تقييم جماعي لوضع العلوم الإنسانية في الجامعة المغربية والبحث العلمي، وتوصيات من أجل “ضخ دينامية جديدة”، يضمه إصدار من أربعة أجزاء، يجمع أعمال وتوصيات “مناظرة العلوم الإنسانية والاجتماعية” التي أشرفت عليها أكاديمية المملكة المغربية، من أجل “التفكير في دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في الحقل العلمي للمجتمع المغربي وفي عالمنا المعاصر، وفي دورها المعرفي وفي السبل الكفيلة بتطويرها، من حيث التكوين والتدريس وتأطير الطلّاب والبحث العلمي وإنتاج المعرفة”، نظرا لدورها في “مواكبة التغيير الذي يحدث على مستوى المجتمع، ولفعاليتها في التنوير المعرفي، ولأهميتها في معرفة ما يجري من تحولات في العالم”.
وخلصت مناظرة العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى أنه لا يمكن ضخ دينامية جديدة في البحث وفي إنتاج المعرفة في الجامعة المغربية دون اعتبار الفاعل الأساسي، وهو “الأستاذ – الباحث”، ودون إعادة تنظيم وتدبير مساره المهني والأكاديمي، وبيان وتدقيق شروط ومعايير الانتقاء وولوج الجامعة ومؤسسات التعليم العالي، ومواكبته في السنوات الأولى لممارسة المهنة، فضلا عن اعتماد ووضع آليات لتقييم إنتاجه العلمي.
وأوصت المناظرة بـ”أن يعاد النظر في مقتضيات الولوج للجامعة للحفاظ على مستوى المواصفات المطلوبة في الأستاذ الجامعي”، نظرا لـ”ضعف التأطير العلمي بسبب ما يلاحظ من نقص عام في الأهلية العلمية والتكوين العلمي، ولمحدودية الإنتاج العلمي لعدد كبير من الأساتذة والطلبة في سلك الدكتوراه، واعتبارا للمستوى المتدني الذي أضحى يعرفه عدد كبير من حاملي الدكتوراه”.
ومن بين المقترحات أن “يمر كل أستاذ اجتاز المباراة والتحق بالجامعة بوضعية الأستاذ المتدرب على امتداد السنة الأولى لاستكمال تكوينه”، إذ يمكن أن يتلقى “تكوينا في البيداغوجيا الجامعية، وكل ما يتعلق بالمهنة، ويتدرب على إلقاء الدروس، كما تدرج في تكوينه ورشات عمل للتمرس على كتابة المقالات العلمية”.
وفي مستوى الدكتوراه أوصت التوصيات بـ”إعادة النظر في مستوى التأطير، نظرا لضعف ومحدودية التكوينات خلال مسارات تكوين الدكتوراه”، مع “اشتراط التعدد اللغوي لضرورة اللغات في البحث العلمي للاطلاع على الإنتاج العلمي والتأليف بغير لغة التدريس”، و”التقييم المنتظم لفعالية مراكز الدكتوراه، مع ضبط تسييرها ورصد وتتبع وتحديد مكامن القوة والخلل في سيرها العام، مثل ارتفاع حالات الهدر الجامعي خلال مسار طلاب الدكتوراه ونسب أيام التأطير، وحضور المحاضرات”.
ونبهت المناظرة إلى أن “حضور هاجس التشغيل في بلورة التكوينات وإن كان أمرا مشروعا فإنه أمام الضعف الملاحظ في صياغة الهندسة البيداغوجية ومضامين التكوين من طرف بعض الفاعلين، في عدد من التكوينات، يؤدي إلى صياغة تكوينات لا تؤهل الطالب لا معرفيا ولا تشغيلا”.
كما لاحظت المناظرة أن “نقص تكوين الطلاب حول مناهج البحث وفي التطبيقات في الدروس، على تنوعها، من تحليل للنصوص بالنسبة للتاريخ، وتدريبات أو خرجات ميدانية بالنسبة لطلاب علم الاجتماع أو الجغرافيا، وعرض الأفلام التي من شأنها أن تنير الطلاب في قضية من القضايا المطروحة في الدروس والمحاضرات”.
ودعت التوصيات إلى التداخل الفعلي بين التخصصات، الذي يتجاوز الحواجز بين بنيات البحث، مع الحكامة، وأن يكون هذا التداخل في مرحلة الدراسات والعليا وقبلها، “كي لا يعاني الطلبة من ضعف التكوين التخصصي، وحتى لا يواجهوا التعقيدات ويواكبوا المستجدات”، ونادت بدمج علم الاجتماع إلى جانب الفلسفة في التعليم الثانوي، حتى يحصل استئناس بأدبياته وأدواته “لدى التلاميذ الراغبين في مواصلة التعليم العالي في هذا التخصص”.
ومن بين التوصيات في العلوم الإنسانية تجديد علوم التربية والتعلمات بإدماج متأن لمستجدات نتائج البحث في علوم الأعصاب، وعلوم أخرى ومستجدات “الذكاء الاصطناعي” و”الإنسانيات الرقمية”؛ حتى تتوفر على “تعددية في الرؤى وتوازن في التحليل والتقدير”.
ومن قضايا البحث التي توجّه التوصيات النظر إليها “اهتمام العلوم الإنسانية والاجتماعية بتوظيف الذكاء الاصطناعي في الإشهار، وتوجيه الناخبين، وتقليب توجهات الرأي العام، وتعويض الإنسان بالإنسان الآلي والأستاذ الافتراضي”.
وسجلت المناظرة ما يطرحه باحثون من اعتماد البحث العلمي على “الجهود الفردية أكثر من اعتماده على سياسة عمومية وعمل مؤسساتي” في ظل “شبه غياب عام للجماعات العلمية”، و”ضعف الاحتضان المؤسسي للجماعات العلمية”، وبالتالي “من الضروري تشجيع الاحتضان بالنسبة إلى الجمعيات العلمية التي أبانت عن مصداقيتها وفعاليتها العلمية لأعضائها، مع ربط الدعم بضرورة إحداث مجلات علمية محكمة ومفهرسة بمعايير دولية عالية، وبهيئة تحرير علمية تكون لأعضائها المكانة العلمية في مجال البحث العلمي”.
وسطرت التوصيات أن “تعقيد مساطر صرف الاستحقاقات المالية داخل الجامعات أصبح عائقا أمام البحث العلمي، ما يدفع الأساتذة الباحثين إلى تفضيل إحداث مؤسسات بحثية خارج الجامعات أو العمل كخبراء لتفادي تضييع الجهد والوقت في البيروقراطية التي تقف عائقا أمام البحث العلمي”، ما تنبغي معه الدعوة إلى “عقد الثقة بين الجامعة والباحث، باعتماد المراقبة المالية البعدية بدل المراقبة القبلية”.
ومن التوصيات “بلورة إستراتيجية وطنية للنهوض بالعلوم الإنسانية والاجتماعية على المستوى الجامعي، ومراكز البحث العلمي متعدد ومترابط التخصصات، مع توفير الموارد المالية على مستوى السلطات المشرفة على قطاع البحث العلمي”، وتسجيل “حاجة إلى خلق هيئة وطنية عليا للبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، في صيغة مجلس وطني، أو مرصد وطني على منوال ما يوجد في فرنسا وفي كندا وبلدان أخرى، بحيث تعنى برصد الحاجيات في ما يخص البحث والتقييم العام لوضع هذه العلوم، وتحديد توجهات تمويل الأبحاث، مع توفرها على موارد مادية تتولى دعم العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتشجيع البحث والنشر فيها وبصددها”.
كما أوصت المناظرة بـ”إنجاز تقييم وطني منتظم حول واقع النشر والتأليف في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية”، و”إحداث بنوك للمعلومات والبينات الخاصة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية”، و”العمل على تبني نتائج الأبحاث الجادة في العلوم الإنسانية والاجتماعية واستحضارها في تصور وبناء السياسات العمومية والمخططات التنموية”.
وأخلاقيا دعا المصدر إلى “وضع آليات حمائية، بالإضافة إلى سن قوانين زجرية صارمة، في حق كل من ارتكب تصرفات لا أخلاقية” في ظل “اهتزاز صورة الجامعة المغربية أخلاقيا بقضايا تتعلق بمعضلات السرقات العلمية والتحرش الجنسي”، كما نادى بضرورة “إعداد ميثاق أخلاقي للجامعة المغربية، يصادق عليه مجلس الجامعة”، و”إحداث هيئة عليا لأخلاقيات البحث العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية في وزارة التعليم العالي، تتكلف بالرصد والتحسيس والتتبع”.
المصدر:
هسبريس