مبادرات ثقافية عديدة تجد فرصة التعريف بها في معارض الكتاب، حيث يلتقي محبو القراءة، والباحثون عن جديد المؤلفين ومؤلفاتهم، كما تكون هذه المواعيد الثقافية فرصة للتعريف بالتراث الثقافي، وتحقيق التلاقح والاستمرارية بين المعارف والأفكار.
في معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الرابعة والأربعين تحضر مبادرات من قبيل “صيدلية الشعر”، وهي رواق مصمم على شكل متجر، يدخل في حوار مع زائره، ويقترح عليه قصائد ودواوين باللغة العربية، وبلغات العالم، هي مثل دواء يتناسب وما يطلبه الزائر في لحظة زيارته.
مثل هذه المبادرات التي تروم إعادة تأطير الأدب لا بوصفه ترفا وشغفا يخص البعض دون البعض الآخر، بل بوصفه جزءا لا يتجزأ من ضروريات الحياة والتعافي من مطبات “محاولة العيش”، ليست الوحيدة الحاضرة في الموعد، بل اختار ضيف شرف هذه السنة، دولة اليونان، تشجيع القراء على الاطلاع على آداب أدبائه عبر دفاتر مُهداة، بدل أن تحمل شعار الدولة، أو الجهة المانحة، تحمل مقتطفا من شعر أديب من أدبائها، مع تعريف مقتضب به.
لكن لمَ اليونان ضيف شرف بعدما كان المغرب ضيف شرف الدورة الفارطة؟ يجيب رواق آخر بمعرض الكتاب لـ”بيت الحكمة” عبر معروضات مخطوطة، ونصوص، ووثائقي مستمرّ العرض، بأن المقصد هو الوقوف عند “التفاعل الثقافي بين الحضارتين العربية واليونانية في عدة مجالات، كالفلسفة والمنطق والطب والهندسة والحساب”.
ويسلّط المعرض الضوء على “رحلة التبادل الفكري بين الحضارتين العربية واليونانية، من خلال حركة ترجمة العلوم اليونانية إلى العالم العربي، التي احتضنها بيت الحكمة في بغداد برعاية ودعم سخي من خلفاء الدولة العباسية بين القرنين الثامن والعاشر الهجري”.
ومن المخطوطات المعروضة مخطوط يزيد عمره عن الألف عام لمحمد بن الحسن البغدادي الحاتمي، يقارن فيه “أوجه التشابه بين الحكمة الفلسفية في شعر المتنبي وفلسفة أرسطو”، كاشفا “عمق أدب المتنبي واطلاعه على التراث الفلسفي، ولاسيما فلسفة أرسطو”.
هذا التاريخ لم يطوَ، بل يستمر حيا في النقاش الأكاديمي، في تخصصات متعددة من بينها الفلسفة والمنطق والبلاغة، حول حدود التأثير، بين فرَق منها ما ينتصر لواقع التأثر، والتأثير أيضا عبر الإضافة والشرح وإعادة الصياغة والاستدراك، وبين من يشنّع الأثر، أو ينتقص من عمق تأثيره.
ولا تحضر مخطوطات الحراك الفكري المنطلق من بغداد فقط، بل تحضر كثير من المخطوطات المغربية في رواق “جامعة الإمارات العربية المتحدة”، في علم الفلك، مثل شرح منظومة عبد الرحمن الفاسي في الأسطرلاب، ورسالة في كيفية العمل بالصيغة الزرقانية الفلكية الحسابية، لأبي العباس أحمد بن محمد بن عثمان المراكشي، وفي الحساب والهندسة، مثل مخطوط “بغية الطلاب في شرح منية الحساب” لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن غازي العثماني المكناسي الفاسي.
ومن المبادرات التي تشدّ الانتباه أيضا سعي أروقة لعرض الكتب وبيعها إلى استفزاز حب الاكتشاف لدى القارئ عبر عرض كتب “سرية” مغلفة، تقتنى دون معرفة عناوينها، ولا كتّابها، ولا حتى تخصّصاتها، في نوع من “المواعدة العمياء” المستثيرة لحسّ “المغامرة الثقافية”.
وتتعدد اهتمامات مبادرات أروقة ثقافية لشدّ انتباه القراء في معرض لغاته الأساسية هي العربية والإنجليزية والهندية، فبينما تعرض بعضها المخطوطات، وتسعى إلى تقديم مكنوناتها، وتسعى أخرى إلى إعادة تأطير الحاجة إلى الثقافة والآداب، اختار رواق آخر مبادرة مثيرة للاهتمام تطمح إلى دفع ظلم طال مضامين روايات ودواوين وقصص باللغة العربية، جراء تصميمات أغلفتها غير المبتكرة؛ غير المغرية.
مبادرة “أدبنا بروح العصر” تقدم معرضا لحصيلتها الأولية التي أعادت تصميم عشرين كتابا مما يمكن وصفها بـ”الكلاسيكيات العربية المعاصرة”، فضلا عن “الكلاسيكيات” المعهودة، “بما يليق بقيمتها وجمال محتواها”، حتى تستثير اهتمام “قراء جدد، وقراءات من الجيل الجديد”، وفق ما استقته هسبريس.
هذه الكتب المختارة، من بينها الأعمال الشعرية لمحمود درويش وأمل دنقل وعمر الخيام وأبي نواس وبدر شاكر السياب، وخماسية عبد الرحمن منيف “مدن الملح”، والرواية الفلسفية “حي بن يقظان” في صيغة ابن طفيل للقصة، و”رجال في الشمس” لغسان كنفاني، و”الأجنحة المنكسرة” لجبران خليل جبران، و”البخلاء” للجاحظ، و”ألف ليلة وليلة”.
مثل هذه المبادرة ترى أن للصورة سلطة كما للحرف وقدرته على التسمية سلطة، فعبر إعادة تصور “الهوية البصرية للكتب العربية” يغيّر المبادرون “طُرق رؤيتها، وقراءتها، ومشاركتها”؛ فالهدف، وفق “أدبنا بروح العصر”: “ليس مجرد إعادة تصميم أغلفة الكتب، بل إيقاظ حب الأدب العربي في قلب الجيل الجديد”.
المصدر:
هسبريس