قال عثمان الهرموشي، الأستاذ الجامعي بكلية الطب والصيدلة بالرباط، إن إصلاح قطاع الصحة في المغرب يشكل ورشا استراتيجيا كبيرا يستند إلى رؤية ملكية استباقية، ويهدف إلى إرساء منظومة صحية عادلة وناجعة تضع المواطن في صلب أولوياتها.
وأوضح الهرموشي، في تصريح لجريدة “العمق المغربي”، أن التوجيهات الملكية السامية منحت لقطاع الصحة مكانة مركزية ضمن المشروع المجتمعي المغربي، حيث أصبح جزءا من ورش تعميم الحماية الاجتماعية، مشيرا إلى أن التأمين الإجباري عن المرض بات من ركائز العدالة الاجتماعية المنشودة، في ظل إرادة ملكية واضحة لإصلاح المنظومة الصحية بشكل جذري.
وأشار المتحدث إلى أن الحكومة الحالية تعاملت مع هذا الورش برؤية جديدة تزاوج بين الإصلاح القانوني، والتأهيل المالي، والبناء المؤسساتي، وهو ما تجسد من خلال المصادقة على القانون الإطار 06-22، الذي يمثل خارطة الطريق الحقيقية لبناء المنظومة الصحية الجديدة، مضيفا أن هذا النص مكن من إطلاق عملية هيكلة غير مسبوقة شملت مختلف مستويات النظام الصحي.
وأضاف أن من أبرز مخرجات هذا المسار الإصلاحي إحداث مؤسسات استراتيجية مثل الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية، والوكالة المغربية للدم ومشتقاته، والمجموعات الصحية الترابية، بالإضافة إلى الهيئة العليا للصحة، مؤكدا أن هذه الهيئات بدأت بالفعل مزاولة مهامها الميدانية، ومنها تنظيم الجولات الجهوية، وعقد المجالس الإدارية، ووضع السياسات الوطنية الخاصة بالدم والدواء.
من جهة أخرى، سجل الهرموشي أن الحكومة خصصت ميزانية غير مسبوقة بلغت 33 مليار درهم للقطاع الصحي، بزيادة فاقت 60 في المئة مقارنة بسنة 2020، وهو ما مكّن من إطلاق ورش وطني لإعادة تأهيل نصف المراكز الصحية، وتسريع وتيرة بناء المستشفيات الجامعية لضمان تغطية جميع جهات المملكة، إضافة إلى تحسين وضعية الموارد البشرية من خلال الرفع من الأجور في إطار حوار اجتماعي مسؤول مع مهنيي الصحة.
وفيما يخص التحديات التي تواجه القطاع، أشار الأستاذ الجامعي إلى أن ما تعانيه المستشفيات العمومية اليوم هو نتيجة تراكمات بنيوية عمرها سنوات، مشددا على أن الأمر لا يتعلق بأزمة آنية بل بإرث معقد يشمل تشتت المسارات العلاجية، ضعف التكامل بين مستويات الرعاية، تأخر صيانة المعدات الطبية، ضعف الحوكمة، وخصاص حاد في الموارد البشرية، إلى جانب بطء في رقمنة الخدمات.
وفي هذا السياق، اعتبر الهرموشي أن الحكامة هي التحدي الأكبر في هذه المرحلة، مشيرا إلى أنها مسؤولية مشتركة بين الحكومة ومهنيي القطاع والمواطنين، وأن تفعيل مبادئ الشفافية، والمسؤولية، والتتبع الميداني، من شأنه أن يحوّل هذا الورش إلى نموذج يحتذى به في المنطقة.
وتوقف المتحدث عند الاحتجاجات التي شهدها الشارع المغربي، معتبرا أنها ليست رفضا للإصلاح، بل تعبير مشروع عن معاناة واقعية مرتبطة بصعوبة الولوج إلى العلاج، وطول الانتظار، وضعف جودة الاستقبال. واعتبر أن صوت الشارع يجب أن يُفهم كعنصر مكمل للمسار الإصلاحي، وكدعوة إلى تسريع وتيرة الإنجاز، وضمان أثر ملموس يشعر به المواطن في حياته اليومية.
وأضاف أن ما وقع في مدينة أكادير مؤخرا دليل واضح على إلحاحية هذا الورش، وضرورة تنظيم مسالك العلاج، وتوسيع الأقطاب الصحية الجهوية، والانفتاح على جميع مكونات المنظومة الصحية، بما فيها الأطباء العامون، والممرضون، والأساتذة الباحثون، والقابلات، والإداريون، مؤكدا أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تعبئة شاملة لهذه الطاقات ضمن رؤية متكاملة.
كما شدد الهرموشي على أهمية تفعيل دور الهيئة العليا للصحة، ليس فقط في ما يخص التأمين الإجباري عن المرض، بل كذلك في مراقبة جودة وسلامة الخدمات الطبية، من خلال اعتماد المستشفيات والمراكز الصحية وفق معايير دقيقة تشمل النظافة، سلامة الأدوية، جودة الممارسات الجراحية، وتدبير الاستعجالات.
واعتبر أن هذه الخطوات تهدف إلى ضمان ولوج متكافئ للعلاج، دون تمييز بين القطاع العام والخاص، ومنح المواطن الثقة في أن كرامته محفوظة داخل أي مؤسسة صحية، بغض النظر عن موقعها أو طبيعتها القانونية.
وخلص الهرموشي إلى أن رهان إصلاح الصحة ليس مستحيلا، بل هو ممكن وواقعي، خصوصا وأن المغرب برهن في أكثر من محطة على قدرته على مواجهة التحديات الكبرى، مشددا على أن هذا الورش يتجاوز ولاية حكومية واحدة، ويتطلب استمرارية في الرؤية، وتعبئة وطنية صادقة،