“غير أن الفقر لم يعد، على مستوى المجتمع، موضوعا متروكا للحكم الجزافي، بل صار موضوعا للقياس والتصنيف على المستويين الدولي والوطني، وذلك من خلال الدراسة العلمية لمستوى العيش ولمدى القدرة على تلبية الحاجات الأساسية وغيرها، ويتدخل فيه السلوك الاستهلاكي الذي يختلف من الوسط الحضري إلى الوسط القروي للأسر، وقد يوصف بوصف “الهشاشة” أو بالفقر “المطلق” أو الفقر “النسبي”، إلى غير ذلك، والبلدان تقيس تقدمها الاجتماعي بمدى تحسن حالها بهذه المرجعيات المقدرة تقديرا إحصائيا…” (فتوى المجلس العلمي الأعلى في موضوع الزكاة (2025)).
هَلْ الفقرُ اليومَ هُوَ قِلة النقود أم تضاؤل القدرة على أن نحيا كما نختار؟ وهل يُقاس بخطٍ ماليّ جامد أم بخريطة الإمكانات المهدورة والحقوق المعطّلة؟ ومَنْ الفقير حقًا: من لا يعمل، أم من يعمل بكامل طاقته ويعجز عن بلوغ كفايةٍ كريمة؟ أهو عيب فرد أم نتيجة علاقات قوة تُعيد إنتاج الهشاشة عبر مؤسسات وخوارزميات لا نراها؟ وكيف يتبدّل مع تغيّر المناخ حين تصبح الجغرافيا قدرًا للمخاطرة لا للخيرات؟ وإذا كان العدل مساواةً في الحرية الواقعية لا في النصوص وحدها، فبأي أدوات نعيد توزيع القدرة على الاختيار والكرامة؟
قرأتُ فتوى الزكاة التي أمر أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بوضعها رهن إشارة العموم، فخرجتُ منها بسؤالٍ أوسع من “فقه النّص” إلى “فقه الواقع”: أيُّ فقرٍ تُخاطبه الزكاة اليوم؟ لمستُ في “التقديم” و”التوضيحات الضرورية” وعيًا بأنّ الفقر لم يعد انطباعًا أخلاقيًا أو حكمًا جزافيًا، وإنما صار أفقا للقياس والتصنيف: مطلقًا ونِسبيًا، هشاشةً وتفاوتًا، وأنّ سلوك الاستهلاك وتفاوت الوسط الحضري عن القروي يدخلان في تعريفه بقدر ما يدخل الدخل نفسه. هنا تتجاور لغة المقادير الإحصائية مع لغة المقادير الشرعية: نصابٌ يُحرِّك المال، ومؤشراتٌ تُحرِّك السياسات.
الزكاة والمؤشّرات لٌغَتان لعدالةٍ واحدة: الأولى تنطق بالمقاصد وتحدِّد النصاب ومصارفه، والثانية تُحصي أحوال العيش وتكشف خرائط الحرمان والهشاشة. وحين نُحسن الترجمة بينهما، لا تبقى الأرقام باردة ولا يظلّ الحكم الشرعي معلّقًا في الخطبة، وإنما يصير لكلّ درهم معنى يتمّ توضيحه بالأدلّة: يُوجَّه حيث تتكاثف الحاجة، ويُقاس أثره بتوسيع القدرة الفعلية على التعلّم، والعمل، والسكن، والكرامة. عند هذا الالتقاء تغدو الشفافية والتتبع جزءًا من العبادة: بياناتٌ تُحدّث دوريًا، وأولوياتٌ تُراجع علنًا. عندئذٍ تغدو الزكاةُ نظامَ إنصافٍ مُستدام يضبطُ حركةَ الثروة ومساراتِ التكافل، وتتحوّلُ المؤشّراتُ من مرآةٍ تعكس الواقع إلى بوصلةٍ تسعى إلى تغييره. لغتان نعم؛ لغةُ “القيمة الروحية” ولغةُ “القياس العملي”، غير أنّ المعنى واحد: عدالةٌ مرئية، قابلةٌ للبرهنة والاختبار والممارسة. هكذا يتجاوز الفعلُ الخيريّ نطاقَ الانفعال اللحظيّ إلى سياسةٍ اجتماعيةٍ مُحكَمة، تُحدَّدُ أهدافُها، وتُراقَبُ آثارُها، ويُحاسَبُ القائمون عليها. وبقدر ما تُضبَطُ القيمُ بالمقاييس، تستعيدُ المقاييسِ قيمتَها؛ فتكفّ العدالةُ عن أن تكون شعارًا أخلاقيًّا، وتُصبح خبرةً عموميةً بالإمكان قياسُ آثارها في وجوه الناس ومعاشهم.
بهذا المعنى، لا تصبح الزكاة مجرد صدقةٍ تُطفئ لهيب الحاجة، إنها آلية تُجسِّر المسافة بين “الحاجة المقدَّرة” و”الحقّ المُستَحقّ”؛ إذْ تُذكّرنا بأنّ الفقر ليس نقصانًا في الجيوب فقط، بقدر ما هو نقصان في مجالات الفعل الممكنة، وأنّ محاربته لا تكون بتبديل الكلمات من “فقر” إلى “هشاشة”، وإنما بتبديل خرائط التوزيع: من الإنفاق الموسمي إلى البناء المؤسسي، من إعانة الأفراد إلى إنعاش الفضاءات العامة، من انتقاء الحالات إلى استهداف المناطق والأسباب. وعندما تُصغي السياسة الشرعية إلى العلم الإحصائي، ويستضيء العلم بروح المقاصد، يغدو السؤال العملي واضحًا: كيف نجعل الزكاة تعمل بلغتين معًا: لغة النصاب الذي يزكّي المال، ولغة المؤشرات التي تزكّي العدالة حتى لا يظلّ الفقر رقمًا يُتلى في تقارير باردة، ولا تبقى الزكاة موسمًا يُتلى في الخطب الموسمية، وإنما يصيران معًا هندسةً رحيمة تُوسِّع الممكن وتعيد للكرامة مكانها في الحساب؟
وعلى هذا الأساس يتغيّر سؤال الزكاة من “أين ندفع الزكاة؟” إلى “ماذا نزكّي بها؟”؛ نزكّي بها خيالنا السياسي كي يخرج من منطق المواسم إلى تخطيطٍ يلاحق أسباب الفقر لا أعراضه، ونزكّي بها بياناتنا لتصير خرائط إنصافٍ تستهدف الأشدّ هشاشة لا الأعلى صوتًا، ونزكّي بها مؤسساتنا فتقيسُ النجاح بتوسيع القدرة على التعلم والعمل والسكن لا بعدّ الطرود والإيصالات؛ ونزكّي بها معنى “الكفاية” ليغادر حدَّ النجاة إلى أفق الكرامة الفعلية. هكذا تتحول الزكاة إلى عقد اجتماعي يُعيد توزيع الوقت والفرص والمخاطر، لا المال وحده، مثلما تتحول من حركة إعطاء عمودية إلى هندسة عدلٍ أفقية: تُفتح فيها نوافذ الفعل قبل أبواب المَعُونة، ويقاس الوفاء بالمقاصد بعدما يتقلّص الخوف من الغد وتتّسع ممكنات الحياة.
ليس الفقرُ اليومَ نقصًا في الدخل فحسب، إنه حالةٌ إنسانيةٌ مُركّبة يتداخل فيها الاقتصاديُّ بالرمزيّ، والمرئيُّ بالخفيّ. وحين نصفُ شخصًا بأنّه فقير، لا نُجري جردًا لِما في جيبه من نقودٍ أو في بيته من أشياء، وإنما نقيسُ مساحةَ ما يستطيع فعله وما يُتاح له أن يكونه: قدرتَه على أن يحيا حياةً يراها جديرةً به، وأن يختار، وأن يُسمِع صوتَه. بهذا المعنى يغدو الفقرُ حرمانًا من الإمكان قبل أن يكون حرمانًا من الملكية. صحيح أن المقاربات الكلاسيكية التي تقيس الفقر بحدٍّ ماليّ واحد أفادت في صياغة سياساتٍ بسيطة ومباشرة، لكنها لم تعد تكفي لفهم صور العوز الراهنة. فالفقر اليوم يمتدّ إلى حقّ النفاذ إلى أمان العمل وإلى الاعتراف الاجتماعي الذي يمنح الكرامة؛ ومع اتساع نفوذ الخوارزميات وتدفّق البيانات برزت هشاشةٌ صامتة: قرارات آلية تُتّخذ بعيدًا عن الأفراد وتعيد إنتاج الإقصاء عبر تحيّزات دقيقة لا تُرى. لذلك نحتاج تعريفًا متعدّد الأبعاد يزاوج بين الدخل والقدرة والاعتراف، ويُلزم أنظمة البيانات بالشفافية والمساءلة كي لا تتحوّل التكنولوجيا من أداة تمكين إلى آلةٍ لإدامة الحرمان.
ليس الفقرُ سِمَةً فرديّة ولا نتيجةَ تقصيرٍ شخصي؛ إنّه أساسًا علاقةُ قوّةٍ تُوزَّع فيها الحريّاتُ والفرصُ على نحوٍ غير متكافئ. فالحقوقُ قد تتساوى في النصوص، لكنّ القدرةَ الفعليّة على تحويلها إلى حياةٍ معيشةٍ تتفاوت تفاوتًا صارخًا. ومن ثَمّ، ليست العدالةُ مساواةً في الإعلان عن الحقوق، بقدر ما هي مساواة في القدرة على ممارستها: في الوقت المتاح للتعلّم، وفي الوصول إلى شبكات الثقة والمؤسّسات، وفي الموارد التي تجعل الاختيارات قابلةً للتنفيذ لا مجرّد أفكارٍ نظريّة.
اجتماعيًا، يصنع الفقر عزلة لا تقل قسوة عن الندرة. تتبدّى العزلة في مدارس أقل جودة، وفي خدمات صحة مهترئة، وفي أحياء بعيدة عن النقل العام والحدائق. تنخر هذه العزلة في رأس المال الاجتماعي، وهو مورد خفيّ لا يقل قيمة عن المال. لذلك لا تكفي التحويلات النقدية وحدها لمكافحة الفقر؛ ثمة حاجة إلى بنى عمومية كريمة تعيد وصل الأفراد بالعالم: مكتبات وفضاءات تعلُّمٍ مُستمر، مواصلات لائقة، وإتاحة رقمية ميسّرة تحترم الكرامة بدل أن تحوِّلَ الخدمات إلى مَتاهات إدارية جديدة.
اقتصاديًّا، لم يَعُد الفقر مرادفًا للبطالة؛ فقد يعمل المرءُ بدوامٍ كامل ويبقى فقيرًا لأن الأجر لا يوفّر كفايةً معيشية، أو لأن عمله متقطّع بلا حماية. هكذا تتسرّب الهشاشة إلى معنى الحياة ذاته: يتأجّل تكوينُ الأسرة، يستقرّ القلق، وتتّسع منطقةُ اللايقين. من هنا يتقدّم مفهومُ الأمن الاقتصادي بوصفه حقًّا لا مِنّة: دخلٌ ثابت يمكن التعويل عليه، وأفقٌ توقّعيّ معقول للمستقبل، لا فرصة عابرة تتلاشى عند أول صدمة تضخّمٍ يلتهم الأجور، أو مرضٍ يقطع سبل الرزق؛ فالأمن الاقتصادي يعني قدرةَ الأُسَر على التخطيط بدون فزع، وحمايةَ الفرد من الانزلاق السريع إلى العَوَز، وتوفيرَ شبكاتِ تأمينٍ ودعمٍ تجعل الكرامةَ غير رهينةٍ لمجازفات السوق وتقلباته.
مع تغيّر المناخ يعادُ رسمُ خرائطِ المخاطرة: فالأضعفُ يسكنون أكثرَ المناطق تعرّضًا للفيضانات وموجات الحرّ ونُدرة الموارد، ولديهم أقلُّ قدرةٍ على التكيّف أو الانتقال. يلتقي العدلُ المناخيّ بالعدالةِ الاجتماعيّة في حقيقةٍ بيّنة: أنّ الأقلَّ إسهامًا في الأزمات البيئيّة هم الأكثرُ تَحمّلًا لكلفتها والأثقلُ كاهلًا بتَبِعاتها. ومن ثَمّ، يتعيّن توسيعُ مفهومِ الفقر ليشمل قدرةَ المجتمع على صَوْنِ فئاته وأحيائه الهشّة، وتشييدِ بُنى خضراءَ صامدة، وضمانِ انتقالٍ عادلٍ في منظومتَي الطاقة والعمل يُنصِفُ توزيعَ المنافع والفرص، حتى تُغدِيَ الحمايةُ من المخاطر شُعبةً أصيلةً من حقّ العيش الكريم.
يمكن إذن صوغُ تعريفٍ أمتن للفقر بوصفه حرمانًا مُركّبًا يمسّ ثلاث دوائر متداخلة: الموارد، والقدرات، والاعتراف. ينال الحرمانُ من الحرّيّة الفعليّة من قدرة الإنسان على اختيار سُبُل عيشه، وتُكرِّسُه هياكلُ مؤسّسيّة وثقافيّة ورقميّة تُراكم الهشاشة. لذا ينتقل السؤال من “كم يملك الناس؟” إلى “ما الذي في وُسعهم أن يعملوه؟”؛ أي إلى سَعَة قدرتهم على التعلّم والعمل والسكن، والتنقّل، والتعبير، والمشاركة. وعليه، تقتضي المواجهة نقل البوصلة نحو تمكين القدرات: تعليمٌ مرنٌ ونوعيّ يواكب التحوّلات؛ حمايةٌ للعمل وكرامةٌ للعامل؛ وبناءٌ عموميّ كريم يخفّض كلفة العيش عبر نقلٍ لائق، ومدرسةٍ عادلة، وعيادةٍ قريبة، ومكتبةٍ حيّة؛ مع إشراكٍ حقيقيّ لأصحاب الخبرة في تصميم الحلول وقياس أثرها. عندئذٍ تتحوّل مكافحةُ الفقر من إحسانٍ يسكّن الأعراض إلى هندسةٍ للحرّيّة تُوسّع الممكن وتقلّص الهشاشة، وتغدو الكرامةُ خبرةً معيشةً لا شعارًا على الجدار.
تُسمّي الفتوى الشرعيّة في الزكاة المستحقّين وتضع حدود الاستحقاق، أمّا التمكين فيتحقّق حين تُترجَم تلك التسمية إلى سياساتٍ قابلة للقياس والمساءلة: استهداف يعتمد بياناتٍ تُراجَع دوريًّا، وحوكمةٌ وشفافيّةٌ تُتيح تتبّع كلّ درهم وقياس أثره، ومشاركةٌ مُلزِمة لأصحاب الخبرة الميدانيّة في تحديد الأولويّات وتقويم النتائج؛ عندها تغدو الزكاة آليّة انتقالٍ من التشخيص إلى الإصلاح، ومن العطاء الموسمي إلى بناءٍ مستدام يمكّن الفئات المنصوص عليها شرعًا. على هذا الأساس، تُراكِم الزكاة حقوقًا قابلةً للممارسة تفتح أمام الفقير نوافذ الفعل قبل أبواب المَعُونة. هكذا تتحوّل خريطةُ الحرمان إلى خريطةِ إمكان، ويكتمل معنى الفتوى حين تنطق المقاصدُ بلغة مؤشّراتٍ حيّة ومساراتِ تنفيذٍ واضحة، فيتعرّف المجتمع على نفسه بما يُمكِّن ويُوسِّع من حرية الناس الفعلية على اختيار ممكنات للعيش الكريم.
يقتضي النظر في هذا الخيار: “الفقر بين النصاب والمؤشِّر” وصْلَ بيانِ الشرع بميزان الفكر دون إفراطٍ في تقنية المسألة؛ فالزكاة في أصلها عبادةٌ مالية ومؤسّسةُ عدلٍ تُخرج الحقّ من المال لصوْن الضرورات وتحقيق معنى الكفاية، أمّا المؤشِّر فليس غايةً مستقلّة، وإنما أداةُ ترشيدٍ للاجتهاد في ترتيب الأولويات وتحديد مواضع الحاجة. إنّ ثباتَ النصاب ومصارفِه يمنحان السقفَ القيمي الذي يحُول دون التقلّب، فيما يتيح النظرُ المقاصدي، بما فيه اعتبار لأحوال الناس وتفاوت البيئات، مساحة مرنة تُحوّل العطاء من موسمِ إحسانٍ إلى سعيٍّ راشدٍ لرفع الحرج وتمكين الاستطاعة. والميزان في ذلك كلّه أن تُوزن السياسات بغايات العبادة: تطهيرُ المال، وتزكيةُ النفس، وإقامةُ العدل الاجتماعي؛ وأن يُقاس النجاحُ لا بمقدار ما وُزّع فقط، وإنما بما انكشف من كُربٍ واستُعيد من كرامة، على قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” و”الميسور لا يسقط بالمعسور”. هكذا يلتقي الثابتُ الشرعي والمتغيّرُ العمراني في خدمة مقصدٍ واحد: أن يكون الحقّ أوسعَ من الحاجة، والعدالةُ أسْمى من الشعار.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
المصدر:
هسبريس