قدم سعيد شبار، الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى وأستاذ التعليم العالي، قراءة مفصلة للسيرة النبوية كمرجع أساسي للقيم الإنسانية والكونية، وذلك خلال الدرس الافتتاحي للسنة الجامعية 2025-2026 بكلية أصول الدين بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، اليوم الأربعاء.
وأوضح شبار أن السيرة النبوية تمثل أول خطاب ديني اعترف بالأقليات الدينية وصان حقوقها، مشيرا إلى “صحيفة المدينة” كنموذج صريح على ذلك، مؤكدا أن الإسلام أسس لمبادئ العدالة والمساواة والحقوق الكونية منذ قرون، مشددا على ضرورة إعادة استحضار البعد الإنساني الذي ميز السيرة النبوية.
ويرى شبار أن “صحيفة المدينة” التي يسميها الباحثون الآن بـ”دستور المدينة”، كانت سابقة في التاريخ الإنساني، مشيرا إلى أنه لم يسبق أن نصت رسالة ما على حقوق الأقليات الدينية والثقافية مثلما نصت عليه “صحيفة المدينة”، معطيا مثالا ببند “يهود بني عوف أمة واحدة مع المؤمنين”، و”لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”.
وأضاف المحاضر أن السيرة النبوية ليست مجرد سرد تاريخي لحياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل تشكل نموذجا متكاملا لاستلهام المبادئ الأخلاقية والإنسانية، ولترسيخ فهم شامل للرسالة الإسلامية الذي تتجاوز حدود الزمان والمكان.
وأوضح قائلا: “السيرة هي حياة النبي، وبالتالي مُدارسة السيرة تختلف عن مُدارسة الحديث النبوي، لأنها توفر فرص استلهام قدوة النبي في حياتنا من خلال معاني ودلالات التصرف والقول والفعل النبوي”.
وشدد على أن السيرة النبوية تكرس القيم الإنسانية والكونية للرسالة الإسلامية، وهذا ما يمزها عن باقي الرسالات السماوية، فالنبي عليه الصلاة والسلام أُرسل للناس كافة، وهو تحول تاريخي في مسار الأديان التي كان أنبياؤها يُرسَلُون إلى أقوام محدودين في الزمن والمكان.
ويرى المحاضِر أن “المسلمين اليوم لم يقدموا بعد الخطاب الإسلامي إلى الناس كافة كما قدمها سلفهم باستحضار البعد الإنساني للإسلام”، مسجلا “تراجعا وانكماشا وانحصارا كبيرا” في الزمن الحاضر، مرجعا ذلك إلى “تراجع الوعي والفهم في علاقته بالنص القرآني والنبوي كمعرفة تؤسس لهذا المعنى الإنساني المفتوح للإسلام”.
وأشار شبار إلى أن المجلس العلمي الأعلى، بتنسيق مع المؤسسات التربوية والجامعية، جعل من هذه السنة مناسبة لإحياء المعاني النبوية، بما يتماشى مع رسالة الملك التي دعت المجلس العلمي إلى تخصيص فعاليات حول السنة والسيرة بمناسبة مرور 15 قرنا على ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.
محددات الاصطفاء في الإسلام
يشرح الدكتور شبار أن معرفة أسس الخطاب النبوي ومنطلقاته تتطلب فهم المفردات القرآنية التي تشير إلى مفاهيم الرسالة الإنسانية والكونية، مشيرا إلى ثلاثة محددات أساسية، هي “الحفظ” و”الختم” و”الإكمال والتمام”.
فبخصوص المحدد الأول، يوضح شبار أن الحفظ معناه أن الخطاب الإسلامي محفوظ دون غيره من باقي الخطابات والرسالات السماوية السابقة التي اندثرت أو حُرفت، مشيرا إلى أن هذا المحدد هو منهجي ومؤسس لبناء معرفة خاصة بالرسالة النبوية.
وقال في هذا الصدد: “حين أقرأ نصا من العهد القديم (التوراة) أو الجديد (الإنجيل) لا يطمئن قلبي إلى أنني نقرأ نصا إلهيا خالصا، لكن مع القرآن نستحضر أننا أمام محدد الحفظ باعتباره النص الوحيد المؤسس لكلام الله لدى الإنسان”، لافتا إلى أن محدد الحفظ يميز القرآن عن باقي الرسالات، ويجعل منه أساسا علميا وروحيا للبحث والدراسة.
وأوضح المحاضر بخصوص محدد “الختم”، أن القرآن يُعد “خاتم رسالات الرسل وسلسلة الأنبياء”، مضيفا أن الختم يحمل معنى الفتح في نفس الوقت، “لأن الاصطفاءات الرسلية السابقة كانت محددة بالزمان والمكان، وجاءت رسالة الإسلام لتنقل هذا الاصطفاء من البعد المغلق والمحدود إلى رسالة مفتوحة في الزمن والمكان مع الرسالة النبوية”.
واعتبر أن الخطاب القرآني يقوم على محدد “الإكمال والإتمام” للرسالة الربانية، لافتا إلى أن الرسالة الإسلامية جاءت لتكمل الشرائع السابقة، موضحا: “هذا لا يعني أن الرسالات السابقة كانت ناقصة أو غير تامة، فالرسل السابقين بلغوا شرائعهم كاملة وتامة، لكنهم بلغوها في إطار زماني ومكاني محدد، غير أن الكمال والتمام في الإسلام غير محدد في الزمن والمكان، لذلك أصبحت الرسالة الإسلامية هي المعجزة في حد ذاتها”.
وأشار إلى أن “كل مفردة وكلمة من القرآن الكريم لها كل المعاني والدلالات الإعجازية للقرآن كاملا، باعتبار القرآن وحدة بنائية للمفردات هي نفسها الوحدة البنائية للكون وللإنسان، أي أنه خطاب يخاطب الناس جميعا، عكس الرسالات السابقة التي تخاطب إنسانا محددا في الزمان والمكان” حسب قوله.
مفردات الرسالة الإسلامية
يشير الدكتور شبار إلى أن الرسالة الإسلامية جاءت بمفردات (تأخذ معاني المفاهيم) لم يسبق أن تناولتها أي رسالة سابقة، أبرزها مفردات “التعارف” و”التدافع” و”الكلمة السواء” والاستخلاف” والتسخير”.
ويوضح بخصوص المفردة الأولى أن الإسلام أسس لمبدأ التعارف والتعايش وقبول الآخر من خلال الآية القرآنية “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، مشيرا إلى أن التعارف المعاصر يشمل تبادل المعرفة والاعتراف بحق الآخر في الوجود.
وأبرز أن “التدافع” الذي ينطلق من الآية القرآنية “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا”، مبتغاها الأساسي هو تحقيق السلم، فرغم أن الآية جاءت في سياق القتال لكنها تؤسس للسلم باعتبار أن الدفاع يحفظ أماكن العبادة، أي أنه دفاع من أجل السلم ومنع الحرب.
وأشار المتحدث إلى أن “الكلمة السواء” (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)، و”الاستخلاف” (إني جاعل في الأرض خليفة) من المفردات التي لم يسبق أن تناولتها أي رسالة سابقة، وهي من أبرز المفاهيم الراقية وغير المسبوقة في السياق التاريخي التي تكرس البعد الإنساني والكوني للإسلام.
كما أوضح أن مفردة “التسخير” تجسد، أيضا، مفهوما بدلالات معرفية وإنسانية راقية وغير مسبوقة لدى باقي الحضارات، فهي ترسخ نظرة الصداقة والتعايش بين الإنسان وباقي الموجودات، مشيرا إلى أن هذا المفهوم يجعل نظرة الإنسان للطبيعة نظرة صداقة وليست نظرة عداء وهيمنة كما هو الحال بالنسبة للحضارة الغربية حاليا، وفق تعبيره.
دوائر الخطاب النبوي
في نفس السياق، بيّن شبار أن الإسلام يتميز بطريقة تدريجية في مخاطبة الناس، حيث تنتقل الرسالة من الدائرة الصغيرة إلى الدائرة الكبرى، وهي ميزة إنسانية فريدة، موضحا بالقول: “الخطاب ينتقل من النبي إلى آل بيته وعشيرته وأم القرى (مكة)، ثم إلى الناس أجمعين، وهذه الأخيرة كانت حصرا على الرسالة الإسلامية”.
إقرأ أيضا: الرحموني: السيرة النبوية مرجع للإنسان الكامل ونموذج لحل الأزمات وبناء المجتمعات
وأكد أن إدراك الدوائر المستهدفة بالخطاب أمر ضروري لمنح القيم الإسلامية بعدها الإنساني الكوني، قائلا: “نحن مطالبون مثلا بالعدل مع ذواتنا وأسرنا وجيراننا وأقاربنا وحينا ومدينتنا ووطننا ومع الناس أجمعين، وتطبيق العدل في الأسرة ليس هو نفسه مع الناس أجمعين”.
وشدد على أن بعض المسلمين لم يرتقوا بعد إلى هذه الدائرة الإنسانية الكاملة، متسائلا: “هل نحن فعلا مرتقون بأخلاقنا وأفعالنا وقيمنا إلى هذه الدائرة الإنسانية؟ أم لا زلنا ننتمي لدائرة الأسرة والعشيرة، بل وحتى دائرة الأمة تعرف اختلالا في استيعاب مفهومها”.
القيم والأخلاق
وأكد الدكتور شبار أن الرسالة الإسلامية منحت الدين دورا فريدا في التوجيه الأخلاقي والقيمي، موضحا أن الإسلام قام بتحرير القيم والأخلاق من كل نزعة قبلية محدودة أو مثالية طوباوية، إلى قيم وأخلاق إنسانية كونية للناس كافة.
وأوضح أن الباعث على الأخلاق في الإسلام هو الإيمان، مع الجزاء كنتيجة للفعل، وهو ما يميزها عن أخلاق الجاهلية أو الفلاسفة اليونانيين، فلدى الجاهلية كانت الأخلاق (الشجاعة، المروءة…) باعثها قبلي، ولدى فلاسفة اليونان (المدينة الفاضلة) كانت مجرد مُثل عليا لم تُنزل للتطبيق العملي.
واعتبر الأستاذ الجامعي أن الإسلام في نظرته للأخلاق هو دين منفتح وقابل لاستوعاب باقي مصادر الأخلاق والقيم، كالعقل والعرف والعلم وغيرها، لكن بشرط أن تتحدد فيها المصلحة والصلاح.
وأشار الدكتور شبار في هذا الصدد إلى “صحيفة المدينة” كنموذج رائد، قائلا: “لم يسبق أن نصت رسالة ما على حقوق الأقليات الدينية والثقافية كما نصت صحيفة المدينة”.
التطبيق العملي
في سياق متصل، بيّن شبار أن السنة والسيرة تشكلان المرجعية العملية للنص القرآني، مشددا على أن فهم تصرفات النبي تنطلق من 5 مستويات، هي تصرفه بالتبليغ، بالفتوى، بالإمامة، بالقضاء، ثم بالطبيعة البشرية، وهي مستويات الخطاب النبوي للإنسان.
وأضاف أن “الصحابة كانوا يميزون تصرفات النبي بمقتضى الإمامة والقضاء والطبيعة البشرية باعتبارها اجتهادات، وتصرفه بالتبليغ والفتوى باعتبارها وحيا، فكان كل ما له علاقة بالقضاء يُسند للقضاء، وما له علاقة بالطبيعة البشرية يُسند للخبرة الإنسانية، وهكذا…”.
وتابع قوله: “هناك كثير من الجماعات التي تريد إصلاح الأمة في وقتنا الحالي، لكن مشكلتها في فهم وتنزيل السيرة النبوية، وهو ما أنتج لنا مفاهيم معاكسة، فأصبح عندنا الحرب هو الأصل والسلم هو الاستثناء، والمنكر هو الأصل والمعروف هو الاستثناء، والخوف هو الأصل والأمن هو الاستثناء”.
وشدد على أن النبي كان يخوض الحرب من أجل تثبيت السلم والأمن، وليس العكس، مشيرا إلى أن الأصل في الإسلام هو الأمن وأن الخوف استثناء، والسلم أصل والحرب استثناء، والصدق والعدل أصل وغيرها استثناء.
وأردف قائلا: “هناك من يقول إنه يريد إقامة الخلافة ويخوض حربا يسفك فيها الدماء وينتهك الأعراض والأنفس والعقول، وهو ينتهك بذلك الكليات الخمس التي جاء الدين لحفظها، لذلك نقول إن السيرة مُلهمة لنا في الفهم والتنزيل، وهي تعلمنا ترتيب الأولويات”.
رسالة كونية تستوعب الجميع
قدم الدكتور شبار مثالا حيا على الرحمة النبوية العالمية في التعامل مع المخالفين، مستشهدا بتدبير النبي للمخالفين ضمن ما أسماه المحاضر بـ”النموذج الأدنى” من خلال الأعرابي الذي دخل على النبي في مسجده رفقة أصحابه، وهو يشدد في سؤاله، حيث أراد الصحابة أن يضربوا عنقه، لكن النبي رفض ذلك واستقبله ورحب به.
وأشار شبار إلى “النموذج الأعلى” وهو تدبير المخالف عقديا، سواء مع المشركين أو مع أتباع الديانات الأخرى، معتبرا أن هذا التدبير كان غير مسبوق في السياق التاريخي والرسائلي للأديان والحضارات.
وأبرز المتحدث نموذجا راقيا من عهد الصحابة، مشيرا إلى الواقعة التاريخية للصحابي ربعي بن عامر عندما التقى بـ”رستم” قائد الفرس قبل معركة القادسية، ليصف مهمة المسلمين في نشر رسالة الإسلام بعبارته الشهيرة: “جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
واعتبر المحاضر أن هذا الصحابي لخص الرسالة النبوية في 3 مفردات أساسية، وهو بذلك حدد محددات القيم الإسلامية الكبرى، وهي التوحيد والعدل والحرية، وهي قيم تستوعب الناس جميعا.
ويرى شبار أن هذه المحددات تفسر سرعة امتداد الإسلام وفتحه العالم في ظرف قياسي، باعتباره انطلق من قيم كلية كونية قادرة على استوعاب كافة الناس باختلاف ثقافاتهم وأعرافهم ودياناتهم، فالخطاب الإسلامي هو خطاب إنساني، حيث يجد هذا المختلف ذاته في الرسالة الإسلامية لأنها تقوم على الفطرة الإنسانية، وقيمها تعبر عن ذات الإنسان، يقول المتحدث.
بالمقابل، يشير الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى إلى أن نزعات التحرر الحالية في العالم الغربي، والتي تُخرج الإنسان من آدميته، لم تنجح لأنها لم تنطلق من القيم الإنسانية والحقوق الإنسانية الأساسية للإنسان في الحياة، حسب قوله.
وختم قوله: “إننا نحتاج اليوم إلى تقديم معرفة جديدة لطريقة تعامل الإنسان مع القيم، من خلال السيرة النبوية، عبر تمثلها في أنفسنا واستعادة معانيها التي افتقدناها كمسلمين، ثم تقديمها للآخرين، وهذا دورنا ووظيفتنا كباحثين ونخب وأكاديميين، إذ يجب أن نسهم فيها، كل من موقع وقدرته، فالتغيير لا يتم من خلال عصا سحرية، بل عبر تغيير جيلي ينطلق من إشعاع وحمل القيم الإنسانية الإسلامية من جديد”.
السيرة.. معاني تبني الإنسان
إلى ذلك، قال عميد كلية أصول الدين، عبد العزيز الرحموني، خلال افتتاحه لهذه المحاضرة، إن السيرة النبوية تعد مصدرا معرفيا أساسا في دراسة التاريخ الإسلامي وعلوم الشريعة، لما تحمله من شواهد عملية تجسد القيم والمفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم.
وأوضح الرحموني أن السيرة النبوية تمثل الإطار التطبيقي لفهم النصوص الشرعية، وتوفر مادة تحليلية تسهم في بناء منهجية علمية لفهم التحولات الاجتماعية والسياسية والدينية في صدر الإسلام.
وبحسب المتحدث، فإن سيرة النبي تتيح السيرة مجالا لاستقراء آليات القيادة النبوية وأساليبها في إدارة التنوع، وترسيخ المبادئ الإنسانية والكونية مثل العدل والتسامح، والكرامة الإنسانية.
ومن خلال تحليل أحداث السيرة وسياقاتها، يرى العميد أنه يمكن للباحث الوقوف على نماذج رائدة في حل الأزمات وبناء المجتمعات، مما يجعل دراسة السيرة النبوية ضرورة علمية لفهم تطور الفكر الإسلامي وإمكانات توظيفه في معالجة قضايا العصر.
وتابع قوله: “السيرة النبوية تحتل مكانة محورية في بناء الوعي الإسلامي، فهي تمثل التطبيق العملي للوحي الإلهي، والنموذج الأسمى للإنسان الكامل في أخلاقه ومعاملاته وقيمه، ومن خلال السيرة نتعرف على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف جوانبها: قائدا ومربيا ومصلحا وحاملا لرسالة الرحمة للعالمين”.
كما تعد السيرة، وفق المتحدث، مرجعا تربويا وأخلاقيا يزود الفرد والمجتمع بالقيم التي تقوم عليها نهضة الأمم، مثل العدل، والصدق، والإحسان واحترام الإنسانوأوضح أن أهمية السيرة تبرز أيضا في قدرتها على تقديم حلول واقعية للتحديات المعاصرة، قائلا: “السيرة تظهر لنا كيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم الأزمات، وكيف أسس مجتمعا متماسكا قائما على المبادئ الإنسانية والكونية”.
وختم عميد كلية أصول الجين قوله: “لذلك، فإن دراسة السيرة ليست مجرد قراءة تاريخ، بل هي استلهام للقدوة، واستحضار للمعاني التي تبني الإنسان وتصلح الواقع”.
المصدر:
العمق