اختتمت مساء أمس السبت بمدينة طنجة فعاليات الدورة الاستثنائية للمهرجان الوطني للفيلم، التي امتدت ما بين 17 و25 أكتوبر الجاري، في أجواء احتفالية شكلت بحق عرسا سينمائيا مغربيا بامتياز، جمع تحت سقف واحد ثلاثة أجيال من السينمائيين المغاربة، من منتجين ومخرجين وممثلين، جسّدوا معا روح الاستمرارية والتحول التي تميز المشهد السينمائي الوطني.
استهل حفل الاختتام بالنشيد الوطني ووقفة ترحم مؤثرة على روح الراحل عبد القادر مطاع، أحد رواد الشاشة المغربية، وعلى المبدع محمد الرزين، تقديرا لمسيرتهما الغنية وإسهاماتهما الكبيرة في بناء الذاكرة الفنية المغربية. وكانت لحظة امتنان ووفاء اختزلت علاقة السينمائيين المغاربة بتاريخهم ورموزهم، وأكدت أن الفن السابع في المغرب يقوم على جذور متينة من الإبداع والعطاء.
وُصفت الدورة الحالية بـ”النسخة الاستثنائية”، ليس فقط لغناها البرنامجي وتنوع عروضها، وإنما أيضا لكونها تحولت إلى فضاء تواصلي كبير جمع الأسرة السينمائية المغربية قاطبة. فقد أتاح المهرجان، عبر ندواته وورشاته، نقاشا معمقا حول الكتابة السينمائية الجديدة والمهن المستحدثة في الصناعة السينمائية، في وقت يعيش فيه القطاع دينامية هيكلية تعيد رسم ملامحه التنظيمية، بتعبير رضى بنجلون، العام للمركز السينمائي.
وكانت صفحات هذا المهرجان أشبه بورش مفتوح حول القانون الجديد الذي يُنتظر أن ينظم القطاع السينمائي بالمغرب، وهو قانون يعوّل عليه لتأطير المهن السينمائية وضمان بيئة إنتاجية أكثر مهنية وانفتاحا على التحولات الرقمية والتكنولوجية.
في كلمة ألقاها خلال الحفل الختامي، أكد رضى بنجلون، المدير العام للمركز السينمائي المغربي، أن هذه الدورة كرّست المغرب باعتباره “أرض السينما”، مشيرا إلى أن الحضور المغربي في المحافل الدولية بات أكثر تميزا، حيث سيحلّ المغرب ضيف شرف على مهرجان برلين السينمائي الدولي في 2026 كأحد أكبر أسواق الإنتاج في العالم، ما يشكل اعترافا عالميا بجاذبية الصناعة السينمائية الوطنية.
وبين لحظات التتويج والاحتفاء، بدا واضحا أن المهرجان الوطني للفيلم بطنجة لم يكن مجرد مناسبة لتقييم الحصاد الفني للسنة، بقدر ما كان محطة تأسيسية لتجديد الرؤية وبناء جسور بين الأجيال نحو مستقبل سينمائي مغربي أكثر إشعاعا على المستويين الوطني والدولي.
واختتمت فعاليات الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم بإعلان النتائج الرسمية لمختلف مسابقاته، وهي دورة اتسمت بالمفاجآت وتوزيع غير متوازن للجوائز، أفرحت البعض وأغضبت كثيرين وخرج البعض مستاء على أفلام أخرى لم ينظر إلى ما قدمته من قيمة فنية بعيدا عن النمطية وتحمل في طياتها سينما النخبة وسينما اجتماعية؛ إذ استحوذت أربعة أفلام روائية طويلة على معظم التتويجات، ما يعكس تباين لجان التحكيم في رؤيتها ونظرتها للأفلام وتفاوت مستويات باقي المشاركات.
نال فيلم “البحر البعيد” للمخرج سعيد حميش بن العربي الجائزة الكبرى لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة، إلى جانب جائزة الإخراج، وجائزتي أفضل دور ثانٍ رجالي ونسائي، ليؤكد مكانته كأحد أبرز إنتاجات الدورة بفضل لغته البصرية المميزة ومعالجته الإنسانية للبعد النفسي والاجتماعي في العلاقات البشرية.
يبحر المخرج سعيد حميش بن العربي في فيلمه “البحر البعيد” (2025) في أعماق تجربة الهجرة، مجسدا وجع الغربة وأمل الخلاص عبر قصة الشاب نور الذي يهاجر سرا إلى مارسيليا عام 1990 بحثا عن حياة أفضل. وتتحول الرحلة إلى مواجهة وجودية مع الذات؛ إذ يجد نفسه ممزقا بين وطنين وامرأتين، بين الماضي والاحتمال الجديد.
ولا يقدم الفيلم الهجرة كجريمة أو خلاص، وإنما كقدر إنساني يعيد تعريف الهوية. ومن خلال لغة بصرية شاعرية وألوان الخريف الدافئة، يصنع المخرج فيلما عن الاغتراب والحب والمصالحة مع الذات. ولا يمثل البحر هنا مجرد فاصلة جغرافية، فهو كيان رمزي يسكن القلب قبل الأفق.
اقتسم فيلم “موفيطا” لمعدان الغزواني و”في حب تودا” لنبيل عيوش جائزة لجنة التحكيم الخاصة، في إشارة إلى تنوع الرؤى السينمائية بين الواقعي والتأملي. كما حصد “موفيطا” جائزة العمل الأول وأفضل دور رجالي لعبد النبي البنيوي، في حين تُوجت نسرين الراضي بجائزة أفضل دور نسائي عن أدائها المتميز في “في حب تودا”.
كما فاز الفيلم ذاته بجائزتي الصورة والصوت، ما يؤكد عنايته بالجوانب التقنية والسمعية البصرية.
في فيلمه “موفيطا” (2025)، يقدّم المخرج الغزواني معدان قراءة سينمائية جريئة للثمانينات المغربية، حيث الفقر ليس مجرد خلفية اجتماعية وإنما مصير يومي لأسرة تبحث عن الحد الأدنى من الكرامة. باعتماده أسلوب الواقعية الساخرة، يحوّل المخرج مأساة غياب مرحاض إلى مجاز عن انعدام أبسط شروط العيش، وعن “الطقس السيئ” الذي يهيمن على الحياة أكثر من السماء. وينسج الفيلم سردا حميميا عن أبٍ وأمٍ وطفليهما في مواجهة القهر والمرض والحرمان، بلغة تجمع بين الألم والضحك المر. “موفيطا” عمل عن الإنسان حين يصمد بالفكاهة في وجه البؤس، وعن سينما تعيد اكتشاف القيم المنسية في تفاصيل الحياة الهشة.
في فيلمه “الجميع يحب تودة” (2024) يقدّم نبيل عيوش عملا سينمائيا متكاملا يمزج بين الاجتماعي والإنساني، حيث تتحول تودة، التي تجسدها نسرين الراضي، إلى رمز للمرأة المغربية التي تقاوم القهر بالغناء.
ليست تودة مجرد شيخة، فهي أنثى تواجه مجتمعا يرى في صوتها غواية لا فنا، وفي جسدها عارا لا حرية. ويشتغل الفيلم على مفارقات الهوية والأنوثة والكرامة، فيجعل من العيطة لغة للتمرد ووسيلة للنجاة.
وتتدرج البطلة من الألم إلى التطهر، ومن الخطيئة المفروضة إلى الاعتراف بالذات، بينما تتحول الموسيقى إلى خطاب مقاومة وصوتٍ للنساء اللواتي يغنين كي يبقين على قيد الحياة.
واصل المخرج داود أولاد السيد حضوره القوي في المهرجان بفيلم “المرجا الزرقا”، الذي فاز بجائزتي الإنتاج والسيناريو، إضافة إلى جائزة الموسيقى الأصلية، ليعزز مكانته كأحد أبرز صناع السينما المغربية القادرين على المزاوجة بين البساطة الجمالية والعمق الرمزي.
في فيلمه “المرجة الزرقاء” (2024)، يقدّم المخرج المغربي داود أولاد السيد عملا بصريا شاعريا يوازن بين التأمل الفلسفي والسرد الإنساني العميق. ويروي الفيلم قصة طفل كفيف يعيش في قرية نائية بصحراء أسا الزاك، يمتلك بصيرة تتجاوز حدود البصر؛ إذ تتحول آلة التصوير التي يهديها له جده إلى أداة لرؤية العالم من الداخل. وعبر رحلة بحث عن “المرجة الزرقاء”، يتحول الطريق إلى فضاء للحكمة والاكتشاف، يجمع بين جيلين: الجد الذي يرى بعين التجربة، والطفل الذي يرى بعين الروح. وبأسلوبه الهادئ وصوره المضيئة، يجعل أولاد السيد من العمى طريقا إلى النور، ومن الصحراء مرآة للإنسان الباحث عن معنى الوجود.
منحت لجنة التحكيم تنويها خاصا لفيلم “الوصايا” لسناء عكرود عن جائزة المونطاج، تقديرا لتميزه الفني رغم عدم نيله جوائز رئيسية.
وفي فيلمها الجديد “الوصايا” (2025/105 دقائق)، تقدّم سناء عكرود عملا دراميا مكثفا، يتجاوز الحكي التقليدي ليصبح مرافعة سينمائية جريئة حول قضايا المرأة المغربية، خصوصا في ما يتعلّق بالحضانة والولاية والزواج المبكر. وتدور القصة حول “الضاوية”، امرأة مطلقة تخوض معركة قضائية لاستعادة حضانة ابنتها، وتواجه في الوقت نفسه قانونا ومجتمعا يفرضان “وصاياهما” على النساء.
من خلال مزج التخييل بالسيرة الذاتية، تجعل عكرود من بطلتها مرآة لنساءٍ كثيرات، صوتا يقاوم الصمت والخضوع. وجاءت بنية الفيلم قائمة على “وصايا” متتابعة تمثل محطات في رحلة استعادة الذات، لتغدو الوصايا رموزا للمقاومة والأمل والاعتراف.
في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، فاز “فخورون، معلقون وعنيدون بعض الشيء” لمحمد أكرم نماسي بالجائزة الكبرى، فيما تقاسم فيلم “لن أنساك” وفيلم “ألف يوم ويوم.. الحاج إدموند” جائزة لجنة التحكيم الخاصة، مع تنويه خاص لفيلم “أسرى الانتظار” للبنى اليونسي.
أما في مسابقة الأفلام القصيرة، فحصد فيلم “المينة” لراندا معروفي الجائزة الكبرى، مؤكدة ريادة المخرجة في سينما الصورة والحركة، بينما فاز “مرآة للبيع” لهشام أمال بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، ونال فيلم “شيخة” لأيوب اليوسفي وزهوة الراجي جائزة السيناريو، مع تنويه خاص بـ”عايشة” لسناء العلاوي.
في فيلمها القصير “المينة” (2025) تغوص راندا معروفي في أعماق مدينة جرادة، لتستخرج من باطن الأرض ذاكرة الفحم ووجع العمال. وتنزل الكاميرا إلى الحفر المظلمة كأنها توثّق نبض المكان، حيث يمتزج العرق بالغبار، والحياة بالموت البطيء. ولا تقدم المخرجة وثائقيا باردا، وإنما صورا تنبض بالإنسانية، تضعنا وجها لوجه أمام أجساد أنهكها العمل والنسيان. وتتحول المدينة إلى استعارة للغضب وللصراع بين الحاجة والكرامة، بين العمل والاستغلال. وفيلم “المينة” عمل بصري صادق، يرفض التجميل، ويجعل من الصورة شهادة حية على ما تبقّى من ذاكرة المنجم، ومن صمت الأرض صرخة ضد النسيان.
في فيلمه الوثائقي “لن أنساك” (2025)، يفتح المخرج محمد رضا كزناي جرحا غائبا من الذاكرة المغربية، موثقا مشاركة الكتيبة المغربية في حرب أكتوبر 1973 على الجبهة السورية. يتجاوز الفيلم الطابع التاريخي نحو بعدٍ إنساني عميق، حيث تتحول الشهادات والصور إلى صدى لأصوات جنود عادوا مكسورين أو لم يعودوا أبدا. ويزاوج كزناي بين الأرشيف النادر والسرد الشخصي بلغة بصرية مؤثرة تستحضر التضحية والنسيان في آن واحد. ولا يقدّم الفيلم الحرب كملحمة وإنما كألم متوارٍ خلف الصمت الرسمي، مستعيدا عبر قصة جده وعدا أخلاقيا بعدم النسيان. وفيلم “لن أنساك” هو فعل سينمائي مقاوم، يردّ الاعتبار للذاكرة وللإنسان الذي لم يطالب إلا بالاعتراف.
حاز الفيلم القصير الروائي “مرآة للبيع” بجدارة جائزة النقد وجائزة لجنة التحكيم. في هذا الفيلم (2025)، يقدّم هشام أمال رحلة مكثفة في عالم فنان مكسور، ممثل عاطل يقرر بيع مرآته، رمز ذاته ومسرحه الداخلي. ويتحول البيع إلى فعل مقاومة ضد التهميش، وإلى تأمل مؤلم في معنى الكرامة حين يُحاصر الإبداع بالفقر. ويشتغل المخرج على الضوء والظلال أكثر من الحوار، مانحا الصورة سلطة التعبير عن الصمت والخذلان. وفي ثمانية وعشرين دقيقة، ينجح العمل في تصوير مأزق جيل من المبدعين الذين خذلتهم الحياة، دون أن يخونوا شغفهم. و”مرآة للبيع” فيلم عن الحلم المكسور، لكنه أيضا عن الإنسان الذي يبيع مرآته ليحتفظ بروحه.
نال فيلم “شيخة” جائزة أحسن سيناريو في فئة الأفلام الوثائقية القصيرة، وفيه يوقّع أيوب اليوسفي وزهوة الراجي عملا بصريا وموسيقيا يحتفي بالهوية النسائية والفن الشعبي المغربي. ومن خلال قصة “فاتن”، تلميذة تعشق العيطة وتتمرّد على القيود، يرسم الفيلم ملامح ذاكرة ثقافية تُنقذ المرأة من التهميش بالنغمة والجسد والحركة.
ينتمي “شيخة” إلى ما يمكن تسميته “السينما الاجتماعية الشعرية”، حيث تتحوّل الموسيقى إلى فعل مقاومة والرقص إلى لغة حرية. وهو فيلم عن الصراع بين الصورة النمطية والذات الحقيقية، بين الرقابة والمشاعر، بين الألم والإبداع. بأسلوب بصري حميمي وصوت أنثوي متمرد، يجعل “شيخة” من الفن الشعبي بيانا في الدفاع عن الكرامة والحق في الوجود.
في فئة أفلام المدارس ومعاهد السينما، تُوّج “مبروك سيدي خاي” لأشرف العافية بالجائزة الكبرى، ما يعكس الحيوية التي تعرفها السينما الشابة في المغرب، إلى جانب تنويه لفيلم “الصمت الأخير” وفيلم “مع الريح”.
تؤكد نتائج هذه الدورة أن السينما المغربية تعيش مرحلة غنية بالتجارب المتنوعة، حيث تتقاطع الأسماء المخضرمة مع جيل جديد يفرض حضوره بقوة. وبين مفاجآت النتائج وتعدد الأساليب الفنية، يظهر أن المهرجان الوطني للفيلم لا يزال منصة أساسية لتقييم نبض الإبداع السينمائي بالمغرب، ومرآة تعكس التحولات الثقافية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع المغربي عبر عدسة السينما مع تباينات واضحة في تقييم الأفلام من قبل لجان التحكيم ونظرتها إلى الأفلام المشاركة في المسابقات.
وهكذا أسدل الستار على دورة ستظل راسخة في الذاكرة، دورة جمعت الماضي بالحاضر، وفتحت نوافذ الأمل على غدٍ سينمائي واعد، يليق بمغرب يكتب اسمه في سجل الكبار كأرض للسينما والإبداع.
المصدر:
هسبريس