آخر الأخبار

مثقفون يتذكّرون الراحل بنعيسى.. رجل دولة ورائد الثقافة العابرة للحدود

شارك

منذ ما يقرب نصف قرن، تحقّقت فكرة جمعت محمدا بن عيسى وصديق عمره التشكيلي محمد المليحي مفادها جعل أصيلة موئلا للنقاش والفكر من مختلف أنحاء العالم، وكذلك كان؛ لتنطلق في سنة 2025 الراهنة بعد رحيلهما الدورة 47 من “موسم أصيلة الثقافي” الذي جمع أبرز الأسماء الثقافية والسياسية والاقتصادية والفنية من إفريقيا والعالم العربي وأوروبا وآسيا والأمريكتين طيلة عقود.

وفي تكريم مستمر منذ يومين متم شهر شتنبر الجاري بأصيلة لـ”الأستاذ المؤسس” و”رجل الدولة وأيقونة الثقافة” الذي شغل مناصب وزير الثقافة، وزير الخارجية، نائب برلماني، عمدة، وسفير للمغرب، قال عضو أكاديمية المملكة المغربية، الروائي والأكاديمي مبارك ربيع، في رثاء محمد بن عيسى إن “أصيلة مختلفة بدونه. لكنها دائما به، دالة مشعة كما صنعها. شامخة باذخة كما أرادها. عالمية مستمرة، جذابة كما رقشها ورتب فسيفساءها الفكرية الفنية الرائعة”.

ومع استحضار مبارك ربيع عوائق عرفها الموسم وواجهته رغم كونه ثقافيا، حتى من الساحة الثقافية المغربية، ذكر أنه عرف مؤسّسه “مقداما، مسلحا بالصبر والسكينة، في اجتياز ما يعترض الطريق من صعاب”، مردفا: “لقد أبان محمد بن عيسى عن فكر استراتيجي، يخطط للأمد البعيد، وعلى عمق إنساني مجتمعي وبيئي، مجدا في تيسير وسائل وأجواء العمل، وهو ما تمثل في اختيار الموضوعات والأعلام (…) ضمن منظور التعدد والتجدد (…) أبان الفقيد عن خبرة عملية وحدس صادق في اكتشاف المعادن البشرية النفيسة”.

عبد الله السيد ولد أباه، أكاديمي وروائي موريتاني، تحدث بدوره عن “جرح دائم تركه رحيل محمد بن عيسى، الذي كنت أقضي معه في السنوات الماضية شهر الموسم كاملا”. ثم شهد على جانب مستتر في حياته: “كان يرى الموت في غير جزع، ولم يتحدث عنه يوما بألم وحسرة حتى عندما يتعلق الأمر بأقرب الناس إليه، وقد فقد الكثير منهم في السنوات الأخيرة. لقد كان يستحضر من غابوا ويعتبرهم لا يزالون موجودين، ويعتبر الذاكرة تستقدمهم للواقع، وهي علاقة فيها جانب من الفن والإبداع الجمالي”.

ثم استرسل قائلا: “بقدر ما كان مثقفا كبيرا ودبلوماسيا ناجحا كان له إحساس فني. والفن نمط حياة، وطريقة في العيش، وأسلوب جمالي تعوّد عليه وعوّد نفسه عليه طيلة حياته، وكثير من الأشياء في الحياة كانت تمر بهذا الميزان الفني، ومن بينها علاقته بالموت، وكان يرى استمرار الحياة في قوالب أخرى (…) وكان في صحبته جانب كبير من الإمتاع والفائدة.

وكان مثله الأعلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحقد على أحد، ولم يقابل الإساءة بالإساءة، وعاش بحكمة إسلامية كبرى، ولم يكن في قلبه أي مكان للحقد وكراهية الناس، بل كان قلبه يسع الجميع ويحب الجميع، ومن لم يكن صديقا له كان يعطيه فرصة (…) وكان نادرا، قوي الشخصية والشكيمة، ويحمل في نفس الوقت قلبا إنسانيا، وجمع بين السياسة والفن في بوتقة واحدة”.

أما الكاتب الصحافي سليمان جودة، فأكّد أنه “ما دامت أصيلة قائمة، فسيتم الحديث عن محمد بن عيسى بصيغة المضارع؛ فهي فكرة أكثر من مدينة والفكرة لا تموت”، مضيفا: “هو بطل المسافات الثقافية الطويلة، لاستمرار الموسم عبر العقود، وموضوعاته التي تعرض لها عاما بعد عام ولا موضوع في المغرب والعالم العربي والإسلامي والعالم لم يقاربه”، قبل أن يختم كلمته بالقول: “لقد حول الثقافة من طعام النخبة إلى غذاء لآحاد وبسطاء الناس في أصيلة وغيرها”.

السفير السابق المكي كوان تحدث عن بن عيسى و”رباطة جأشه الدبلوماسية؛ فقد كان دبلوماسيا صلبا ومتعقلا رزينا، كما تشهد على ذلك أزمة جزيرة ليلى. وقد زار الجزائر 11 مرة حفاظا على القنوات المفتوحة واليد الممدودة”، كما كان له في وزارة الخارجية “نفس جديد إصلاحي للوزارة، وكوّن جيلا جديدا من الدبلوماسيين الشباب، بإدماج البعدين الثقافي والاقتصادي في قلب الفعل الدبلوماسي، ومن أفضاله إدخال سفيرات للمغرب (…) وكانت له علاقات واسعة حافظ عليها طوال مسيرته الحافلة، وكان يحظى بمكانة متميزة لدى العواصم الإفريقية والعربية والخليجية، لفهمه العميق وحرصه على توازن المنطقة”.

رشيد الإدريسي القيطوني، السفير السابق الأمين العام السابق للبرلمان المغربي، وصف الراحل بكونه “رجل تحدّ بامتياز، حتى مماته (…) وقد كانت أصيلة فيما قبل بنايات وخيمات لا نعرفها، فجاء بن عيسى هو ومحمد المليحي وأرادا النهوض بهذه المدينة (…) وأرادا إعطاءها ما هي عليه اليوم”، فترشحا للانتخابات المحلية، وأسّسا المنتدى، وها هي اليوم “مدينة معروفة في العالم الإنساني، واستقبلت نخبا سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية من كل القارات”.

وواصل: “أكاديميته كانت أصيلة، التي يجمع فيها الناس من مشارق الأرض ومغاربها، وهذا مما طرح عند تأسيس أكاديمية المملكة وجرى نقاش من سيكونون أعضاءها. وكانت أصيلة مختبرا، ولما كنتُ متياسرا لم نكن نثق في الحكومة والدولة كدولة، فكان يؤلف بيننا، ولما كنت أمينا عاما للبرلمان عرفت أن له عينا تتابع (…) وتلتقط من لهم ميزة خاصة”.

وحتى لحظات عيشه الأخيرة كانت له نقاشات حول الوضعية السياسية و”أننا نظرنا للحدود مع أوروبا كثيرا، وعلينا النظر” أيضا في الحدود الأطلسية البحرية مع أمريكا، والحدود التي تحقّق استمرارية المغرب في قارته الإفريقية أيضا.

أما الكاتب الصحافي ياد أبو شقرا، فتحدث عن بن عيسى بوصفه “الرجل الظاهرة، الذي رأى العالم بأسره فضاء للحق والخير والجمال”، وزاد: “هو نقيض ما نراه اليوم؛ فقد كان يجيد التفهم، وينأى عن اللغو، ويبني الجسور، ويؤمن بالحوار ولا يقاطع ولا يعزل، ويعرف كيف لا يكره ولا يدفع الآخرين إلى كرهه، ويعرف كيف يحبّ وكيف يحَبّ”.

محمد سلماوي، رئيس مجلس إدارة “المصري اليوم”، شهد على ما عرفه في بن عيسى من “تعدد القدرات، والثقافة الرفيعة، والتمكن من اللغات الأجنبية واستيعاب للتراث العربي العريق”، مستدركا: “لكنه لم يكن رجل ثقافة فقط، بل دبلوماسيا رفيعا وسياسيا محنكا، دمث الخلق، محبا للناس وخدمة الإنسانية”.

وبعد “صداقة أربعة عقود”، عاد إلى أولى زياراته لـ”موسم أصيلة” في سنواته الأولى و”العالم العربي يعاني من الخلافات وشبه الاقتتال في بعض أقطاره”، حيث جعل الموعد “ملجأ للحوار والتفاهم ومقارعة الحجة بالحجة، وصنع برلمانا متكاملا، تطرح فيه كل الأفكار بلا صِدام ولا خلاف، ونجح في استقطاب أناس من مختلف الأقطار، قد لا يستطيعون التزاور فيما بين أقطارهم، لكنهم كانوا يلتقون هنا في وئام تحت لواء الحوار ومشاركة الأفكار”.

وسعى المتدخل إلى قراءة تركيب شخصية محمد بن عيسى الذي فارق مسقط رأسه أصيلة مبكرا إلى مصر وهو ابن السادسة عشرة “وابتعاده عن المغرب في هذه السن المبكرة وحده ساهم في ارتباطه الوثيق ببلده الذي اقتلع منه مبكرا”، ثم “شكل معيشه في مصر جانبا آخر من شخصيته وأفكاره حيث جاءها أواسط القرن العشرين في ظل المد الثوري القومي، وكان اللواء المرفوع هو القومية العربية والوحدة العربية، فانفتح مع انتمائه الوطني المغربي على الفكر القومي العربي، فتوسّعت اهتماماته السياسية لتشمل الوطن العربي كله، والإيمان بالمصير المشترك لجميع دول المنطقة”، كما أثر فيه “انتقاله للدراسة بالولايات المتحدة الأمريكية حيث انفتح على العالم، ودرس في جامعة مينيسوتا، وأحب مدينة نيويورك (…) فانضاف فهم العالم الغربي إلى شخصيته، وساعده في عمله الدبلوماسي والسياسي، وكان من أقدر الدبلوماسيين في العالم العربي على التواصل مع العالم الغربي وإقناع المتحدث الأجنبي الذي يفهم طريقة تفكيره ونوعية الخطاب الذي يمكن توجيهه له”.

هذا الرصيد “عندما صار وزيرا لم يستخدمه في خدمة السياسة”، وفق الشاهد، بل “نبعت براعة السياسية وإنجازه كرجل سياسة متميز بسبب انتمائه الثقافي ورؤيته الثقافية التي تشكلت من خلال العناصر المذكورة، وانعكست على رؤيته للمنتدى وما ينبغي أن يكون عليه”، وهنا “قدم لأصيلة (…) تاريخا حديثا ثقافيا وفنيا، المدينة التي ظل منتميا ووفيا لها، رغم تنوع مواقعه التنفيذية، وعمله في نيويورك في بعثة المغرب في الولايات المتحدة، ودول إفريقية، وسفيرا لبلاده بواشنطن (…) وهذا يعكس رؤيته وخلقه والديمومة التي نتطلع إليها جميعا في استمرار فكر ورؤية محمد بن عيسى”.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا