في خضم النقاشات المجتمعية التي أثارتها موجة احتجاجات الشباب المغربي، والتي تزامنت مع فوز المنتخب الوطني لأقل من عشرين سنة بكأس العالم، يقف المراقب أمام مفارقة محيرة: كيف لجيل واحد، جيل “Z”، أن يجسد في الآن نفسه صوت الاحتجاج الصاخب ضد تنظيم كأس العالم في المغرب، وصوت الفخر والفرح برفع الكأس العالمية باسم الوطن؟ سؤال حاول أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، الدكتور أحمد بوز، تفكيكه من خلال قراءة تحليلية معمقة لواقع هذا الجيل وتناقضاته الظاهرية.
يرى بوز أن جيل” Z ” لا يمكن اختزاله في صورة نمطية واحدة، فهو ليس جيلا منقسما بقدر ما هو جيل متعدد الوجوه، يعيش التحولات المجتمعية الكبرى للمغرب ويعبر عنها بأساليب مختلفة. فمن جهة، هناك فئة ترى في الرياضة وسيلة لإبراز قدرات الشباب المغربي وتأكيد انتمائهم لوطن قادر على التميز والنجاح، كما فعل لاعبو المنتخب الوطني للشباب الذين رفعوا راية المغرب في المحافل العالمية. ومن جهة أخرى، هناك من يرى في مشاريع ضخمة كتنظيم كأس العالم تبذيرا للمال العام، في ظل تحديات يومية يواجهها المواطن المغربي في التعليم، الصحة، والسكن والتشغيل.
بوز يؤكد أن الموقفين لا يعبران عن تناقض حاد، بل يصدران من منطلق وطني نقدي واحد، يطالب بعدالة توزيع الموارد وتحديد الأولويات وفق الحاجات الحقيقية للمجتمع. فرفض التظاهرات الرياضية الكبرى لا يعني رفض الرياضة، بل اعتراض على استخدام هذه التظاهرات كواجهة تزيينية تتغاضى عن معالجة الأزمات البنيوية.
في قراءة أعمق، يعتبر بوز أن الرياضة في السياق المغربي باتت تمثل رمزا للأمل والنجاح، حيث يُكافأ الجهد وتُمنح الفرص بناءً على الكفاءة، وليس على الولاء أو العلاقات. وهو ما يجعل الكثير من الشباب يرون فيها مجالا حقيقيا لإثبات الذات وتحقيق الإنجاز. في المقابل، تعاني الحياة السياسية والاجتماعية من اختلالات مزمنة، تعمق الإحساس بعدم تكافؤ الفرص وسيادة الزبونية والمحسوبية، مما يدفع جزءا من الشباب إلى التمرد والاحتجاج.
ويضيف أن ما يبدو كتناقض بين رافضي تنظيم كأس العالم ومُحرزي الكأس، هو في الحقيقة تعبير عن الرغبة المشتركة في الكرامة، سواء عبر الاحتجاج في الشارع أو التألق في الملاعب. فكلا الموقفين يُعبران عن طموح الشباب المغربي في العيش في وطن يُنصف أبناءه ويوفر لهم سبل النجاح داخل وخارج الميدان.
يفند بوز ما يروجه بعض الأصوات التي تعتبر رفض تنظيم كأس العالم موقفا عدميا أو حتى معاديا للوطن، ويؤكد أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك. فغالبيّة الشباب المنتقدين لا يرفضون المغرب، بل يرفضون السياسات العمومية التي لا تستجيب لانتظاراتهم. إنهم يمارسون “وطنية نقدية” تنطلق من إيمان حقيقي بإمكانات البلد، ولكنها تطالب بتوظيف هذه الإمكانات بشكل عادل ومتوازن.
ويبرز في هذا السياق أن انتصار المنتخب الشاب لم يكن ليتحقق لولا تضافر جهود الرؤية الملكية التي وضعت التعليم والتكوين الرياضي في صلب الاهتمام، من خلال أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، ودعم الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، ما يؤكد أن النجاح ليس محض صدفة، بل نتيجة تخطيط واستثمار. وهو ما يُفترض، حسب بوز، أن يُلهم باقي القطاعات العمومية.
ولأن أغلب لاعبي المنتخب الفائز بكأس العالم للشباب ينتمون إلى أبناء الجالية المغربية بالخارج، فإن بوز يشير إلى أن هذا المعطى لا يجب أن يُساء فهمه. فالانتماء الوطني لا يُقاس بمكان الولادة فقط، بل بالاختيار الطوعي لحمل قميص المنتخب واللعب باسم الوطن. ويؤكد أن هؤلاء الشباب، رغم نشأتهم في بلدان توفر لهم ظروف تكوين أفضل، لا يقلّون وطنية عن نظرائهم داخل المغرب، بل يمثلون استثمارا في الرأس المال البشري المغربي المنتشر عبر العالم.
ينبه أحمد بوز إلى خطورة اختزال الإنجاز الرياضي في مجد لحظي أو تحويله إلى وسيلة لتغطية إخفاقات القطاعات الأخرى. فنجاح الرياضيين الشباب يجب أن يكون نموذجا يُحتذى به في التعليم، الصحة، والإدارة، وأن تصبح قيم الجهد والتكافؤ والانضباط التي صنعت الانتصار في الملاعب، قيما حاكمة في تدبير الشأن العام.
وفي الوقت نفسه، يشدد أستاذ العلوم السياسية على أنه “يجب ألا تُقرأ احتجاجات الشباب على أنها تمرّد سلبي، بل كرسالة سياسية ومجتمعية تُطالب بتعميم منطق النجاح على كل مناحي الحياة، مسجلا أن “الرياضة هنا لا تخفي الواقع، بل تكشفه: تُظهر ما يمكن تحقيقه حين تسود الكفاءة والتخطيط، وتفضح الفشل حين يهيمن التسيير العشوائي والولاءات الضيقة”.
وخلص أحمد بوز إلى أن “جيل Z” ليس جيلا متمردا على وطنه، بل على واقعه. وهو جيل يصرخ بصوتين: الأول يقول “نحن قادرون على النجاح”، والثاني يقول “نحن نطالب بالعدالة”. وإذا استطاعت السياسات العمومية أن تلتقط هذين الصوتين وتجمع بينهما في رؤية واحدة، فإن المغرب سيكون على موعد مع إنجاز أكبر من كل الكؤوس، وهو استعادة الثقة بين الشباب والدولة، وتحويل الطاقة الرياضية إلى طاقة وطنية شاملة نحو التغيير والبناء.