تبدأ الكاتبة المغربية نعيمة فنو مسارها الأدبي كما يبدأ الحلم حين يخرج من العتمة إلى النور، مدفوعة برغبة صادقة في الحكي وأن تكتب من قلب التجربة الإنسانية ما يعجز الواقع عن احتوائه. وتأتي كتاباتها كمرآةٍ للحنين وللجراح التي يخلّفها الاغتراب في النفس واللغة، لتصبح الرواية عندها فضاءً للبوح، وللتساؤل، ولإعادة بناء الذات المنفية بين الجغرافيا والذاكرة. وتنسج الكاتبة عوالمها السردية بخيوط من الألم والرجاء، وتُحيل الغربة إلى نسيجٍ جماليّ يختبر حدود الصبر والهوية والحنين إلى الأصل.
تُبدع الكاتبة المغربية في تحويل الوجع إلى لغة، وفي جعل الكلمات جسورًا تعبر بها من المنفى إلى الحضور. تكتب الرواية كمن تكتب حياتها، وتكتب القصيدة كمن يفتح نوافذ الروح على الريح. ومن أعمالها التي تُجسّد عمق تجربتها الشعرية “دولاب الخط” و”فلاسفة في ضيافة الشعر” و”عينيان في جمجمة مقمرة”، ومن أعمالها الروائية “غوانتيندوف” و”أجنحة من خشب”، وهي نصوص تحفر في التمزق الإنساني بين الاحتجاز والتعذيب والوطن والمهجر، بين الصوت والصمت، بين الرغبة في الانتماء والخوف من الفقدان. وفي كتاباتها، لا تكون الغربة مكانًا جغرافيًا فحسب، وإنما حالةً وجودية تسكن الإنسان أينما كان.
وتُجيد نعيمة فنو الكاتبة، الإمساك بتفاصيل الهشاشة الإنسانية، وتُعيد رسم الوجوه التي أنهكها البعد والزمن، لتجعل من الحكاية شهادةً على ما تبقّى من المعنى في زمن التيه. وحين تتحدث، تُصغي اللغة إليها كما تُصغي الأرض إلى المطر الأول؛ تُنصت إلى الذاكرة وتمنحها شكلاً فنيًا يتجاوز الاعتراف إلى الكشف. وتنبع أصالتها من صدق تجربتها، ومن وعيها بأن الكتابة ليست ترفًا بقدر ما هي فعل نجاةٍ ومعرفة، وبأن الرواية هي أكثر الأجناس قدرة على احتضان تناقضات الوجود.
وتتكرّس هذه الرؤية في تتويجها المستحق بجائزة كتارا للرواية العربية – فئة رواية الفتيان، إذ يجيء هذا الفوز بوصفه اعترافًا بموهبتها السردية وعمق رؤيتها للإنسان في لحظات الهشاشة والتحدي وممثلةً المغرب في هذا المحفل الثقافي العربي الرفيع.
وتركز الكاتبة نعيمة فنو، في هذا الحوار على منصة “هسبريس الإلكترونية”، على أنّ الكلمة الصادقة قادرة على عبور الحدود، وأن الاغتراب قد يُنبت أجمل النصوص حين يُكتب بلغة الحنين الناضج والوعي الجمالي العميق. وهي تزرع بين السطور ظلًّا من دفءٍ إنسانيٍّ نادر. تكتب لتُبقي الروح يقظة في وجه الغياب، ولتجعل من الأدب شهادة حياةٍ ضد الصمت، ومن الرواية بيتًا يتّسع لكل ما فقده القلب من وطنٍ ومعنى.
نص الحوار:
الكتابة بالنسبة لي فعل وجودي، متشابك ومتعب، يحتاج تركيزًا وسهرًا وتأملاً طويلاً، وعيشًا كاملاً في عوالم موازية. رواية «أجنحة من خشب» موجهة لليافعين، حين كتبتها حاولت كتابتها بروح الطفلة في داخلي وبحبٍّ أيضًا. عندما سمعت بخبر الفوز، لم أشعر بالخوف أو العبء، بل بشيء يشبه استيقاظًا مفاجئًا من حلم طويل؛ كأن الطفلَ الذي كان يكتب في الخفاء كبر فجأة، ووجد نفسه في مواجهة العالم وقد صارت أحلامه حقيقية. كان إحساسًا دافئًا، يشبه يدا تربت على كتفي، حملاً ثقيلاً أُزيح عن كاهلي؛ إذ أعفاني الفوز بالجائزة من عناء التفكير في النشر والتوزيع وإشهار العمل، فوفّر عليّ الوقت والجهد.
الكتابة للفتيان أصعب بكثير من الكتابة للكبار. فهي تتطلّب حساسية خاصة وقدرة على التوازن بين التأمل العميق والخيال الطفولي. حين أكتب لليافعين، عليّ أن أعيش العوالم الفانتازية بكل تفاصيلها، وأن أتماهى معها بصدق، لكن في الوقت نفسه أظل منتبهة لسلامة اللغة إملائيًّا ونحويًّا، وللنقاء الدلالي في كل عبارة، بحيث لا تحمل أي إيحاء غير مناسب للنشء. ورغم ذلك، فالكتابة للفتيان لا تعني تبسيط اللغة أو تسطيح الفكرة. وعلى العكس تمامًا، الطفل واليافع قارئ ذكي وفطن، يلتقط المعاني الخفية ويتفاعل مع الرموز أكثر مما نتصور. يمكننا تغليف الأفكار الفلسفية والإنسانية العميقة بقالب فانتازي جميل، وعندها يصبح النصّ جسرًا بين الدهشة والتفكير. كلّما احترم الكاتب ذكاء الأطفال واليافعين، كلّما جذبهم إلى إكمال الرواية حتى آخر سطر، بشغف واكتشاف. من هذا المنطلق، أرى أن أدب اليافعين هو في جوهره تجسيد لنظرية العوالم الممكنة، وتمرد هادئ على الواقع. فالعالم المتخيل في الرواية هو عالم بديل يمنح القارئ الصغير فرصة لاختبار ما يمكن أن يكون، لا ما هو كائن ومنطقي.
عنوان الرواية «أجنحة من خشب» يحمل مفارقة بين الحلم والقيود، بين الطيران والثقل، فهو يعكس تجربة الطفل الذي يصنع أجنحة من أعواد المثلجات ليحلق رغم إعاقته وصعوبات الواقع، ليجد فضاء يسمح له بالإبداع والاعتراف. تمامًا كما يحلق هذا الطفل، يحلق الكاتب المغربي والعربي بإبداعه وتفرده بأفكاره، متجاوزًا القيود الجغرافية والاجتماعية وكل الصعوبات.
الواقع، حيث يلتقي الخيال بالوعي، والدهشة بالتفكير العميق، وتصبح الأجنحة والأفكار المكتوبة رمزًا للحرية والإرادة الإنسانية، للانفلات من كل ما يعيق التحليق والتخليق. الطائر روح تُحلق في مخاض عفوي للتأليف بين قلب السماء والأرض.
صراحة، أرفض تصنيف الأدب إلى نسوي أو ذكوري، لأن الكتابة في جوهرها تتجاوز الانتماءات الجندرية؛ هي تجربة وجودية، ومساحة للاحتكاك مع الذات والعالم، حيث تتجلى الحرية الإنسانية في أكثر صورها نقاء. الكتابة ليست وسيلة لإثبات قوة أو منافسة بين الجنسين، بالمقابل هي فهم للوجود، ومواجهة العدم، واستكشاف ما يربطنا بالآخرين وبأنفسنا. شخصياتي، ذكورًا كانت أم إناثًا، هي تجليات لوعي مشترك يتصارع مع الحياة، يختبر الألم، يخطئ، ويعيد بناء ذاته. القوة التي نراها فيهن، هي نتاج التجربة الإنسانية وحضور الفرد في مواجهة التجربة الكاملة للوجود والكينونة. الأدب بهذا المعنى فضاء جماعي للوعي، حيث تتلاقى الأفكار والمشاعر والتجارب بلا حدود، وبلا تصنيف.
هناك تجاذب ديالكتيكي بين اللغة والفكرة. يُولِد هذا التجاذب حركة غنية في النص، وأحيانًا يبدو أن الفكرة واللغة متناقضتان، لكن في أحيان أخرى تسعفان بعضهما لإنتاج عمل متكامل. مع ذلك، الأهم بالنسبة لي في الرواية وقلبها النابض هو الموضوع ذاته، فاللغة ليست غاية في حد ذاتها، هي أداة لخدمة الموضوع، لتنساب عبره بسلاسة وتكشف عن عمق التجربة الإنسانية التي أريد أن أرويها. الكتابة الصادقة، حتى لو كانت محلية، قادرة على الوصول إلى العالمية إذا حملت عمق التجربة الإنسانية.
الجوائز مرآة تعكس تجربة العمل نفسه، وتضع الكاتب في مواجهة صريحة مع ذاته ومع القارئ. جائزة كتارا منحت عملي مساحة أوسع للاهتمام والتأمل؛ كانت بمثابة لحظة مساءلة مستمرة لي: هل يعكس هذا النص عمق التجربة الإنسانية التي أسعى إلى سردها؟ وهكذا، تصبح الجائزة بداية جديدة لمسؤولية أكبر تجاه الكتابة، تجاه القارئ، وتجاه كل تجربة إنسانية يجد فيها النص صوته وينبض بالحياة. في عالمنا العربي، أصبحت الجوائز الأدبية ذات أهمية بالغة، لأنها غالبًا الوسيلة الوحيدة التي تتيح للكاتب الوصول إلى القراء. وللأسف، كثير من القنوات التي يمكن أن تعرّف القراء بالمبدعين تكاد تكون معدومة، لذا تصبح الجوائز الشقّ الوحيد المطل على النور. أي عمل فائز بجائزة مرموقة، أو مدرج ضمن قوائمها الطويلة أو القصيرة، يحظى باهتمام القراء بشكل مباشر؛ فمعظم زائري المكتبات ومعارض الكتاب يسألون عن الأعمال الفائزة، وهم واثقون أن هذه النصوص ستنال إعجابهم.
أبحث في كتاباتي الشعرية والروائية، وفي لوحاتي التشكيلية، عن التفرد، لأن الإبداع في جوهره تأسيس للوجود على نصاب جديد، مغاير ومخالف. حتى الخط المستقيم في جهاز تخطيط القلب قد يعني الموت، ما يذكّرنا بأن اتباع المسار المعتاد والمتداول ليس ضروريًّا وحتميًّا. لذا أسعى إلى توليد ذبذبات جديدة توحي بالاختلاف والحركة.
المزاج السردي في كتاباتي ينبع من رغبة عميقة في البحث عن لغة تتجاوز المألوف وتكشف عن ذاتي في لحظات التماس بين الحلم والواقع. الإبداع في حد ذاته تأسيس للغة داخل اللغة، والإتيان بما هو جديد يشبه ومضات ضوء في شدة العتمة.
أكتب من موقعي الوجودي القلق، من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل في آن واحد. تنبع كتابتي من تجربتي الخاصة، لكنها تتجاوز الذات لتلتقي بالآخرين. أكتب للقراء الباحثين عن نص صادق، سواء كانوا من المغرب أو من دول أخرى، ولمن يحتاج أن يوصل صوته بالقلم: للأسرى، وللأشخاص في وضعية إعاقة، ولمن عايش ويلات الحرب، للجياع، للموتى الذين لم تسعفهم الكلمات ليقولوا كلمتهم الأخيرة، ولمن يعانون في صمت من التهميش والتنمر والفقر… أكتب لأن الكتابة نبض الإنسان، واللغة بنت شفة، والقلم لسان الغائبين، وصوت من فقدوا القدرة على التعبير ومقارعة سنن الحياة.
الكتاب والكتابة السردية لهما سحرهما وخصوصيتهما التي لا يمكن أن تُعوّض. فملمس الورق ورائحته ولمس الغلاف ووضع الفاصل الملوّن بين الصفحات لحفظ الملاحظات، كلها تفاصيل تخلق علاقة حميمة بين القارئ والنص. ومع ذلك، لا يمكن إنكار دور التكنولوجيا اليوم في نشر الأدب والتعريف به، إذ يمكن استثمار العالم الافتراضي كجسر للتواصل والإشهار، دون أن يكون بديلاً عن دفء الكتاب الورقي وحضوره الإنساني. الكتاب والقراءة هما منقذان للإنسان، وشكل من أشكال المقاومة الميتافيزيقية للتقنية، يحافظان على الخيط الناظم والعلاقة الأصيلة بين الإنسان والعالم والوجود.
من حسنات الجوائز الأدبية أنها تساهم في نشر العمل على نطاق واسع، وتعرّف بالكاتب خارج حدود وطنه وفي العالم العربي أو أبعد.
وإذا تُرجِم العمل إلى لغات أخرى، فإنه ينتشر ويصل إلى قرّاء لم يكن بالإمكان بلوغهم لولا هذا التكريم. ومع ذلك، يظل الكاتب الحقّ يكتب من أجل الكتابة نفسها، ومن أجل الإبداع الخالص، إذ تشبه الكلمة الصادقة طائرًا حرًّا لا يعرف على أي شجرة سيحط، لكنها حتمًا تصل حيث يُقدَّر لها أن تصل.
سأبدأ بمقولة مالك بن نبي: “حين يكون المستهدف وطنا يصبح الحياد خيانة والصمت تواطُؤًا”. فالكتابة عن الأسرى المغاربة ومخيمات تندوف واجب وطني وإنساني قبل كل شيء. فكل مغربي يحمل في داخله ألماً خفيًّا تجاه ما جرى هناك، المبدع الحق لا يمكنه أن يظلّ محايدًا أمام المعاناة، فهو بالضرورة يحمل همًّا إنسانيًّا ووجوديًّا يدفعه إلى تحويل الألم إلى كتابة، والصمت إلى شهادة موثقة، خصوصًا وأن والدي كان من المشاركين في حرب الصحراء لسنوات، عشت معه تفاصيل الحرب والغياب والموت وفقدان رفاقه … لقد أنجب المغرب أبطالاً وبطولاتٍ كبرى لم تنل ما تستحق من تقدير، وكثيرًا ما تُركت في زوايا النسيان.
الأسرى المغاربة في حمادة تندوف أدّوا أدوارًا وطنية وإنسانية عظيمة: نقلوا ثقافة المغرب وروح التسامح داخل المخيمات، وصححوا العديد من المغالطات لدى أطفال البوليساريو، ودرّس بعضهم العربية والفرنسية والإنجليزية لأبناء الأسر، كما ساهم آخرون في إفشال عمليات عدائية كانت موجهة ضد وطنهم. وبعض هؤلاء الأسرى كان نموذجًا يُحتذى به في الأخلاق والانضباط، حتى إنّ من أسروه احترموه وأعجبوا بسلوكه، فكان له بذلك دور أساسي في عودة عدد من عناصر البوليساريو إلى الوطن الأم المغرب. لقد جسّدوا أسمى معاني الوطنية من داخل الحفر من داخل أعمق مكان في الكون وأعنف معتقلات العالم.
المغربي إنسان مثقف، يحمل حرقة الوطن في قلبه؛ منهم الطيارون والأطباء، وأفراد القوات المسلحة الملكية، والقوات المساعدة، والدرك الملكي، والمدنيون، وحتى النساء اللواتي ذقن قسوة الاعتقال في سجون معزولة داخل الحمادة. كتبتُ لفضح ما جرى هناك، وما تم التستر عليه لسنوات طويلة: كيف عاش الأسرى، وما ذاقوه من صنوف التعذيب على أيدي الكوبيين وجنسيات أخرى ومن دعم وساعد جبهة البوليساريو في قتال المغرب. تحدثت عن أسماء المعتقلات، وأنواع الأعمال الشاقة التي كان يُجبر الأسرى على القيام بها، وعن الأسلحة المستعملة، والمتدخلين، وجغرافية المكان، والأسماء المستعارة للجلادين والمعذّبين ومن دفنوا هناك دون كفن …
الرواية تتناول بالأساس حياة الأسرى في معتقلات الرابوني بحمادة تندوف، وذكائهم للبقاء على قيد الموت وعلاقتهم بالمخيمات، وتواصلهم وتعاونهم معهم في السرّ، موثقةً جهودهم الإنسانية والوطنية رغم قيود الأسر. في الرواية حاولت أن أُعيد إلى الذاكرة معاناة المرأة المغربية المحتجزة في تلك السجون والمخيمات، وأن أوثّق بطولات مذهلة لعدد من الأسرى الذين نجحوا في الهروب بطريقة مدروسة لا يقدر عليها إلا المغربي الحرّ.
كتبت عن تندوف ومعتقلات الحمادة لأنني أردت أن أنقل إلى الأجيال معاناة أكثر من 2400 أسير عاشوا في أبشع الظروف، داخل حفر في العراء لا تليق بكرامة الإنسان. كانت الكتابة بالنسبة إليّ فعل وفاء وصرخة ضد النسيان، ومحاولة لإحياء ذاكرة وطنية ما زالت تنبض في القلوب قبل الأوراق. وحتى أولئك الذين ماتوا بطرق بشعة تحت التعذيب في صحراء تندوف، يستحقّون منا، نحن المبدعين المغاربة، تحية عسكرية عظيمة بالقلم والحبر، لأن أرواحهم ستظلّ تكتب معنا سطور الكرامة إلى الأبد. ومن جميل الصدف أنني تسلّمت أولى نسخ الرواية يوم 31 أكتوبر، يوم عيد الوحدة، وكأنّ القدر أراد أن يربط بين ميلاد الرواية وذكرى الوطن الذي كُتبت من أجله.
المصدر:
هسبريس