مع القانون الدولي وتستجيب للمعايير الديمقراطية المعاصرة.
وختم عبد الوهاب الكاين حديثه لهسبريس بالتأكيد أن “ضخ دماء جديدة في قيادة الأمانة العامة سيشكّل اختبارا حقيقيا لقدرة الأمم المتحدة على تحقيق تقدم ملموس في النزاع، وخلق فرصة واقعية للتوصل إلى حل توافقي يجمع بين السيادة والحكم الذاتي وحقوق الإنسان، ويعيد الاعتبار للدبلوماسية كوسيلة مركزية لحل النزاعات الدولية”.
المصدر:
هسبريس