تبدّت بعض ملامج مشروع قانون المالية 2026، حسبما ما نقلته “رويترز” عن وزيرة الاقتصاد والمالية نادية، فتاح العلوي، على هامش مشاركتها في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن، حين ذكرت أن المغرب سيعمل على تعديل ميزانيته المقبلة لإعطاء الأولوية للإنفاق على قطاعي الصحة والتعليم، إضافة إلى “تخصيص موارد إضافية لتقليص الفوارق الجهوية (المجالية)”.
وقالت المسؤولة الحكومية: “ما سمعناه من احتجاجات الشباب هو أنهم يريدون تعليماً وصحة أفضل”، فيما تتجه الأنظار إلى رفع ما تُنفقه الحكومة (أقل من 9% من الناتج المحلي الإجمالي على هذين القطاعين)، مؤكدة أن “السلطات بحاجة إلى تحسين طريقة تواصلها بشأن ما تقوم به فعلياً”.
وأضافت وزيرة المالية أن “هناك هامشاً في الميزانية يسمح بإعادة ترتيب أولويات بعض المشاريع المقبلة”؛ ضاربة مثال “تشغيل المستشفيات المحلية حتى لا يضطر الناس إلى قطع مسافات طويلة للحصول على العلاج”، وزادت: “سنعيد توجيه الإنفاق لتحقيق مكاسب سريعة على المدى القصير، لأن الناس لا يمكنهم الانتظار حتى تكتمل الإصلاحات”، مردفة بأنه “لا يمكن تقديم تفاصيل دقيقة قبل عرض مشروع الميزانية على البرلمان”، وهو ما يتم عادة أواخر شهر أكتوبر.
ويرى خبراء اقتصاديون وماليون، تحدثت إليهم هسبريس، أن “المسألة ليست فقط في النسبة أو حجم الميزانية، بل في كيفية توزيعها، وضمان فعالية الإنفاق، مع فعليّة الحكامة لإيصال الخدمات الاجتماعية إلى المناطق النائية”، مثيرينَ عددا من الرهانات الضاغطة، مع استحضار رهانات استكمال الإصلاحات الماكرو اقتصادية.
وضع محمد عادل إيشو، أستاذ الاقتصاد وعلوم التدبير المالي بالمدرسة العليا للتكنولوجيا بخنيفرة مختص في الاقتصاد القياسي، مشروع قانون المالية لسنة 2026 في سياق سياسي واقتصادي “دقيق”، راصدا أنه “يتقاطع فيه البعد الاجتماعي مع التوجهات الإستراتيجية للدولة الرامية إلى جعل الإنصاف الاجتماعي والمجالي محورَ الرحى في منظومة السياسات العمومية، وتعزيز ثقة المواطن في المؤسسات من خلال إصلاحات واقعية تضع الإنسان في صميم الأولويات الوطنية وتربط التنمية بالعدالة والكرامة”.
وفي حديثه لهسبريس معلقاً عن الموضوع استحضر إيشو “تصاعد المطالب الاجتماعية واحتجاجات شبابية تدعو إلى مزيد من العدالة المجالية والاجتماعية، ما دفع إلى إعلان الحكومة عن جعل قطاعي التعليم والصحة في مقدمة أولويات الإنفاق العمومي ليعكس تحوّلاً في منطق التدبير المالي نحو سياسات أكثر قرباً من انتظارات المواطنين، تركز على الأثر المباشر للمشاريع في تحسين حياتهم اليومية”، وزاد: “مشروع قانون المالية الجديد يسعى إلى اعتبار العدالة الاجتماعية والمجالية ركيزة أساسية للتنمية الشاملة، لا مجرد نتيجة لها، في انسجام مع الرؤية الوطنية التي تؤكد أن التنمية لا تُقاس بالأرقام، بل بما تتركه من أثر ملموس في حياة المواطنين”.
وفي هذا الإطار أضاف المتحدث ذاته أن “توجيه الموارد المالية نحو تعزيز البنيات الصحية والتعليمية المحلية خطوة عملية لترسيخ العدالة الترابية وتقليص الفوارق بين الوسطين الحضري والقروي، مع إيلاء عناية خاصة للمناطق الجبلية والجهات النائية التي تعاني من ضعف في الخدمات الأساسية”.
مقابل المعلن رسمياً يرى المحلل الاقتصادي أن “هذه التوجهات الاجتماعية المحيّنة على ضوء المعطيات الواقعية تمثل تحديات اقتصادية وهيكلية معقدة، من أبرزها ضعف الموسم الفلاحي وتراجع التساقطات المطرية، ما يستدعي مراجعة السياسات القطاعية وفق منطق الاستدامة وتعزيز الأمن الغذائي وحماية الموارد المائية”، واسترسل: “يُنتظر أن يترجم مشروع قانون المالية لسنة 2026 هذه المقاربة عبر دعم الفلاحين الصغار، وتسريع مشاريع تحلية المياه، وتشجيع الفلاحة المستدامة والمقاولات القروية لخلق فرص الشغل وتحسين الدخل في العالم القروي”.
يرى رشيد الساري، محلل اقتصادي ومالي، أن “الأرقام المعلنة حول ارتفاع الميزانيات المخصصة للقطاعات الاجتماعية، وعلى رأسها الصحة والتعليم، تعكس بالفعل جهداً مالياً واضحاً بذله المغرب خلال العقد الأخير، إذ ارتفعت ميزانية الصحة والحماية الاجتماعية من 13 مليار درهم إلى نحو 32 مليار درهم، في حين تضاعفت ميزانية التعليم وقطاع التربية الوطنية تقريباً من 42 مليار درهم سنة 2015 إلى أكثر من 80 مليار درهم حاليا”.
غير أن الساري شدد، ضمن تصريحه لهسبريس، على أن “هذا التطور الكمي في الإنفاق لم ينعكس بعدُ بشكل ملموس على حياة المواطنين”، معتبراً أن “الأرقام وحدها لا تكفي ما لم تُواكبها إصلاحات حقيقية تمس الحكامة والمراقبة وتدبير الموارد”.
وأوضح المحلل ذاته أن “رفع ميزانية الصحة والتعليم في مشروع قانون مالية 2026، رغم أهميته، لن يكون كافياً ما لم يُدمج تطوير العامل البشري والتأهيل الإداري ضمن الأولويات، إلى جانب تبني إجراءات قانونية زجرية لمكافحة الاختلالات وسوء التدبير”، ضاربا المثال بـ”اعتماد إجراءات قانونية زجرية لردع ممارسات المتخلّفين أو المتغيبين من الأطباء أو الأساتذة عن العمل في مؤسسات عمومية أو بمناطق نائية”.
وختم المتحدث ذاته بالتأكيد أن “الإشكال في المغرب ليس في حجم الميزانيات بقدر ما هو في بنية الحكامة وجودة المراقبة”، مضيفاً أن “ما يعانيه قطاعَا الصحة والتعليم هو انعكاس لمشكل بنيوي أعم يشمل مختلف القطاعات العمومية”.
وأجمَع المحللان على أن “ترسيخ ثقافة الحكامة الجيدة والفعالية في تدبير المال العام يظل شرطاً أساسياً لنجاح هذه الإصلاحات، من خلال جعل الميزانية أداة لتحقيق النتائج وليس مجرد وثيقة مالية سنوية؛ ويتطلب ذلك اعتماد آليات دقيقة لتتبع وتقييم البرامج العمومية، خاصة في مجالي التعليم والصحة، وربط التمويل بالمردودية الاجتماعية الحقيقية، انسجاماً مع مقتضيات الدستور وروح القانون التنظيمي للمالية. فالثقة في المؤسسات لا تُبنى إلا من خلال نتائج واقعية يلمسها المواطن في حياته اليومية”.
ومن المنتظر أن يشكل مشروع قانون المالية 2026 “فرصة واختباراً في الآن نفسه” لإرساء توازن جديد بين الطموح الاجتماعي والانضباط المالي، وبناء اقتصاد وطني أكثر عدلاً وتوازناً واندماجا ترابياً.