حذّر مهنيون وأكاديميون في تخصصات علم النفس من تنامي واقع يكشف عن “فوضى صادمة، وغياب تام لإطار قانوني ينظم المهنة ويحمي المواطن من العبث والتلاعب بآلامه النفسية”.
وما زال تخصص علم النفس في المغرب يعيش على وقع “وضع ملتبس ومقلق”؛ مع ما يطفو على سطح المشهد المهني من “قدر كبير من الفوضى والارتباك في غياب أي إطار قانوني ينظم الممارسة ويصون كرامة المواطن ويحميه من الاستغلال”، حسبه ما استقته جريدة هسبريس من مختصين.
ولفت مهنيون، تحدثوا إلى جريدة هسبريس الإلكترونية، إلى ما وصفوها بـ”مفارقة مؤلمة”، حيثُ “المؤهل العلمي مُهمش، بينما المُدعي هو من يتصدر الواجهة”، داقّينَ جرس إنذار من “هذه الفوضى التي تضر بالمهنة وتمس السلامة النفسية للمجتمع المغربي كله، لأن العلاج النفسي “ليس مجالا للتجارب العشوائية” أو “الطاقة الإيجابية”؛ بل تدخل دقيق في أعماق الإنسان، يتطلب تكوينا صارما وأخلاقيات واضحة ومتابعة مهنية حقيقية.
وفي وقت يتزايد خلاله الوعي المجتمعي بأهمية الصحة النفسية، يلاحَظ “انتشار واسع لأشخاص يقدمون أنفسهم كأخصائيين نفسيين دون أي تكوين أكاديمي مؤهل أو إشراف علمي”، يفتحون “مكاتب خاصة” مستقبِلين طالِبي المساعدة النفسية في غياب تام للرقابة والمحاسبة.
فؤاد يعقوبي، أخصائي نفسي اجتماعي رئيس الجمعية المغربية للباحثين والأخصائيين النفسيين الاجتماعيين، قال إن “المشهد يعج، اليوم، بأشخاص يقدمون أنفسهم كأخصائيين نفسيين دون أي تكوين جامعي مؤهل، يفتتحون مكاتب، ويستقبلون المرضى، ويتاجرون في معاناة الناس بلا رقيب”.
ولفت يعقوبي، ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن “غياب المراقبة الرسمية أدى إلى تفشي ممارسات خطيرة؛ منها استغلال الحالات الهشة، خصوصا النساء، أو التلاعب العاطفي بالمستفيدين، أو فرض أسعار خيالية لجلسات لا تستند إلى أية مرجعية علمية أو قانونية”.
وفي هذا الصدد، سجل الأخصائي النفسي الاجتماعي خطورة متزايدة لهذه الانزلاقات، التي “تتخطى حاجز كونها تجاوزات مهنية إلى تشكيل تهديد مباشر للصحة العامة؛ لأنها قد تفضي إلى انتكاسات نفسية أو حتى مآس مأساوية، في غياب أي آلية للمساءلة أو الحماية”.
وتابع المتحدث عينه موضحا: “في غياب إطار قانوني واضح، تضيع هوية التخصص بين الأكاديمي والمهني. الطلبة الذين أمضوا سنوات في التحصيل العلمي يعيشون إحباطا عميقا؛ فيما يستولي على المشهد من لم يفتحوا يوما كتابا أكاديميا”.
واعتبر رئيس الجمعية المغربية للباحثين والأخصائيين النفسيين الاجتماعيين أن “المغرب في حاجة ملحة إلى قانون واضح وصارم يحدد هوية الأخصائي النفسي بجميع فروعه، وينظم شروط التكوين والترخيص والمسؤولية، كما هو معمول به في سائر المهن المنظَمة كالطب والصيدلة والمحاماة”، مردفا: “قانون يُعيد الاعتبار لخريجي الجامعات، ويعيد الثقة للمواطن في مَن يأتمنه على أسراره وآلامه”.
وأثار يعقوبي أن استمرار هذا الفراغ التشريعي “ليس مجرد تقصير إداري، بل خطر حقيقي على الأمن النفسي للمجتمع؛ فالصحة النفسية ركيزة للاستقرار الاجتماعي، وحمايتها تستوجب تدخلا عاجلا من الدولة ومؤسساتها. كل يوم يمر دون تنظيم المهنة هو خطوة إضافية نحو الانفجار النفسي والاجتماعي”.
وبإجمال، خلُص إلى أنه “آنَ الأوان لرفع صوت العقل والعلم، ووضع حد للفوضى التي تعبث بوجدان المغاربة؛ لأن حماية الإنسان نفسيا هي حماية للوطن في عمقه الإنساني، قبل أن تعد قضية قطاعية أو مهنية”.
جرسُ التنبيه ذاته قرَعَتْه هناء مهدي، الأخصائية النفسية الإكلينيكية، قائلة: “اليوم، نعيش فوضى خطيرة في مجال الصحة النفسية؛ تسمياتٌ تتداخل وأدوار تُنتَحل دون سند علمي”.
وأضافت مهدي، في تصريح لجريدة هسبريس، شارحة بأن “الطبيب النفسي له اختصاصه، والأخصائي الإكلينيكي له تكوينه الطويل ومسؤوليته الأخلاقية؛ بينما ‘الكوتش’ ليس معالجا نفسيا بأي حال”.
وشددت الأخصائية النفسية الإكلينيكية على أن الحفاظ على الأمن الصحي للمغاربة يبدأ بحماية المواطن عبر “تقنين المهنة واعتماد تدريب ميداني صارم، ووضع سجل وطني للمختصين، وتشديد العقوبات على المتطفلين”، لافتة إلى أن “الصحة النفسية علم دقيق، وليست مجالا للتجارب أو تجارة تُمارس بآلام الناس”.
وسجلت المختصة ذاتها أن ثمة “خلطا خطيرا بين الطبيب النفسي، والأخصائي النفسي الإكلينيكي، و’الكوتش’؛ ما فتح الباب أمام ادعاءات بلا تكوين علمي وتدخلات قد تُفاقم معاناة المواطنين بدل علاجها”.
وأردفت هناء مهدي بالتفصيل: “الأخصائي النفسي الإكلينيكي ممارس صحي يتلقى تكوينا جامعيا وميدانيا صارما، وهو المخول بتقديم العلاج النفسي العلمي وتشخيص الاضطرابات السلوكية والفكرية، في تكامل مع الطبيب النفسي الذي يعالج الجانب الطبي والدوائي للحالات المعقدة”. في المقابل، “يظل دور الكوتش محدودا في التحفيز وتطوير المهارات، ولا يحق له تشخيص الأمراض النفسية أو التدخل العلاجي”، حسب المتحدثة نفسها، التي زادت بأن “المشكلة تظهر عندما يتجاوز البعض حدود اختصاصهم، فيعرضون الناس لضرر نفسي حقيقي عبر ممارسات غير علمية”.
وختمت الأخصائية النفسية الإكلينيكية بنبرة قوية: “لأن الإنسان أثمَنُ من أن يكون حقلا للتجارب (…) والصحة النفسية ليست فضاء مفتوحا لكل من رغب في “المساعدة”. إنها علم دقيق، وتكوين طويل، ومسؤولية أخلاقية وإنسانية ثقيلة. ونعتبر أي تدخل خارج هذه الضوابط بمثابة اعتداء صامت على الإنسان”.
المصدر:
هسبريس