بدأت قصة سينما المرتزقة منذ لحظة قبول عسكريين لا انتماء ولا ولاء وطني لهم ولا يدافعون عن قضية كبرى، وإنما همهم الأكبر في “من يدفع أكثر”. وظهرت فكرة المرتزقة بوصفها حرباً مأجورة، استأجرتها قوى أو جهات على هامش القانون أو الدولة، ليصبحوا محور السرد البصري الذي يكشف أوجه الصراع والولاء والربح. وقد سمحت “سينما المرتزقة” بتجلياتها بأن يتداخل البعد الفلسفي بالبعد الثقافي بالبعد السياسي، فتساءلت عن أخلاقيات العنف، وعن الهوية، وعن حدود البطولة، لتتحول مشاهد إطلاق النار إلى أطروحات حول البشر الذين ينهبون الصراعات أو يُنهَبون فيها.
تتعدد التسميات التي ارتبطت بهذا اللون السينمائي. وتُعرف أحياناً بـ “سينما المأجورين” أو “سينما الجيوش الخاصة” أو “سينما ما بعد الحرب الباردة”. وتندرج ضمن فروع سينما الأكشن والسياسة معاً، لكنها تمتلك استقلالاً جمالياً يقوم على التوتر الأخلاقي، والعنف المدروس، والبطولة الغامضة. وتنزع هذه السينما إلى تصوير العالم من زاوية براغماتية قاتمة، وتدفع المتلقي إلى التساؤل عن دور الإنسان حين تُختزل قيمه في أجرٍ ومهمة.
تقف هذه السينما أولاً على فكرة البطل الواضح الذي يقاتل من أجل وطنه أو عقيدته، فمثّلت فرداً يدور في دوامة من الربح والخيانة، ومن ثمّ أصبحت مرآة للوجه القاسي للهيمنة والاستعمار وما بعده. والشخص المرتزق في السينما “يرمز إلى تقاطع التجارة والنزاع… ويطرح أسئلة عن الولاء، وعن الاستغلال، وعن تكلفة الحرب على الإنسان”. ومن هنا تنبثق أهم أشكال هذه السينما: شكل الحرب التقليدية التي تتغيّر فيها المعادلات حين يتبدّل الربح بالدافع، وشكل التدخّل الخاص خارج إطار الدولة، وشكل البطل المنفصل عن الأيديولوجيا.
وثانياً، أبرزت “سينما المرتزقة” إشكاليّات عديدة: لا وضوح أخلاقي، ولا وضوح في الحلفاء أو الأعداء، واختراق الحدود بين العسكري واللّاعسكري. ولقد تساءلت هذه السينما: من يتقاضى الثمن ومن يدفعه؟ من يرى الحرب تجارة ومن يرى فيها خلاصاً؟ وكيف يتعامل الإنسان – المرتزق – مع ذاته حين يصبح الآلة والذات في آن واحد؟ فكما يُقال، فإن المرتزقة في الأفلام يشكلون أداة سردية لغموض الولاء، وفقدان الثقة، وانزياح الأخلاق إلى طرف الربح. وقد أدى هذا الغموض إلى دفع البنية السردية نحو مسار تشويقي لكن داخلي، حيث البطل قد لا يكون “بطلاً” تقليدياً، وإنما “مأجوراً” يجد نفسه مدفوعاً داخلياً إلى اختيار أو رفض. وفي فيلم “القاتل المأجور”، The Gunman (2015) للمخرج بيير موريل، نرى أن الشخصية كانت جندياً خاصاً سبق أن ارتكب اغتيالاً ثم تقطّعت به السبل في مهمته، فـ”يعود” ليُعالج أخطاء الماضي.
وثالثاً، عمدت هذه السينما إلى أفكار جوهرية: فكرة أن الحرب لم تعد حكراً على الدول، وأن العنف يرتبط مباشرة بالربح، وأن الفرد المرتزق يُمثل طرفاً وموضوعاً في الوقت ذاته. وفكّر صانعوها في أن المرتزقة ليسوا مجرد مجرمين أو أبطال، وإنما يمثلون ظاهرة وجودية في زمن الحرب الباردة والعولمة وتجارة الأسلحة. وقد تناولت الخلفية الفلسفية والثقافية لهذه الفكرة: إذ تقول بعض الدراسات إنّ المرتزقة يعبّرون عن حالة “الرجل/الآلة” في زمن ما بعد الحداثة، رجل بلا وطن، بلا قلب، بلا مبدأ ثابت، يسير من عقدٍ إلى عقدٍ كمن ينتقل من مشهد إلى آخر، ويحمل رشاشاً لكنه يحمل أيضاً ثمنه.
رابعاً، من حيث الهوية الفيلمية والبناء السردي، لم تكتفِ هذه النوعية بالسرد الخطي التقليدي بقدر ما وظّفت تقنيات عديدة: مشاهد الحرب في فضاءات نائية، خبرة العزلة، الفكر والتردّد، والخيانة الداخلية، وحتى الانكفاء النفسي. وكانت “الهوية” مقترنة بصورة البطل المرتزق الذي لا ينتمي لجبهة محددة، وإنما ينتقل بين ساحات النزاع، بين عقود التسليح، بين رماد الموت. وغالباً ما تأخذ هذه الأفلام طريقها عبر مهمة مبدئية تبدو واضحة، لكنها تتحول إلى اختبار للولاء والنفس، فيتحول المرتزق إلى مراقب لنفسه قبل أن يكون مراقباً للعدو.
خامساً، في استعراض الخلفية الثقافية لهذه الظاهرة: في لحظة ما بعد الاستعمار والهيمنة الصناعية، والحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي وحرب الأيديولوجيات، أصبح المرتزق جزءاً من الآلة العسكرية-التجارية، وظهرت الشركات العسكرية الخاصة بشكل فعلي. وقدمت السينما هذا الواقع المغلف بالخيال، فكان المرتزق في عدة أفلام بمثابة “كاتب صفحة الحرب” أو “رسّام لوحة الفوضى”. ومع هذا، ظل السؤال الأخلاقي قائماً: هل تتغيّر قواعد الحرب حين تصبح صفقة؟ وهل تبقى القيم نفسها حين يُستبدل الوطن بالدولار؟
من بين القصص في سينما المرتزقة والتي تعكس هذه الأبعاد، نذكر فيلم “الإوز البري” / The Wild Geese (1978) للمخرج أندرو في. ماكلاجلن، الذي عرض في أجواء ما بعد الاستعمار الأميركي-البريطاني، حيث موظّفو جيش من المرتزقة يُرسلون لمهمة إنقاذ في أفريقيا وتنكشف الخيانة وراء المهمة. كما فيلم “ظلمة الشمس” / Dark of the Sun / Le Dernier Train du Katanga (1968) للمخرج جاك كارديف، والذي غاص في مرحلة سيطرة بلجيكا على الكونغو والاستعمار الجديد، تدور أحداثه حول مجموعة من المرتزقة يرسلون في مهمة لإنقاذ مجموعة من المدنيين واستعادة كميات ضخمة من الألماس وسط حرب أهلية.
وتطرح هذه السينما أن الحرب ليست معركة قيم فقط وإنما تجارة، وأن الفرد في الحرب يمكن أن يكون كائناً بلا وطن أو مبدأ، وأن الولاء يُشتري أو يُباع، وأن العنف بحد ذاته يصبح خدمة يقدمها. ويصفهم المخرج ساشا وولف بأنهم: “هؤلاء المرتزقة الذين نستدعيهم من جميع أركان الأرض” في فيلمه Mercenary (Mercenaire) / “المرتزق” (2016). وعليه نرى أن خلفية هذه النوعية ليست مجرد حركة وإثارة بل تأمل وجودي في طبيعة الحرب، في الفرد، في السلطة، وفي المال.
أما ما يخص البنية السردية، غالباً ما تبدأ القصة بمهمة (إنقاذ، تأمين، انقلاب) ثم تواجه الشخصية المرتزقة بردود أفعال: خيانة، أزمة وفقدان، صراع داخلي، وفي بعض الحالات استرداد كرامة أو إنهاء العقد. وبما أن البطل ليس ثابتاً، فإن بناء التوتر يعتمد على تغيّر الولاء وتحوّل الغرض. وتقدم هذه السردية الفِلمية، شخصية خارج المؤسّسة العسكرية الرسمية، تضعها في مواجهة مباشرة بحقيقة أن الحرب لم تعد حكراً على الدولة.
ونجد أن التصوير كثيراً ما يعمد إلى فضاءات غريبة أو حدّة بصرية تؤكد العزلة، ونبرة تصوير خشنة تُبرز الواقع وليس هوليوود اللامعة؛ والمرتزق يُصور غالباً ببدلة قتالية أو مموّهة، كأداة داخل آلة أكبر، لكنه في لحظة يكشف عن ذاته، أو يُسيء استثمارها. وهذا ما يجعل السينما المرتزقة ليست مجرد فيلم حركة، فهي سرد عن ضمير مضاعَف عنيف وموجوع.
وتقف “سينما المرتزقة” عند مفترق بين الأكشن والترميز، بين المتعة والتحذير، وبين السرد الحربي التقليدي والتحليل الفلسفي. ولقد صنعت هوية خاصة بها، ونقلتها إلى جمهور يبحث ليس فقط عن إطلاق نار، وإنما عن وجه من وجوه العنف يُحكى بلغة السينما، عن رجل بلا وطن يدفع الثمن، وعن مهمة لم تعد تضحية وإنما عقداً. ومن هذه الزاوية نرى أن المرتزقة في السينما ليسوا أشراراً أو أبطالاً فقط، فهم رموز لعصرٍ تتحول فيه الحرب إلى سلعة، والفرد إلى عاملٍ في ماكينة النزاع.
يتقدم البطل في سينما المرتزقة بوصفه كائناً مأزوماً، عالقاً بين الضرورة والاختيار، ويعيش داخل منظومة عنف تُعيد تعريف القيم على ضوء الثمن والغاية. ويخرج من العتمة لا كمنقذ تقليدي، وإنما كفاعل يبحث عن خلاص شخصي وسط فوضى سياسية ومادية ونفسية. وتتحول البطولة هنا إلى منطقة رمادية لا تعرف النقاء الأخلاقي، ولا تقف على يقين قيمي. ويظهر المرتزق بطلاً مضاداً، يُستأجر لإنجاز مهمة لا يؤمن بها بالضرورة، لكنه يسعى من خلالها إلى نوع من التبرير أو التكفير أو إثبات الذات. ويختبر الإنسان في داخله، ويُحاكم نفسه على حافة السلاح.
ويُجسد هذا البطل هشاشة العلاقة بين القوة والضمير، إذ يقاتل في ساحات لا تحمل أسماء واضحة للأعداء. وتتكثف في ملامحه العزلة المادية والروحية، وتبدو نظراته مثقلة بالذاكرة والندم. ويصف الممثل شون بن شخصيته في فيلم “القاتل المأجور” قائلاً: “يظن المرتزق أنه قادر على شراء الخلاص بالرصاصة، لكنه يدرك متأخراً أن كل رصاصة تطلقه تذهب نحو فراغ أكبر”. وتتحول الجملة إلى تلخيصٍ وجودي لمأزق البطل في هذه السينما: المأجور الذي يدفع ثمن أجره.
وتتّسع شخصية المرتزق لتصبح مختبراً للهوية. وتُعيد صياغة سؤال الانتماء في عالمٍ مفرغ من الثوابت. وينتمي المرتزق إلى نفسه، لكنه يخونها في كل عقد جديد. ويظل واقفاً بين الجهة التي تدفع والجهة التي تموت. وتضعه الكاميرا غالباً في مساحات مهجورة، صحراء أو أدغال أو مدن مدمّرة، كأنه جزء من الجغرافيا المنهكة التي يعيشها. وينهض من رماد حرب لم يخترها، ويستمر فيها لأن الانسحاب صار نوعاً من الموت.
ويظهر النموذج الأبرز لهذا البطل في أفلام مثل Blood Diamond حيث يتحدث داني آرتشر، الذي أداه ليوناردو دي كابريو، بمرارة قائلاً: “أقاتل لأعيش يوماً آخر، لا لسبب آخر”. وتكشف الجملة عمق المفارقة بين البقاء والمعنى. ويتحرك البطل في هذه الأفلام بين الغريزة والوعي، بين التورط والندم، بين الرفض والعجز. ويغدو في النهاية صورة إنسانية لما بعد الأيديولوجيا، حيث تُستبدل القيم بالمصالح، وتتحول البطولة إلى حيلة دفاعية ضد العدم.
ويُظهر البطل في سينما المرتزقة حساسية خاصة تجاه العنف، فهو يعي قسوته ويستعمله في الوقت نفسه. وتُمزق هذه المفارقة ضميره الداخلي، فينقلب عن مهمته حين يدرك فداحة العبث. وفي فيلم “دموع الشمس” / Tears of the Sun (2003) للمخرج أنطوان فوكوا، يُدرك الضابط المأجور، الذي أداه بروس ويليس، أن إنقاذ حياة المدنيين أهم من تنفيذ الأوامر، فيقول لأحد جنوده: “هناك خطوط ترسمها الحرب، لكنها لا تُرسم على قلوبنا”. وتتجسد في عبارته محاولة لاستعادة إنسانية تتآكل داخل المهنة المأجورة.
يتفاعل البطل أيضاً مع التحولات الاجتماعية والسياسية التي تشكل خلفية سينما المرتزقة. وتُقدَّم هذه الشخصيات ضمن عالمٍ من الشركات العسكرية الخاصة والأنظمة المنهارة، حيث يُباع الأمن كما تُباع الموارد. وتبرز الأبعاد الاجتماعية في تصوير المرتزق كمنتج للعصر النيوليبرالي، إنسان يعمل في سوق الموت كما يعمل آخرون في سوق المال. وتنزع السينما عنه صورة المجرم التقليدي، لتصوّره ضحية منظومة اقتصادية تحوّل الحرب إلى مشروع ربحي. ويصف الناقد الأمريكي ريتشارد برويدي هذه الظاهرة بقوله: “لم تعد الحرب حدثاً وطنياً، بل استثماراً له عائد”.
وتتحول الأبعاد السياسية إلى فضاء يعري هشاشة الدولة الحديثة. وتُظهر أجزاء فيلم The Expendables، كيف تستعين الأنظمة بمن يعملون في الظل لتنفيذ مهام لا تستطيع تبنيها علناً. وتكشف تلك السينما أنّ العنف لم يعد أداة سيادة وطنية، وإنما سلعة في السوق السوداء للسياسة. وينجذب البطل المأجور إلى تلك المنطقة لأن الدولة نفسها صارت مأجورة في عقودها وتحالفاتها. ومن هذا المنظور يتقاطع الفرد مع المؤسسة في دائرة من التعاقد الأخلاقي المفقود.
وتستكشف سينما المرتزقة أيضاً البعد الاقتصادي بطريقة مكثفة. وتُبرز العلاقة بين المال والدم، بين رأس المال والذخيرة. ويتحرك المرتزق داخل عالمٍ تتساوى فيه القيمة النقدية والقيمة البشرية. ويُعاد تعريف الحرب كاقتصادٍ قائم على الطلب والعرض. وفي فيلم Lord of War / “سيد الحرب” (2005) للمخرج أندرو نيكول، حيث يقول نيكولاس كيج: “يظنون أنني أبيع الموت، وأنا أبيع ما يطلبه الأحياء”. وتنطوي هذه العبارة على مفارقة مؤلمة تكشف جوهر الاقتصاد الحربي الذي تقتاته هذه السينما.
وتُبرز الأبعاد النفسية صورة البطل الممزق بين الذنب والواجب. ويعيش في توتر دائم، يخاف الهدوء أكثر مما يخاف الرصاص. ويُصاب باضطراب الهوية والذاكرة، ويتحول إلى كائن يعيش على الحافة. وفي فيلم Triple Frontier / “مثلث الحدود” (2019) للمخرج جي سي تشاندور، حيث يتحدث أحد المرتزقة قائلاً: “كل حرب نربحها، نخسر أنفسنا فيها”. ويجسد هذا القول مأساة الذات التي تستهلكها مهنة العنف. وتُظهر الكاميرا وجوههم شاحبة، وأعينهم فارغة، وأجسادهم تتحرك بعادةٍ أكثر من قناعة. كأن الحرب ليست ساحة، فهي إدمان كبير وعنيف لا يستطيعون التخلي عنه.
وتتجلى الأبعاد الرمزية في البنية الجمالية لهذه السينما. إذ يُقدَّم المرتزق كرمز للإنسان المعاصر الذي تخلّى عن أبطاله وأساطيره، فاختار القتال من أجل البقاء لا من أجل الحقيقة. ويتحول السلاح إلى استعارة عن الاغتراب، والمال إلى رمز للفراغ الروحي. وتُستبدل البطولة القديمة بالبطولة السلبية، حيث يصبح الإنقاذ فعلاً فردياً لا يرتكز إلى قيمة جماعية. وتذكّر هذه الرمزية بما قاله مارتن شين في Apocalypse Now / “نهاية العالم” (1979) للمخرج فرانسيس فورد كوبولا: “الرعب له وجه، ويجب أن نواجهه”. وتختصر هذه الجملة فلسفة سينما المرتزقة التي تواجه الرعب لا كعدو خارجي، وإنما كجوهر يسكن الإنسان.
تتأسس البنية الجمالية لهذه السينما على فضاء تصويري يتجاوز الواقعية الحربية إلى استعارة فلسفية. وتستخدم الكاميرا الألوان الداكنة، واللقطات المهزوزة، والظلال الممتدة، لتصوير اضطراب النفس والعالم. وتندمج الموسيقى مع صوت الطلقات كأنها دقات قلبٍ مضطرب. ويُستخدم الصمت كمكوّن درامي أكثر من الحوار، لأن المرتزق لا يحتاج إلى الكلام بقدر حاجته إلى النجاة. وتُعاد صياغة الصورة كمجالٍ بينيّ بين الحياة والموت، وبين الإنسان والآلة، بين العاطفة والمصلحة.
وتتسع التحليلات النقدية لسينما المرتزقة لتقرأها كأداة نقد اجتماعي وثقافي. ويرى باحثو علم الاجتماع أن المرتزق يمثل صورة الإنسان ما بعد الصناعي، الذي يعيش تحت منطق السوق العالمي، ويتحوّل إلى سلعة تُشترى وتُباع. ويشير الباحث الفرنسي باتريك أمار في كتابه L’Homme Contrat إلى أن “المرتزق المعاصر ليس منبوذاً من العالم، بل مرآة له”. وتعيد هذه الرؤية النظر في مفهوم البطولة ذاتها، إذ تذوب الحدود بين الخير والشر، بين الضحية والجلاد.
وتتحول سينما المرتزقة في بعدها الجمالي إلى مساحة مقاومة للزيف البصري في سينما الحرب التقليدية. وتُعري خطاب المجد والانتصار، وتقدّم الحرب كفشل أخلاقي شامل. وتُدمج المشاهد الدموية بالتأملات الوجودية، ويُقدَّم العنف كمرآة للفقدان والخسارة لا كاستعراض للقوة. ويعبّر ذلك عن رؤية سينمائية جديدة ترى الإنسان محاصراً بين موتٍ مادي ومواتٍ معنوي.
وتُثير هذه السينما أسئلة حارقة حول المصير الإنساني: من يربح الحرب حين يخسر الإنسان؟ ومن يملك الحق في القتال حين تُشترى الأرواح بعقود؟ وكيف يمكن للبطل أن يحتفظ بإنسانيته في عالمٍ بلا قيم؟ ومن أين يأتي الأمل حين يصبح السلام أقل ربحاً من الحرب؟ وتضع هذه الأسئلة المتفرج أمام مرآة الذات، وتجعل السينما فعلاً للتفكير أكثر من الترفيه.
وتستند سينما المرتزقة في جوهرها إلى معادلة مأساوية: البطل الذي يقاتل بحثاً عن معنى، فيخسر المعنى وهو يقاتل. وتمتزج فيها السياسة بالاقتصاد، والفلسفة بالجماليات، والدم بالرمز. ويتحول المرتزق إلى استعارة للإنسان المعلق بين الرغبة في الحياة والرغبة في النسيان. وتفتح هذه السينما أعين المشاهد على عالمٍ لا يملك أبطالاً من ذهب، وإنما رجالاً يحملون فواتير على أكتافهم.
وأختتم هذه القراءة بفكرة جوهرية تقولها شخصية القديس في فيلم The Mission / “المهمة” (1986) للمخرج البريطاني رولاند جوف، وهو يخاطب الجندي المأجور: “قد تقتل من أجل أجرك، لكن لا يمكنك أن تشتري روحك”. وتكشف العبارة عمق المفارقة التي تتغذى عليها سينما المرتزقة. فهي لا تمجد الحرب ولا تدينها تماماً، وإنما تكشف هشاشة الإنسان حين يتاجر بظله. وتبقى هذه السينما شاهداً على زمنٍ فقد فيه العالم معناه، وصار البطل يبحث عن ذاته في صوت الرصاص، وعن خلاصه في سؤالٍ لا جواب له: هل يمكن شراء البطولة إذا مات الضمير؟
المصدر:
هسبريس