شهد اليوم الرابع من فعاليات المهرجان الوطني للفيلم بطنجة زخما فنيا عميقا، حيث تميز بعروض سينمائية قوية وحوارات نقدية أثارت نقاشات بين المخرجين والجمهور والصحافة. وأبرز اللحظات كانت مع فيلمي “أوتيستو” لجيروم كوهين أوليفار و”طريق السلامة” للمخرجة نوال جويرة اللذين قدما رؤيتين إنسانيتين عميقتين ومختلفتين لقضايا التوحد والهجرة ضمن سرديات سينمائية تأملية وجريئة.
كما شكل هذا اليوم مفترقا حاسما في برمجة المهرجان، بفضل القضايا الحساسة التي أثيرت والجماليات البصرية التي استوقفت الحضور وعمقت من أفق التفاعل بين الأفلام والواقع المغربي الراهن.
يعتبر فيلم “أوتيستو” (2025/103 دقائق) من أقوى الأفلام في المهرجان الوطني للفيلم، فيلم سيخلق ضجة إعلامية كبرى لما يتضمنه من رسائل متعددة. فيلم ينسج حكاية سردية على مقاس مشبع بالبحث والتقصي عن المصابين بالتوحد وما يحمله من شدة في التحمل وفي الصبر والأناة والصمت الحزين والغضب المشفوع، بعدما يتوقف عداد الاحتمال. ويعود المخرج المغربي الفرنسي Jérôme Cohen Olivar بخطوة جريئة — نقدية وجمالية معا — عبر فيلمه Autisto أوتيستو”، الذي يجعل من التجربة الشخصية للمخرج مدخلا إلى سردية مرهفة عن المصابين بالتوحّد، ثم عن العلاقات الإنسانية والعوالم الداخلية التي لا تُرى في تجربة تأملية تتداخل فيها السينما الاجتماعية التي تنهل من العوالم السفلى للمجتمع المغربي وأزماته والسينما الروحية والتأملية التي تنمح الذات فرصة للتوقف والتأمل. كيف ذلك؟
يُعرّف المخرج جيروم كوهن أوليفار الفيلم بأنه «أكثر أفلامه شخصية»، إذ يستحضر تجربة عائلات تواجه التوحد ويتسلّل إلى أعماق الخوف والوحشة والأمل. وتصبح بطلة العمل، مليكة، (لبنى أبيضار) وابنها آدم (أوتيستو) — الطفل المُصاب بتوحد عميق — محور انشغال سينمائي مزدوج: أولا، تصوير يوميات المرض؛ وثانيا، البحث عن إنسانية في العلاقة بين الأم والابن، وبينهما وبين الآخر، محمود بلقاسم، الحارس المقبرة الذي يعاني أيضا، ويجد في اليافع آدم ربما مرآة لمعاناته.
وتنفتح قصة الفيلم على ثنائيات: المجتمع/الفرد، الأم/الابن، الصراخ/الصمت، الموت/الحياة. وإعطاء محمود، حارس المقبرة (إسماعيل قناطر) الذي “يتكلم مع الأموات” كما يُوصَف، مكانا في الحكاية ليس سوى إشراك للغريب داخل الدائرة العائلية واستدعاء لعلاقة تكافلية – آدم الذي لا ينطق ومحمود الذي يسمع ولا يُرى. ويجعل هذا التوازي من الحكاية أكثر من مجرد فيلم عن التوحد؛ إنها قصة هوياتٍ هامشية تبحث عن وجود، قصة رؤيةٍ تُحاول أن تقول إنّ “من لا يتكلم” له أيضا نصيب في الحكاية والحب.
ويُعيد الفيلم طرح سؤال الهوية: من أنا حين لا يُنظر إليّ؟ مليكة تشعر بأنها “أم وحيدة” – مُهمَلة من لدن المجتمع، تشتغل في حانة منذ كانت شابة يافعة على مدار 14 عاما؛ بينما آدم يمثل “الآخر المختلف” الذي لا ينسجم مع النظام الاجتماعي. ويحمل محمود بدوره هويّة مهملة في المقبرة؛ لكن العلاقة بين الثلاثة تُعيد بناء هوية مغايرة: هوية التضامن، وهوية الاعتراف.
وفي هذا الإطار، لا يعيد الفيلم فقط تمثيل التوحد، بل يفتح بابا للتساؤل عن كيف ينظر المجتمع إلى المختلف، وكيف يُحتضن الآخر.
وتختار الكاميرا الألوان الخافتة، والإضاءة بسخاء الظلال، وتبتعد عن التمثيل البشع للمرض، وتتجه نحو “ليالي المدينة” والمقبرة والمكان ذاته كمُعبر عن العزلة والحدود. وينفتح لقاء مليكة بمحمود في المقبرة كمشهد بصري رمزيّ، حيث مكان الموت يصبح فضاء حوار مع الداخل. ويمزج الوضوح في التصوير بين المألوف والبؤرة المختلّة — الطفل لا يتكلم، لكن عيناه تقول كل شيء، والمشهد البصري يدور حول صدى الصمت. والمشهد الذي تقول فيه مليكة: «أنا أخاف أن أموت قبله» (بيان ضمني للفيلم)، يتحول إلى مرآة لكل أم تقف وسط الأزمنة المبتورة.
ومن الناحية الخطابية، يُقدّم الفيلم خطابا صامتا بقدر ما هو صريح: “لن يظل أحد خلفنا” يبدو كهمّ محوري. ولا يُحلّل الفيلم المرض بعامة وإنما ينهار الصمت ويُطلِق صرخة: “قضيتنا يجب أن تُرى”. وفي نقده للمجتمع المغربي ــ والعالم ــ يُعطي مكانا لما يُهمش عادة، ويُطالب بمساحة للإنسانية. والجمالية هنا لا تخدم “الدراما المرضية” بقدر ما تُحوّل الألم إلى صورة، والعزلة إلى تواصل.
ويرمز الطفل آدم للحدود: بين الحياة والموت، بين الكلام والصمت، وبين الحضور والغياب. ومقبرة محمود رمز للموضع النهائي؛ لكنها هنا تتحول إلى نقطة انطلاق للعلاقة. والمدينة، بالأنوار والضوضاء والفراغات، والحانات تصبح مسرحا داخليا للنفس، حيث الشعور بالوحشة والتعلق يجتمعان: موت ممكن، وخوف محتمل، وحياة تُطالب بأن تُعاش. ومليكة في الصمت الذي يلفّ طفلها، تُمثّل كل أم تراقب الزمن يركض من وراءها.
وتقدم لبنى أبيضار بعد غياب طال عقدا من الزمن، لتعود إلى السينما المغربية بقوة وأكثر جرأة في مشاهد حميمية وألفاظ تنهل من خطاب شعبي وثقافة جماهيرية. كما جسد آدم (يوسف بوقرة الزينة) دورا مركبا وصعبا باحترافية كبيرة. كما هو الشأن بالنسبة لصوفيا (ساندية تاج الدين) في أداء مبهر ومؤثر، وهذا يعكس قدرة المخرج على إدارة الممثلين.
وعلى المستوى الجمالي، يعطي الفيلم مثالا على دور السينما الاجتماعيّة بصريا وفنيا — ليس فقط بالتعاطف، وإنما بالإبداع. ومن حيث الأُبعاد النفسية والرمزية، يضع “الآخر” في مركز السرد ويُحوّله إلى بطل داخلي، لا مجرد موضوع. ربما تقنية الإخراج بسيطة، وربما التركيب السردي لا يخلو من فجوات؛ لكن شجاعة المخرج في تجسيد هذا الواقع وقلبه إلى صورة تجعل العمل متماسكا ومؤثّرا. بمقارنة مع الأعمال التي تناولت التوحد، فإن Autisto يملك خصوصيته كبرى: ليس بحثا عِلميّا وإنما تجربة إنسانية بحتة، تُرى وتُسمع عبر الصورة.
ولا يقدم “أوتيستو” فقط فيلما عن التوحد، بقدر ما هو فيلم عن الأمومة، وعن الهامش، وعن الصمت، والغضب والمرارة الداخلية، والآخر، وعن اللقاء غير المتوقع وفي المكان غير المتوقع، وعن كيف تفتح جبهة الجرح الداخلية نافذة للإنسانية — وجه الحياة في مكانٍ لا يبدو فيه إلا الخوف. فإذا أردتم أن “تسمعوا” ما لا يُقال، فهذه هي دعوة لمشاهدة الفيلم دون أحكام مسبقة.
يطرح فيلم «The Lost Princess» ، (2025/94 دقيقة) للمخرج المغربي-الأمريكي هشام حجي سردا مزدوجا بين زمنين: زمن غامض في قلعة مغربية قديمة، وزمن معاصر لأمير ملياردير يُطارد جذوره وانتماءه. وتعمل القلعة هنا ليس كمكان فحسب وإنما كشخصية بحد ذاتها، تسكنها الأشباح والذكريات، وتنبت منها قصة الأميرة نور التي أجبرتها مصائر تاريخية على زواج سياسي، ثم عاشقة غير مرئية، فتُشعل حكاية حبٍّ محظور.
وفي المشهد الذي يقول فيه ألك تواتي: «أفضّل أن أموت على أن أتعفّن في قصر ذهبي»، يبدو التمرد على الهوية المزوّرة واضحا، ويضفي على المكان هالة رمزية: القلعة ليست مجرد بناء حجري، وإنما مرآة للهوية الضائعة، وللتصدع وللصراعات بين استعمار وميراث، بين الانتماء والخسارة. وتلتقط المشاهد في الصحراء القاحلة أو في ممرات القصر المُتهالكة، صورا بصرية لذات تبحث عن صوت. وتنزلق الكاميرا بلطف من شمس المغرب الساطعة إلى ظلال الأنقاض، ومن هدير الأسواق إلى سكون القاعات الخالية، فتُحوّل المكان إلى سجل مصوَّر للنفس.
ويفتح الحوار بين هانا ومومياء الأميرة بعدا سرديا يُعيد ربط الحاضر بالماضي، وعندما تقول هانا: “أمي لم يكن لديها خيار”، تنكشف العلاقة بين الزوجة المُكرهة والخاطب، بين عازف البيانو الأسمر الذي أحبّ والأميرة الهاربة والعاشقة. وهذه العلاقة الحميمية العابرة للمكان، كما العلاقة الحميمية بين العاشقين، تحدد النزاع الداخلي للشخصيات ــ ليس فقط ما بين الحب والسياسة؛ ولكن ما بين الجذور والهوية المغيّبة ولعبة الغواية والأجساد. وتمثّل شخصية هانا الشبيهة جمالا بوالداتها، الحاضر الذي يرث عبور الأمس، وشخصية ألك هو ذلك الغريب الوافد الذي يستعاد عبره تاريخٌ مغيّب.
ومن الناحية الخطابية، يحمّل الفيلم رسالة حول الاستحقاق والحرية: أن تملك اسما أو لقبا ليس كافيا، وأن الهوية تُبنى من الداخل قبل أن تُدوَّن في سجلّ التاريخ. وجماليا، يُبرز المخرج حجي استثمارا ظاهريا في التصوير والفضاء، من سطح القلعة إلى الرمال الصفراء؛ إلا أنّه يفقد أحيانا العمق الدرامي، إذ إنّ إيقاع الحكاية يبدو مضغوطا بينما الشكل يجذب النظر. ومع ذلك، تبقى القيمة في تحويل موقع التصوير إلى سمفونية بصريّة تُعبر عن الثّيمات الكبرى: الانتقام، الحب المحرم، الانتماء، السقوط، والنهضة.
كما يسجل للفيلم تنوع الموسيقى بين الجاز وكانتري موزييك وتحويل أغنية “المسيرة الخضراء” إلى مقاطع موسيقية جميلة صامتة تؤثث المشهد البصري للفيلم وجينيريك نهاية الفيلم بشكل مذهل.
ولا يمثل فيلم “الأميرة المفقودة” فيلما مغربيا عاديا، وإنما تجربة سينمائية مغربية‑عالمية تبحث عن داخل كل إنسان يسعى إلى أن يعرف من هو، وأين ينتمي. ومن خلال القلعة، الحبّ، والميراث، يُعيد هشام حجي ترميم صرح الهوية من جديد، بألوان الضوء وظلال الحجر.
في فيلمها «طريق السلامة» (TARIK SALAMA)(2025/ المدة 21 دقيقة)، تفتتح المخرجة المغربية‑الفرنسية نوال جويرة نافذة على عالم يتوسّط بين الأمل والرعب، بين السر والعلن. وتتّسم الكاميرا بحسٍّ شاعريٍ تتحرّك في ملاحقة عائلة مهاجرة قادمة من بلجيكا نحو المغرب على مثن سيارة. وفي الطريق نلاحق ظل أم مهاجرة من أصل مغربي تلوذ بداخلها خوف من الصمت وانكسار نظرتها.. وبين زوج من أصول جزائرية لديهما طفلان في سن الشباب. ويعتمد الفيلم على حوارات مقلة وعلى لغة الجسد والأنفاس المتقطّعة، فتحوّل الصوت الداخلي إلى موسيقى ظلالية تُعيد بناء المسافة بين الذات والمكان في سينما الطريق من الشمال الغني إلى الجنوب النامي. والمكان هنا ليس خلفية وإنما فاعل: الطريق والاعطاب والحظ… تروي قصة أسرة متشظية تبحث عن «الطريق الآمن» بينما الطريق نفسه يرفض أن يمنحها مخرجا. وتستدعي جويرة في هذا العمل الهوية الممزّقة للأسرة المغاربية، التي تُجبر أحيانا على أن تقود طريقا نحو الحرية، رغم أن اليد التي تحمل المقود ليست دائما منها. وبصريا، يشحذ الفيلم تفاصيل خام: العيون التي تراقب من خلف ستار، ونوافذ السيارة المعطلة التي تطلّ على فجر بارد، ونظرات العيون، فتُصبح النوافذ صوتا واحدا مع صرختها. ومن خلال سرد موجز ومكثّف، تستحضر المخرجة الأبعاد النفسية للذات المنتهكة، لرقص الأمل فوق رماد الخوف، ولحظة الانفجار الصامت التي تسبق الاشتباك مع الواقع. ولا يمثل فيلم “طريق السلامة” مجرد عنوان سينمائي، وإنما دعوة لمسار عائلة مهاجرة لا تبدأ ولا تنتهي، لكنها تفتح الباب أمام أسئلة ماذا تعني عائلة مغاربية في ديار الهجرة؟.
لم يكن اليوم الرابع من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة يوما عاديا وإنما محطة فنية كثيفة بالأحاسيس والأسئلة الوجودية من خلال فيلم “أوتيستو” الذي أطلق صرخة صامتة حول التوحد والأمومة والموت والحياة، وفيلم “طريق السلامة” الذي فتح جرح الهجرة والانتماء ضمن رحلة عائلية محاصرة بالأسى والصمت والطريق. وتجلت قوة السينما المغربية، هنا، في جرأتها على كشف المسكوت عنه وتقديم شخصيات من الهامش الإنساني والهوية المزدوجة. كما كشفت العروض عن نضج بصري وجمالي كبير وأداء تمثيلي مؤثر أعاد إلى الأذهان قدرة الصورة على ملامسة الجوهر وتحويل الألم إلى لغة سينمائية بليغة.