قال الأكاديمي والمفكر العراقي عبد الحسين شعبان إنه لا يوجد سلام حقيقي بدون عدالة، مردفا أن المطالبات ما تزال مستمرة بـ”اعتذار إسبانيا على استعمال الغازات السامة ضد المغرب، واعتذار فرنسا على ما قامت به ضد الجزائر، واعتذار بريطانيا على تقديمها وعد بلفور دون وجه حق ضد الشعب العربي الفلسطيني وما لحقه جراء ذلك من غبن وحرب، بما في ذلك حرب الإبادة الأخيرة في غزة، واعتذار أمريكا على الحصار والحروب اللاحقة ضد العراق التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الناس”.
جاء هذا في إطار لقاء نقاش حول مآلات تجارب العدالة الانتقالية في المغرب وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية، استقبلته مدينة الناظور باللغات العربية والإسبانية والإنجليزية والفرنسية، بحضور متدخلين من القارات الثلاث، ضمن فعاليات الدورة الرابعة عشرة من مهرجان السينما والذاكرة المشتركة.
وذكر شعبان أن التجربة المغربية في الإنصاف والمصالحة كانت جديدة “لأنها انطلقت من قلب النظام، دون انقلاب أو سقوط للحكم، بل كانت مسارا لتوافق إرادة ملكية وحراك سياسي مدني، وتوصل العقل الحقوقي المغربي إلى تجربة سلسلة هادئة اعترافية، مع اعتذار أحيانا وتعويض على التعذيب والاختفاء القسري”.
أما تجربة “أمريكا اللاتينية فقد ساهم لاهوت التحرير والكنيسة في تعزيزها”، في حين كانت تجربة بولندا مدينة لـ”فقه التواصل وليس فقه القطيعة، حيث حدث تواصل من داخل النظام مع أطراف معارضة، بإجراء الانتخابات ودستور جديد…”، بينما انتقلت “التجربة التشيكية من القطيعة إلى التواصلية”، وكانت “تجربة ألمانيا الاتحادية تجربة قطيعة”، في حين كانت “التجربة اليوغسلافية والرومانية تجربتين قاسيتين دمويتين”.
وقدّر شعبان أن “خلاصات هذه التجارب هي أن العدالة الانتقالية ينبغي ألا تكون انتقامية ثأرية، ولا ينبغي أن تميل إلى الكيدية، بل ينبغي أن يكون هدفها التهيئة لحكم القانون، وعدم الإفلات من العقاب، وتسهيل الانتقال الديمقراطي، والتوافق المجتمعي، والبحث عن الحلول السلمية للمشكلات المجتمعية”، مؤكدا أن “الخير العام يتطلب شكلا من أشكال العدل”، وأن المعيار الأساس هو: “سوّر مدينتك بالعدل”.
محمد النشناش، الحقوقي وعضو هيئة الإنصاف والمصالحة، تحدث من جهته عن “العدالة الانتقالية بين الدول”، أو بالأحرى غيابها؛ لأنه “بعد الحرب العالمية أُنشئت منظمات دولية للحفاظ على السلم والتعاون الدولي، وهي مؤسسات أظهرت التجربة أن لها مواقف غير عادلة بين الأطراف، وأن القانون الدولي الإنساني لا يحترم، وتستمر العديد من الحروب التي لا معنى لها ولا مبرر”.
ورأى الحقوقي المغربي أن المحاكم العسكرية المعروفة بـ”محاكمات نورنبيرغ”، إضافة إلى “محاكمة طوكيو”، “كانت محاكمة المنتصر للمغلوب، ولم تكن عادلة”، مضيفا: “لا ينبغي أن ننسى ما جرى في العالم من انتهاكات للشعوب والدول، مثل العبودية، والحروب غير المبرَّرة”، وأن “القانون في العدالة الدولية يطبَّق على خصوم الأقوياء، وكل شيء يعطى للسلطات الكبرى، ومن الأمثلة ما جرى في الريف من استعمال أسلحة ممنوعة دوليا وقانونيا منذ ذلك الوقت قبل مائة سنة، وإلى اليوم تعيش المنطقة أمراضا موروثة بسبب الغازات والأسلحة الكيماوية المحظورة”.
وذكر النشناش أن “للاستعمار مخلفات سلبية؛ يجب أن نتحاور لحلها مع الطرف المحتل وبين الطرف الضحية”، وأنه بين الدول “ينبغي أن نفكر في كيفية حل الأزمات، ويجب التفكير في مؤسسة لذلك، حتى لا تسير الأزمات إلى العنف غير المبرر”.
هذه “العدالة الانتقالية بين الدول” تعني أن “الحوار المدني ضروري لإقامة السلم”، مع تشديده على ضرورة “العمل على زراعة الأمل في شباب العالم كله، فالسلام لن يتحقق بدون إقرار أن هناك أملا في التغيير والحق والعدالة”.
الكولومبية مارغاريتا مارتيلس تحدثت عن تجارب العدالة الانتقالية في الأرجنتين وغواتيمالا وكولومبيا، قائلة إن “أمريكا اللاتينية تعرف الكثير عن العدالة الانتقالية بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتجربة الأرجنتين كانت مهمة جدا وبدأت بنهاية الدكتاتورية العسكرية، وآلاف الأموات والمختفين، وأهم شيء فيها كان كيف نحتفظ بالديمقراطية بعد نهاية الدكتاتورية. ولم تؤثر محاكمات المسؤولين الكبار بشكل كبير، لأن الأرجنتينيين كانوا في حاجة إلى الانتقال إلى الديمقراطية (…) والضحايا كان منهم من لا علاقة لهم بالصراع السياسي والإيديولوجي، وكان الشعور بانتقال هش. والنضال السياسي لم تكن له أسلحة معنوية للدفاع، بعد دكتاتورية سليطة ظلت لأربعين سنة، وتسلحت مجموعات ضدها (…) وشهدت حالات اختفاء أجنة وأطفال صغار وسرقات، جرى البحث عنها بعد ذلك بالحمض النووي، واستضيفت الأمهات والجدات للتعرف على الأبناء والأحفاد، في ظل اهتمام كبير من المجتمع الأرجنتيني”.
أما “حالة غواتيمالا فتشبه حالة كولومبيا في العدالة الانتقالية” بعد “حرب أهلية مديدة في الزمن، حيث خاض النظام في غواتيمالا حربا عرقية (…) وبعد أن أنشأت الأمم المتحدة لجنة لا أسنان لها للنجاح في ولوج السجلات العسكرية حول الضحايا”، قبل أن يتحقق “تعاون الضحية والجلاد، والبحث عن الجثامين في أماكن دفنها (…) وهو ما كان فيه تخفيف للعبء، وتقليل من المعاناة؛ ولو أن الاعتذار والاستماع لا يكفيان، إلا أن المصالحة والتعايش ينهيان الحروب”.
المحامي البولندي المتخصص في حقوق الإنسان ماسييج نويتشي تحدث من جهته عن تجارب الدول الشيوعية السابقة في شرق أوروبا، وذكر أن “التغير البولندي لم يكن خطيا ولا مثاليا”، وأدى إلى “تقوية الديمقراطية العليلة، ولو أن هذا يظهر مدى هشاشة الانتقال الديمقراطي (…) فالانفتاح الديمقراطي تفاوضي في التجربة، لتحقيق الانتقال المبدئي لكن التراكمي”.
وذكر المتحدث أن “الثقة المجتمعية من التحديات المهمة، فنقص الثقة في النخبة السياسية ومؤسسات الدولة من التحديات في العدالة الانتقالية”، مع ضرورة “حماية التعدد والحؤول دون التقاطبات (…) بين الليبراليين واليساريين… والرابحين والخاسرين من الانفتاح الاقتصادي… لأن ذلك لن يؤدي للمصالحة، وكذلك الاستغلال السياسوي للتنافس الحزبي”.
وبناء على تجربة بلده، دعا المحامي إلى “ضرورة موازنة النمو مع الاندماج المجتمعي، لأن الانتقال الصدمي من اقتصاد مخطط إلى اقتصاد السوق جعل بولندا اليوم الاقتصاد العشرين عالميا، لكن لهذا التحول كلفة مجتمعية من بين أوجهها البطالة”، ثم ذكر في معرض حديثه عن دروس “العدالة الانتقالية” أن “الديمقراطية ليست محطة وصول، بل عملا مشتركا مستمرا بصبر ويقظة”.
ومن بين ما عبّر عنه المتدخل أن غياب “تناول العنف الشمولي بالنقاش من قبل السلطات الروسية الرسمية (…) جعله يعود اليوم في شكل الحرب على أوكرانيا”، عقّب عليه المسير الوزير المغربي السابق عبد السلام الصديقي بقوله إن “مسألة الحرب الروسية أعقد من اختصارها في مثل هذا الاستنتاج، وتتطلب نقاشا أوسع لا يتيحه الوقت”.
ميغيل أنخيل رودريغيز ماكاي، وزير الخارجية البيروفي السابق، الذي سحب اعتراف بلده بانفصاليي البوليساريو، تحدث عن “استمرار غياب السلام ما دام هناك إفلات من العقاب”، مستحضرا الحروب الغربية والشرقية في العالم، منذ ألفي سنة وما قبلها، وصولا إلى “الحربين العالميتين” والحروب في كوريا وفيتنام والخليج وأفغانستان والحرب الإسرائيلية؛ ليستنتج أن “السلام طوال آلاف السنين كان هدفا مأمولا، وسعيا لم يتحقق في الواقع”.
ويقدّر المسؤول السابق أن “مشكل السلام يقع عندما نؤدلجه، ونمسح عنه طبيعته ونبله”، رافضا “أدلجة الانتهاكات”، وداعيا إلى “العدالة الانتقالية الرزينة الرصينة، لا تلك التي تنتج الجراح المفتوحة”، ثم ختم قائلا: “عندما دعا الملك محمد السادس في خطابه الأخير إلى حل على أساس الحكم الذاتي دون منتصر ولا مهزوم، فقد قدم مثالا للتوازن والرزانة، ومثل هذا ما نطالب به في أمريكا اللاتينية”.
المصدر:
هسبريس